مجلة الرسالة/العدد 375/رسالة الفن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 375/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 09 - 1940



في الفن والتربية

مدرس الرسم

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

لي صديق زرته، فرأيت أبنه يرسم باذنجانة؛ فسألته لماذا يرسمها فقال لي:

- أستعد لامتحان الملحق

- وهل وقعت في الرسم؟

- نعم.

- وحده؟

- وحده.

- مسكين. على أي حال الرسم هين، وتستطيع المثابرة الخفيفة أن تتقنه بالقدر المطلوب منك

- إني أرسم كل يوم مائة باذنجانة، ومائة قلة، ومائة طربوش، ومائة صندوق مفتوح، ومائة صندوق مقفل؛ ومع هذا فإن أبي لم يرض عن رسم واحد مما أرسم، فاصنع في أنت معروفاً، وقل لي كيف أرسم وكيف أتقن الرسم

- ألم يقل لك معلمك الذي كان يعلمك الرسم في المدرسة كيف ترسم؟

- قال كثيراً، ولا زلت أحفظ ما قال حتى إني لأضمن النجاح في الرسم لو أنهم امتحنوني فيه امتحانا شفويا.

- اسمعني ما قال معلمك. . .

- قال يا سيدي: إن الشكل إما أن يكون في مستوى النظر وإما أن يكون فوق مستوى النظر وإما أن يكون تحت مستوى النظر، فإذا كان في مستوى النظر رسمناه مستقيماً، وإذا كان فوق مستوى النظر جعلنا جزءه الأسفل هو القاعدة واتجهنا بخطوطه بعد ذلك إلى نقطة تقع فوق هذه القاعدة وتلتقي فيها هذه الخطوط، وإذا كان الشكل تحت مستوى النظر جعلنا جزءه الأعلى قاعدته واتجهنا بخطوطه بعد ذلك إلى نقطة تقع أسفل هذه القاعد وتلتقي فيها هذه الخطوط. . .

أرأيت الآن أني أحفظ الرسم عن ظهر قلب. . . وليس هذا فقط. . . وإنما قال لنا أيضاً: إن الضوء إذا كان آتياً من اليمين فإن الظل يكون في الشمال، وإنه إذا كان آتياً من الشمال فإن الظل يكون في اليمين. . . فماذا تريد أكثر من ذلك. . .

- لاشيء. . . وإن معلمك لم يقصر، وكان عليك أن تطبق في رسمك هذه القواعد فتنجح. . .

- صدقني أني أطبقها، ولكني لا أدري لماذا لم أنجح في الرسم. . . لقد كرهته حتى لم أعد أطيق دروسه.

- لماذا؟

- أليس في الدنيا شيء نرسمه غير الباذنجان والطربوش والقلة والصندوق المفتوح والصندوق المقفل. . . كل هذه أشياء ثقيلة الظل مثل صاحبها.

- ومن صاحبها؟

- الأفندي الذي يعلمنا الرسم. يدخل الفصل ومعه المنظور ويضعه أمامنا، ويقول: هو الآن فوق مستوى النظر أو تحت مستوى النظر، والضوء آت من اليمين أو الشمال، فارسموه ثم يبدأ يطوف بنا ليصحح لنا الأشكال السابقة، ويلقي نظرة على الشكل الجديد، وليس عنده غير الضوء والظل ومستوى النظر. . .

- وماذا كنت تريد منه أكثر من ذلك؟

- أنا؟. . . لا ادري، ولكن ابن خالي يقص لي قصصاً لذيذة عن معلم الرسم الذي يعلمهم، يقول لي إنه رجل خفيف العقل، وإنه يضحكهم كثيراً، وإنه يخرج لهم من جيبه لعباً غريبة؛ ويقول لهم: انظروا إليها قليلاً. ثم يقول لهم: أغمضوا أعينكم قليلاً وارسموها بأصابعكم في الهواء وأنتم مغمضون، ثم يقول لهم: افتحوا أعينكم وارسموها بالأقلام على الورق. وقد أصبح ابن خالي الآن يستطيع أن يرسم رسماً حسناً أحسده عليه.

- ولماذا لا تتبع أنت هذه الطريقة. . .

- إنني لم أر هذه اللعب!

- ليست هذه اللعب ضرورية، فأنت تستطيع أن تستبدل بها أي شيء. . . وتستطيع أن تبدأ منذ الآن. . . أنظر إلى هذه الشجرة قليلاً. . . ثم أغمض عينيك. . . أرسمها في الهواء بإصبعك. . . هذا حسن. . . والآن ارسمها على الورق بالقلم. . . عال، عال. . . تكاد تكون هي، أما كان يصح أن تقتبس هذه الطريقة من تلقاء نفسك. . .

