مجلة الرسالة/العدد 378/في الاجتماع اللغوي
مجلة الرسالة/العدد 378/في الاجتماع اللغوي
تطور اللغة وارتقاؤها
أثر العوامل الأدبية المقصودة: الرسم
للدكتور علي عبد الواحد وافي
مدرس الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
تشمل هذه الطائفة من العوامل جميع ما يبذله الأفراد والهيئات من جهود مقصودة في سبيل حفظ اللغة وتعليمها، وتوسيع نطاقها، وتكملة نقصها، وتهذيبها من نواحي المفردات والقواعد والأساليب، وتدوين آثارها، واستخدامها في الترجمة والتأليف الأدبي والعلمي. . . وهلم جرا
وتمتاز هذه الطائفة من العوامل عن الطوائف الثلاث التي تكلمنا عنها في المقالات السابقة بأنها أمور مقصودة، تسيرها الإرادة الإنسانية؛ على حين أن الطوائف السابقة تتمثل مظاهرها في أمور غير مقصودة تحدث من تلقاء نفسها، وتبدو آثارها في صورة جبرية لا اختيار للإنسان فيها ولا يد له على وقفها أو تغيير ما تؤدي إليه، وتمتاز عنها كذلك بأن هدفها الأصلي هو لغة الكتابة، بينما تتجه آثار الطوائف السابقة بشكل مباشر إلى لغات المحادثة.
ولهذه الطائفة مظاهر كثيرة من أهمها: الرسم، والتجديد في اللغة، والبحوث اللغوية، وحركة التأليف والترجمة، ووسائل تعليم اللغة. وسنعرض في هذا المقال لبعض نواحي الرسم، مرجئين التكلم عن نواحيه الأخرى وعن بقية العوامل الأدبية إلى المقالات التالية.
لم يتح الرسم إلا لعدد قليل من اللغات الإنسانية، أما معظمها فقد اعتمدت حياته على مجرد التناقل الشفوي، فالشرط الأساسي في حياة اللغة هو التكلم بها لا رسمها، فكثيراً ما تعيش اللغة بدون أن يكون لها سند تحريري، ولكن من المستحيل أن تنشأ لغة أو تبقى بدون أن يكون لها مظهر صوتي. ويصدق هذا حتى على اللغات الصناعية نفسها كالإسبرنتو وما إليها، فمن المتعذر أن تتاح الحياة للغة من هذا النوع ما لم تتناولها الألسنة وتصبح أداة للكلام، ولذلك كان أول ما يتجه إليه المفكرون في هذا النوع من اللغات هو وضع أصواته وأسلوب نطقه والبحث في وسائل انتشار التحدث به.
وعلى الرغم من ذلك، فللرسم في حياة اللغة ونهضتها آثار تجل عن الحصر. فبفضله تضبط اللغة، وتدون آثارها، ويسجل ما يصل إليه الذهن الإنساني، وتنتشر المعارف، وتنتقل الحقائق في الزمان والمكان. وهو قوام اللغات الفصحى أو لغات الكتابة ودعامة بقائها. وبفضله كذلك أمكننا الوقوف على كثير من اللغات الميتة كالسنسكريتية، والمصرية القديمة، والإغريقية، واللاتينية، والقوطية؛ فلولا ما وصلنا من الآثار المكتوبة بهذه اللغات ما عرفنا منها شيئاً ولضاعت منا مراحل كثيرة من مراحل التطور اللغوي.
وترجع أساليب الرسم التي استخدمت في مختلف اللغات إلى أسلوبين اثنين:
(أحدهما) أسلوب الرسم المعنوي , وهو الذي يضع لكل معنى صورة خطية خاصة وقد استخدم هذا الأسلوب في لغات كثيرة، منها الصينية والمصرية القديمة ولا نعلم على وجه اليقين أول أمة استخدمته ولكن يظهر من شواهد كثيرة أنه أقدم أساليب الرسم الإنساني.
وترجع الصور الخطية التي تستخدم في هذا الأسلوب إلى نوعين، فأحياناً تكون صوراً حقيقية للأشياء التي يراد التعبير عنها، أو لأجزاء من هذه الأشياء؛ كما يشير الرسم الهيروغليفي إلى الشمس بدائرة في وسطها نقطة، وإلى القمر بقوس في وسطه نتوء، وإلى الزنبق بثلاثة فروع من شجرته في طرف كل منها ثلاث زنبقات، وإلى الصقر بصورته واقفاً. . . وهلم جرا. وأحياناً تكون مجرد رموز مصطلح عليها للتعبير عن الأشياء والمعاني كما يشير الرسم الهيروغليفي إلى الشهر بصورة هلال في وسطه نجمة، وإلى اليوم بدائرة في وسطها نقطة؛ وكما يشير الرسم الصيني لمعنى الإنسانية بخطين يتكون منهما شكل يشبه رقم 8.
