مجلة الرسالة/العدد 375/رسالة العلم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 375/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 09 - 1940



قصة الفيتامين

تجربة غذائية عرضية

- 1 -

لقد أثبت قديماً أفذاذ علماء التغذية مثل ليبج وفويت بناء على تجارب صحيحة أن المواد الثلاث الزلالية والدهنية والنشوية، زد عليها الأملاح المعدنية والماء هي مقومات الحياة. فالمواد الزلالية تقوم ببناء الجسم وما يتطلبه من النمو، بينما المواد الدهنية والنشوية تبعث القوة وتدعو للحركة والإنتاج الحيوي عند احتراقها. ونشير في هذه العجالة إلى المجهودات العظيمة الدقيقة التي قام بها فويت في هذا السبيل، والتي أثبت فيها بالوزن مقدار الكميات اللازمة من المواد الغذائية لحفظ الجسم ودولاب الحياة بلا اضطراب، فقدر للشخص العادي الذي يزن 65 كيلو غرام ويقوم بمجهود متوسط مقدار 118 جرام من المواد الزلالية، و 50 جراماً من المواد الدهنية، و 500 جرام من النشويات ككميات يومية ضرورية لحفظ حياته.

بهذا القدر يكتفي علم التغذية في تأدية رسالته ولا يبقى بعدئذ إلا التفكير في جمع هذه المواد الغذائية بالنسب المعينة وإمداد الجسم بها بطريقة ملائمة، ولكن لم يرق هذا بعض المفكرين والمشتغلين بفن التغذية في هذا الوقت، كما استبعدوا حل المشكلة الغذائية بهذه الطريقة الكيميائية السهلة. وكان جوستاف بونج الفسيولوجي الكيميائي أول من حاول تطبيق هذه النظرية، فارتأى أن الحيوانات التي تعيش على المواد الغذائية الطبيعية أكثر صحة وأوفر نشاطاً من مثيلاتها التي يقدم لها الكميات من المواد الغذائية التي أقرها العلماء. ففي سنة 1905 قام بتجارب غذائية على فيران هيأ لها أسباب الغذاء من مواد زلالية ونشوية ودهنية وأملاح معدنية بنسب ثابتة لا ينقصها شيء. فبدأ على الحيوانات الضعف الهزال وتساقط شعرها، واتسخت عيونها اللامعة، وما لبثت طويلاً حتى نفقت.

لم يساور أحداً شك في النتائج التي وصل إليها بونج، بل اتجهت الشكوك نحو طريقة التغذية وإجرائها.

أوشك أن يُسدل على هذه النتائج ستار النسيان، وحاول الإنسان أن يدخل في روعه وقتذاك أن لابد هناك من سر عويص الفهم، ولكنه بمضي أربع سنوات على هذه النتائج أي عام 1909 أقدم العالم ستيب على تجارب غذائية لها قيمتها، فهيأ لمجموعة من الفيران غذاء طبيعياً - غير صناعي - عادياً يحتوي على جميع المواد الغذائية اللازمة، قد نُقع قبل تقديمه لها في الكحول والإثير، وانتهت هذه التجربة أيضاً بهلاك الحيوانات.

استنتج ستيب من هذا أن وجود جميع المواد الغذائية الأساسية وحدها لا يكفي لحفظ حياة الحيوان عند غياب مواد أخرى ربما تكون تلك التي تأثرت في تجربته عند معالجة الطعام بنقعه في الكحول. لم تتحسن الحال عن ذي قبل حتى بظهور نتائج ستيب في الميدان بجوار نتائج بونج، وخالج الإنسان الشك حتى امتعض من هذا الاهتمام الزائد الذي يقوم حول تغذية الفيران

اتجه الاهتمام بعد ذلك إلى إجراء هذه التجارب على الحيوانات المنزلية النافعة فقام بابكوك الأمريكي (الذي تتلمذ على يد العالم الجليل ليبج الألماني) بدوره في هذا المضمار. ففي إحدى محطات التجارب الزراعية التابعة لجامعة ماديسون أتى بمجموعتين من الأبقار أطعم أولاها القمح الخالص والثانية الذرة. ففي بحر السنة الأولى ظهر على نتاج المجموعة الأولى الضعف وعدم تهيئتها لأسباب الحياة بينما لم تظهر على أمهاتها أعراض مرضية ذات بال. أما نتاج المجموعة الثانية فلم يلاحظ عليها شيء وكانت صحيحة قوية، فحمل هذا على الاعتقاد بأن الذرة لابد تحتوي على مواد مجهولة تلزم للحياة.