- كنت أظنها لا تنفع إلا في اللعب. . .

- لا. . . إنها تنفع في كل شيء، وهي وحدها مفتاح الرسم. . . وانطلق الولد مسروراً لأنه اهتدى إلى مفتاح الرسم، وبقي أبوه معي وقال لي:

- أنا أيضاً كنت ارسب في الرسم لما كنت تلميذاً.

- وأنا أيضاً.

- ولنا وللولد العذر، فالرسم موهبة من الله ولا يصح أن نطالب به كل إنسان، ولست أدري لماذا تصر وزارة المعارف على أن تجعله مادة إجبارية. . .

- صحيح إن الرسم موهبة، ولكن ليس معنى هذا أن تغفل وزارة المعارف تعليمه تلاميذها، وإنما الواجب أن تعلمهم إياه، فالموهوب منهم تنكشف بالتعليم موهبته وتنصقل، وغيره يتمكن بالإرشاد والممارسة من الإقبال عليه في غير كراهية ولا تذمر، وليس هناك شك في أن الرسم يربي الذوق البصري، وليس هناك شك في أن كل مبصر محتاج إلى تربية هذا الذوق في عينيه إن لم يكن للرسم فللملاحظة والإدراك، وتمييز الأشياء، وإدراك المنظورات. . . هذا هو الذي يحمل وزارة المعارف في الدنيا كلها على الاهتمام بالرسم والعناية به. وكل ما في الأمر أننا هنا لا نزال في حاجة إلى معلم الرسم الصحيح، كما أننا لا نزال في حاجة إلى المعلمين الحقيقيين في غير الرسم. . . وقد يؤلمني أن أقول لك إن قليلين جداً من المعلمين هم المولعون بما يعلمون، وإن اكثر المعلمين في مصر يؤدون عملهم على أنه عمل يرتزقون منه لا أكثر ولا أقل. . . وإلا فقل لي كم من معلمي الأدب في مصر أدباء، وكم من معلمي الجغرافيا في مصر غادروا القطر أو المدن التي يعملون فيها، وكم من معلمي الكيمياء في مصر انشغل بتركيب أو تحليل خارج المدرسة، وكم من معلمي الرسم في مصر لهم عمل يعرفه الجمهور أو لا يعرفه. . .

- إن لمعلمي الرسم اتحاداً، وقد قام اتحادهم معرضاً زاره وزير المعارف منذ شهور وأثنى عليه. . .

- لم يكن في هذا المعرض إلا أشكال بعضها تحت النظر وبعضها فوق النظر وبعضها في مستواه. ولم يكن المقصود من هذا المعرض إلا أن يلتفت وزير المعارف إلى معلمي الرسم فيرعاهم قليلاً لأنهم في الحقيقة مغبونون ومظلومون أكثر من غيرهم من المعلمين.

- إذن فقد أعجبتك طريقة المعلم الخفيف العقل

- من غير شك، لأنها التدريب الطبيعي للتصور، والتصور هو أول ما يتطلبه الرسم.

- ولكني لا أزال أطمع في أن يرتقي تعليم الرسم عندنا إلى أكثر من هذا، حتى نرى من تلاميذنا اهتماماً بالجمال وإدراكه له كما نرى ذلك في أبناء غيرنا من الأمم.

- أنا لا أشك في أن الاهتمام بالجمال موجود عندنا كما أنه موجود عند كل الناس، ولكن شعبنا لا يزال ينطلق إلى الجمال في مطارحة الطبيعة كلما حن إليه. . . والذي ينقصنا حقاً هو التفكير في اختزان صور من الجمال نفزع إليها كلما اشتقنا لها. . . وقد يكون السبب في امتناعنا عن هذا هو فقرنا وعدم ظهور الفنان المصري الذي يخلد في صورة من الصور منظراً يشتاق المصريون إلى النظر فيه باستمرار. . . وأنا لا أزال اجهل هذا المنظر. . .

- لا أظنه منظراً واحداً هو الذي يجذب المصريين، فكل منظر يصح أن يجذبهم.

- ولم لا؟ ولكني أظنهم لا يزالون في حاجة إلى من يلفتهم إلا مواطن الحسن في المناظر الطبيعية وفي المناظر المرسومة. . . وهذا من عمل معلم الرسم، وهو لا يستطيع أن يؤديه إلا إذا كان فناناً حساساً يتذوق هو نفسه الجمال، ويستطيع هو نفسه أن يعبر عنه، وهذا المعلم هو الذي يجب على وزارة المعارف أن تبحث عنه أو أن تكونه. . . وأظنها قد بدأت تبحث عنه كما أنها قد بدأت تكونه. . . فقد بدأت تأخذ معلمي الرسم لمدارسها من خريجي مدرسة الفنون الجميلة العليا بعد أن تعلمهم أصول التربية في معهد التربية. . .

- وهل تحسن الظن أنت بمدرسة الفنون الجميلة العليا وبمعهد التربية؟

- المدرسة والمعهد فيما أرى يتبعان أضمن الطرق لتخرج الفنانين والمعلمين، غير أنهما يسمحان لكثيرين من غير الفنانين والمعلمين والموهوبين بالانخراط في سلكهما، ويظهر أنهما لا يستطيعان أن يفعلا غير ذلك، لأنهما لو دققا التدقيق المطلوب في الاختيار، فانهما قد لا يقبلان في العام الواحد أكثر من طالب أو طالبين، وعندئذ تواجه البلاد أزمة فنانين ومعلمين لا قبل لها بها. . .

- قد يكون التساهل معقولاً في قبول المعلمين غير الموهوبين لأن البلاد في حاجة إلى عدد كبير منهم، وهذه الحاجة تتجدد وتزيد كل عام، ولكن ما هو العذر في أن تقبل مدرسة الفنون الجميلة العليا شباناً استعدادهم الفني فقير، أو عادي؟

- ذلك لأنها مفتوحة الأبواب، وأنها مادامت كذلك فهي تنفق على نفسها ميزانيتها المربوطة لها، فسواء كثر الطلبة فيها أم انفضوا عنها فهي مضطرة إلى المضي في عملها، ما دام الأمر كذلك فهي تقبل كل عام عدداً ممن يتقدمون إليها حتى لا تغلق أبوابها. . .

- ولما كان مستقبل المدرسة مبهماً وغامضاً فإنه لا يقبل عليها إلا من يئس من غيرها سواء أكان موهوباً أم كان غير موهوب، وهذه طريقة لا تؤدي إلى الخير بأي حال من الأحوال.

- من غير شك. . .

- أو ليست هناك طريقة أخرى يمكن أن تؤدي إلى الخير. .

- إن لم تكن هناك طريقة فمن الممكن استحداثها. . . نحن الآن في المدرسة الابتدائية، ولكل تلميذ من تلاميذ المدرسة ملف، وهذا الملف لا تجد فيه شيئاً عن التلميذ إلا أنه غاب في يوم كذا، وحبس يوم كذا، وتغدى خبزاً قفاراً في يوم كذا. أما أخلاقه، وأما عقله، وأما موهبته فهذه جميعاً أشياء لا تجد لها أثراً في ملفه، بينما لو اهتمت كل مدرسة بكل تلميذ من تلاميذها ودرست أخلاقه وعقله ونفسه، وسجلت من حوادثه وأخباره ما يدل على روحه شهراً فشهراً أو عاماً فعاماً، فإن التلميذ ما يكاد يفرغ من مرحلة التعليم الابتدائي حتى يكون في ملفه صورة ولو غامضة تحدد اتجاهه في الحياة الذي هيأته له طبيعته، فإذا اتبعت هذه الطريقة في المدرسة الثانوية فإنه ما يكاد يفرغ من التعليم الثانوي حتى يكون ملفه ناطقاً بصراحة ووضوح بالعمل الذي لا يصح أن يختار لنفسه غيره. فهذا يثبت الملف أنه سريع الخاطر سليم النطق، قوي الفراسة، صبور، جذاب يرتاح إلى الناس والناس يرتاحون إليه، مرشد بطبيعته إلى ما يراه لا يخفي شيئاً مما يعلم فهو إذن يصلح لأن يكون معلماً، والثاني ذرب اللسان جريء على المغالطة، لبق في إظهار الحق متى يشاء وكتمانه متى يشاء، قوي الحجة. . . فهو إذن يصلح لأن يكون محامياً. . . وهكذا لو اتبعت مدارسنا هذه الطريقة فإنها من غير شك تفلح في تعليم تلاميذنا وتوجههم، ولكن مدارسنا لا تهتم بشيء أكثر من الامتحانات المتوالية ونتائجها، ونسبتها المئوية. . . فقط لا غير

عزيز أحمد فهمي