ولهذا الأسلوب من الرسم عيوب كثيرة. فهو أسلوب بطيء يقتضي للكاتب إسرافاً كبيراً في الوقت والجهود. ولكثرة صوره ورموزه تبعاً لكثرة المعاني والأشياء، يقتضي تعلمه وتعليمه جهوداً شاقة وزمناً طويلاً. ولذلك يقضي كثير من الصينيين زهرة شبابهم في المدارس بدون أن يتموا تعلم الرسم الصيني، وهو لا يقوى على تأدية وظيفته إلا في صورة ناقصة مبتورة؛ إذ من المستحيل، مهما كثرت صوره وتعددت رموزه، أن ينتظم جميع ما يخطر بالذهن الإنساني من معان وأفكار وجميع ما ينطق به اللسان من ألفاظ وعبارات. هذا إلى أنه بمقتضاه لا يوجد للمعنى الواحد أكثر من صورة واحدة، مع أنه في معظم اللغات الإنسانية كثيراً ما يوجد للمعنى الواحد عدة ألفاظ مترادفة. فاستخدامه في حالات كهذه يوقع في اللبس ويؤدي إلى الاضطراب.
(وثانيهما) أسلوب الرسم الصوتي , الذي يضع لكل صوت صورة خاصة. وقد استخدم هذا الأسلوب من الرسم في كثير من اللغات القديمة، ويستخدم الآن في معظم الشعوب المتمدينة.
وترجع الصور الخطية التي استخدمت في هذا الرسم إلى طائفتين: إحداهما الصور المقطعية وهي التي ترمز إلى مقاطع كاملة كما يرمز في الهيروغليفي بشكل الشفتين إلى مقطع را والأخرى الصور الهجائية وهي التي ترمز إلى أصوات ساكنة، كما يرمز في الرسم العربي بهذا الحرف (ل) إلى صوت اللام مجرداً من جميع الحركات.
ويظهر أن قدماء المصريين كانوا أول من استخدم هذا الأسلوب بنوعيه (المقطعي والهجائي) منذ أكثر من ثلاثين قرناً قبل الميلاد. فمن بين صور الخط الهيروغليفي ما يرمز إلى مقاطع صوتية (صورة الشفتين مثلاً التي تعبر عن مقطع (را)) بل من بينها ما يرمز إلى مجرد أصوات ساكنة (صورة الشفتين مثلاً التي أصبحت ترمز فيما بعد إلى صوت الراء غير المتبوع بأي حركة، كما هو شأن الراء في الحروف الهجائية العربية). غير أن قدماء المصريين لم يستخدموا هذا الأسلوب وحده، بل مزجوه بالأسلوب الأول. فالرسم الهيروغليفي خليط من الرسم الصوتي والرسم المعنوي؛ يستخدم بجانب الصور المقطعية والهجائية صوراً حقيقية ورمزية.
ومن الراجح أن الفينيقيين هم أول من استخدم الأسلوب الهجائي وحده. وقد اضطرهم إلى ذلك نشاطهم التجاري وكثرة تنقلهم وتعدد علاقاتهم بمختلف الشعوب. فقد كانت هذه الشئون تقتضيهم في جميع أعمالهم السرعة في الحركة، والاقتصاد في المجهود، وتحري وجوه الدقة. والأسلوب الهجائي هو أسرع أساليب الرسم، وأيسرها وأدناها إلى الكمال. وليس من شك في أنهم حاكوا في أسلوبهم هذا ما كان يشتمل عليه الخط الهيروغليفي من صور هجائية. على أنه قد ثبت أنهم أخذوا أخذاً عن هذا الخط نحو ثلاثة عشر حرفاً من حروفهم.
وقد انتشرت حروف الهجاء الفينيقية في معظم أنحاء العالم القديم واستخدمها كثير من شعوبه؛ ومنها تفرعت بشكل مباشر أو غير مباشر جميع حروف الهجاء التي استخدمت فيما بعد في مختلف اللغات الإنسانية.
فمن الحروف الفينيقية اشتقت الحروف العبرية القديمة، ومن هذه اشتق الرسم العبري الحديث (الحروف العبرية المربعة ' الذي استخدم بعد رجوع بني إسرائيل من نفي بابل، وظل مستخدماً إلى الآن بدون أن يناله تغيير ذو بال.
ومن الحروف الفينيقية اشتق كذلك نوعان من الرسم قريبا الشبه بالعبرية الحديثة (الحروف العبرية المربعة): أحدهما الخط التدمري (أو البالميريني والآخر الخط النبطي ومن التدمري اشتقت الحروف السريانية التي أخذت منها الخطوط المغولية والمنشورية. ومن الخط النبطي والخط السرياني اشتقت حروف الهجاء العربية.
ومن الرسم الفينيقي أخذ كذلك الرسم الآرامي، بل إن الرسم الآرامي في أقدم أشكاله لا يكاد يختلف عن الرسم الفينيقي. وعن الآرامية أخذت الحروف الهندية الباكتريانية - التي كانت مستخدمة في شمال الهند؛ ومن هذه الحروف اشتقت جميع الحروف المستخدمة الآن في مختلف لغات الهند وسيام وكمبدج (بالهند الصينية) وماليزيا
ومن الحروف الفينيقية اشتق كذلك الرسم الإغريقي؛ ومن الرسم الإغريقي أخذت الحروف اللاتينية، ومن الرسمين اللاتيني والإغريقي تفرعت جميع أنواع الرسم المستخدمة في مختلف اللغات الأوربية في العصر الحاضر.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون