مجلة الرسالة/العدد 378/أخلاق القرآن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

3 - أخلاق القرآن الوفاء بالعهد للدكتور عبد الوهاب عزام الوفاء بالعهد خُلق يقتضيه الإنصاف والصدق، وتوجبه المروءة وكرم النفس، وتحتمه الرجولة والنبل. ما أصغر وما أذل وما أخس النفس التي تتخذ عهدها وسيلة إلى التغرير بمن تعاهده، وتجعل يمينها سبيلاً إلى أن تفجئه وهو آمن مطمئن. الغادر كاذب حانث خادع، قد جعل كلامه وعهده حبالة لمآربه، حبالة واهية ذليلة كحبالة العنكبوت يصيد بها الذباب، ودبّ من وراء الأمن إلى خصمه كما تدب الثعالب والذئاب. أين هذا من الإنسانية في أخلاقها العالية، والرجولة في سجاياها الحرة؟ وأين هذا من أخلاق القرآن كتاب الإنسانية الكاملة؟ القرآن الكريم يأمر بالوفاء بالعهد، ويؤكد الأمر به، ويعظم شأنه، ويكبر الموفين، وينهى عن الغدر، ويشتد في النهي عنه، ويقبحه، ويلعن الغادرين. ومن يتدبّر آيات القرآن يجد العهد فيها ضربين: العهد العام، والعهد الخاص؛ فأما العهد العام فهو أداء الواجب الذي يقتضيه عمل الإنسان، فمن تولى عملاً فقد عاهد أن يبقى به على الوجه الأكمل. فإذا لم يفعل فقد خالف العهد، ومن آمن بدين فقد عاهد أن يأتمر بأوامره وينتهي بنواهيه فإن لم يفعل فقد نقض العهد. ومن دخل في جماعة فقد عاهدها على أن ينفعها ولا يضرها، فإن ضرّها أو قصّر في نفعها فقد غدر. ومن تصدى للدفاع عن أرض أو جماعة أو عقيدة فقد عاهد ألا يألو جهداً في الدفاع. فإن نكص فقد خان. ومن أوتي علماً أو عرف حقاً فكأنه عاهد أن يبينه للناس ليهتدوا به، فإن كتمه فقد خاس بعهده. وهكذا. نقرأ في الكتاب الكريم: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتُبينُنّه للناس ولا تكتمونه، فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون) (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه. قال أأقررتم وأخذتم على ذلك أصري؟ قالوا أقررنا. قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين.) (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم. وأخذنا منكم ميثاقاً غليظاً. ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذاباً أليماً.) فهذه مواثيق عامة تضمنتها رسالة الأنبياء وعلم الذين أوتوا الكتاب، كأن النبوة عهد على الوفاء بما تقتضيه الرسالة من الدعوة والإصلاح والنصب واحتمال الأذى والصبر وكأنها عهد على أن ينصر النبيون الحق وينصروا من جاء به. وكذلك العلم الذي حمل أهل الكتاب أمانته. هو عهد عليهم أن يعلّموه للناس ويظهروه غير مبالين ما ينفعهم وما يضرهم في إظهاره، وكذلك كل من عرف حقاً وهُدي إلى معرفة، وكل من ولى ولاية للناس، وكل من وكل إليه عمل، كل هؤلاء كأنهم عاهدوا الله والناس على أن يُعرّفوا الناس ما عرفوا وأن يؤدوا أعمالهم على الوجه الأحسن. ومن ذلك قول القرآن الكريم في وقعة الأحزاب: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً. ليجزي الله الصادقين بصدقهم.) فهذا العهد هو ما ألتزمه المسلمون حين قبلوا الإسلام من القيام بفروضه ونصرته والدفاع عنه والاستماتة في تأييده. والقسم الثاني من العهد الخامس: معاهدة رجلين أو فريقين على أن يسالم بعضهم بعضاً وأن يجتنبوا الضر فيما بينهم، أو تحالف فريقين على أن يتعاونوا على عمل، وهكذا؛ وهذه العهود شائعة بين الناس منذ اجتمعوا واحتاج بعضهم إلى بعض وخشي بعضهم بعضا وقد حث القرآن على الوفاء بالعهد كله وبالغ في الأمر به. يقول في سورة الأنعام: (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى. وبعهد الله أوفوا. ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون). وفي سورة الإسراء: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً). وفي سورة النحل: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي. يعظكم لعلكم تذكرون. وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً. إن الله يعلم ما تفعلون. ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به، ولَيُبَيّننّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون. ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً، إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعملون). يأمر الله سبحانه في هذه الآيات الجامعة بالعدل والإحسان وصلة الأرحام، وينهى عن الفحشاء وكل منكر، وعن البغي على الناس. وهذا أمر بكل خير ونهي عن كل شر. ثم يخص الوفاء بالعهد فيأمر به ويسميه عهد الله، وكل عهد بين اثنين يسمى عهد الله، لأن الله رقيب على أعمال الناس، وقد أمرهم بأن يصدقوا ويحسنوا ويفوا بالعهود، ولأن العهد قسم بالله وشهادة لله على الوفاء. وأكد الأمر بقوله: ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً. فالإنسان حين يعاهد يشهد الله على عهده ويجعل الله كفيلاً عليه بالوفاء، فكيف تنقض صفقة تكفّل بها الله؟ إن الإنسان ليتخذ كفيلاً من وجهاء الناس فيحرص على الوفاء بعهده إكراماً لهذا الكفيل وحياء منه، فكيف بمن جعل كفيله الله؟ ثم نهاهم أن تكون أمورهم لعباً وعبثاً، يبذلون وعودهم وعهودهم وأيمانهم ثم ينقضونها، كالمرأة الحمقاء التي غزلت ثم نقضت غزلها؛ ذلك عبث وصغار لا ترضى به النفوس الكريمة الكبيرة الحرة. نهاهم أن يفعلوا ذلك وأن يتخذوا أيمانهم غشاً وفساداً إذا لاح لهم نفع في نقض العهد، إذا وجدوا أن جماعة عاهدوها هي أقل عدداً وقوة من جماعة لم يعاهدوها، فهم يريدون أن ينقضوا عهد الضعيف ليرضوا القوي أو يحالفوه. وهذا معنى قوله: (أن تكون أمة هي أربى من أمة). ثم قال: (ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً). يعني: لا يحملكم على نقض العهد نفع تنالونه من وراء نقضه، فإن كل ما تنالون بنقض العهود هو ثمن قليل في جانب هذا الأمر العظيم. وكل ربح تتوهمونه في ذلك خسران كبير. وقد أثنى القرآن كثيراً على الموفين بالعهد، قال في وصف المؤمنين المفلحين: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون). وقال في وصف الخيرين البررة: (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا). وقال: (إنما يتذكر أولوا الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق). وقال: (بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين). هذه إشادة القرآن بالموفين بالعهد، وثناؤه عليهم بكل خير تعظيماً لهذا الأمر العظيم. وأما الذين لا يوفون بعهودهم فقد ذمهم القرآن وشنع عليهم فقال: (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون). وقال في موضع آخر: (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار). وقال في جماعة من أهل الكتاب نقضوا العهد: (فيما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية). واستمع إلى هذه الآية الهائلة التي تبين غضب الله على من ينقض العهد ابتغاء منفعة: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.) وقد أخرج القرآن ناقضي العهود من الإنسانية وجعلهم من الدواب بل جعلهم شر الدواب في قوله: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون، الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون). ألا ترى أنه جعل الذين كفروا شر الدواب ثم وصفهم وصفاً يلائم هذه الحال فأخبر أنهم لا يثبتون على عهد كلما عاهدوا نقضوا عهدهم. كما قال في آية أخرى: (أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم؟) راعى القرآن العهود وأعظم شأنها حتى أوجب الدية في قتل غير المسلم من قوم معاهدين، ولم يوجبها في قتل المسلم من قوم غير معاهدين. تلكم شرعة الإسلام في رعاية العهود، وهي التي سار عليها المسلمون في سلمهم وحربهم فكانوا أوفى ذمة وأثبت عهداً. . . تنطق بذلك سيرهم منذ جاءهم الإسلام حتى اليوم. كان للعهد عندهم حرمة لا تمتهن، في السراء والضراء، والشدة والرخاء. كان العهد الذي يعطيه أقل رجل من المسلمين ولو عبداً - نافذاً على المسلمين جميعاً لا يقبل تأويلاً ولا تبديلاً. إن حفظ العهود ليلقى الأمن والطمأنينة في نفوس الأفراد والأمم ويقيم أمور الناس على شريعة من المودة والإنصاف والتعاون. وإن العالم ليزلزل اليوم بما استخف بالعهود واتخذها وسيلة إلى المطامع؛ فلم يركن الناس إلى معاهدة، ولم يأمنوا الغدر والمفاجأة، فصاروا في ريبة وحيرة، وزال ما كان يثبت الأمم من مواثيق تؤمن بها وتركن إليها وتسير في تدبيرها عليها. صار الوعد لا يدل على الوفاء، والعهد لا يؤمن من الغدر، فاضطرب الناس فهم في أمر مريج. وقد حدثنا القرآن عن بلاد أهلكت وأخبرنا أن مما أهلكوا به استخفافهم بالعهد فقال: (أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون. تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل، كذلك نطبع على قلوب الكافرين. وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين). . . صدق الله العظيم عبد الوهاب عزام