وقد لا تتهيأ لكل عالم هذه الظروف الحسنة التي هُيئت لبابكوك الأمريكي في إجراء تجاربه الكثيرة التكاليف، فاكتفى الكثير من علماء التغذية بتجارب أقل نفقة في البلاد الأخرى، فقام في النرويج البحاثة آرل هولف بإجراء تجاربه على الخنازير، فقدم لها غذاء واحداً لا يتغير من الحبوب النباتية فتأثرت به وظهرت عليها عوارض تضخم المفاصل وإدماء اللثة وسقوط لحمها، ولكنه أضاف بعد ذلك إلى الطعام نفسه بعض الدرنات كالبنجر، فزالت تماماً هذه الأعراض وانعدم ظهورها في الحيوان.

جاءت هذه النتائج مدعمة لبيانات الفسيولوجي هوبكنز الذي سبق ذكره والذي أعد لفيرانه غذاء خاصاً مكوناً من النسب المعروفة اللازمة من المواد الزلالية والدهنية والنشوية النقية مع الأملاح فظهرت عليها الأعراض المرضية التي ما لبثت أن زالت تماماً وبسرعة عندما أضيفت بعض نقط من اللبن إلى غذائها

فتقت هذه النتائج المتعددة الأذهان وشحذت العزائم وضاعفت من الجهود لكشف القناع عن هذا السر الذي بدأ يتهتك حجابه، وذكر فضل السابقين في البحث الذين كاد يسدل عليهم ستار النسيان. وأثبت بعض الباحثين الهولنديين أن بعض الطيور المنزلية كالحمام والدجاج ظهرت عليها أعراض مرضية غريبة عندما كان غذاؤها مقتصراً على حبات الأرز الأبيض وزالت هذه الأعراض بإضافة ردة الأرز.

يمكننا أن نتصور دهشة العالم حينذاك حول هذا (الشيء) الذي صادفه العلماء تارة في الذرة وأخرى في الأعشاب الخضراء أو في الدرنات وحيناً في اللبن وحيناً آخر في ردة الأرز - ولكن شيئاً واحداً بقى راسخاً في الأذهان، وهو أن دولاب الحياة لا يلزمه فقط ليدور للآن من المواد الزلالية والدهنية والنشوية بل يلزمه أيضاً لحفظ دورانه منتظماً وبلا اضطراب مواد غذائية أخرى خاصة ذهبت في التعرف عليها جهود العلماء والباحثين السابقين هباء.

وفي عام 1931 أطلق عالم بولوني يدعى كازمير فونك على هذا الشيء العجيب الذي شخصه بجسم أو مادة كيميائية أو مجموعة مشابهة للزلال أو الدهن أو النشأ لفظ (فيتامين) بدون أن يفكر جدياً فيما سيكون لهذه التسمية بعدئذ من أهمية قصوى؛ وحتى هذه التسمية الخاطئة - من الناحية الكيميائية - لهذا الشيء العجيب لم تفد الموقف كثيراً.

وينقسم لفظ فيتامين إلى شطرين: الأول (فيتا) ومعناه الحياة، ومما لا يختلف عليه اثنان أن هذه المواد هي من أسباب الحياة. أما الشطر الثاني وهو (أمين) فهو يدل على مجموعة من الكربونات العضوية تتركب من الآزوت والإيدروجين، أي مجموعة الأمينات (زيد2) ولم يثبت إلى الآن انتماء هذه الفيتامينات إلى مجموعة الأمينات.

وبرغم التخبط في التسمية ومحاولات الاستدلال على هذا الشيء فقد وضع له الحجر الأساسي، وقامت بعدئذ مجهودات عنيفة وعديدة في المعامل المختلفة في شتى البلاد لكشف سر هذه الفيتامينات، فهويكنز الإنجليزي قد رسم طريق البحث عنها سنة 1913 في مؤتمر الطب بلندن، وخطب ستيب الألماني اتجاه الكشف عنها بالاستدلال بنتائج تجاربه، واستمر البحث وراء الفيتامينات حتى قبيل نشوب الحرب الماضية، وكان من الصعب في البلاد المتحاربة أن يستمر علماؤها وراء الفيتامينات باحثين، وكان أمام علماء الألمان مشكلة نقص الطعام، غير أن الإنجليز والأمريكيين استمروا في أبحاثهم فسبقوا الألمان، ولكن الأخيرين لحقوا بهم، وكان لعلمائهم المبرزين فضل كبير في بعض نواحي الأبحاث وراء الفيتامينات.

(يتبع)