مجلة الرسالة/العدد 375/الحديث ذو شجون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 375/الحديث ذو شجون

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 09 - 1940


للدكتور زكي مبارك

سعد زغلول خطيباً - الخطابة والحديث عند جماعة من رجال

هذا العصر: طه حسين، عبد اللطيف الصوفاني، علي فهمي

كامل، عبد العزيز جاويش، مكرم عبيد، مصطفى النحاس،

محمد حسين هيكل، محمود فهمي النقراشي، محمد محمود،

عبد الخالق ثروت، حافظ عفيفي، طلعت حرب، حلمي عيسى،

عبد الحميد بدوي، علي إبراهيم، نجيب الهلالي، إبراهيم عبد

الهادي، احمد لطفي السيد.

عجب فريق من القراء من حكمنا على الزعيم (سعد زغلول) خطيباً، وهددنا أحد الرفاق الأعزاء بكتابة فصل ينقض به حكمنا من الأساس، وعاتبني بعضهم على ذلك الحكم الصريح فقلت: إنما سجلت إحساسي بصدق، ولا موجب للمواربة في الحكم على خطيب لم تكن الخطابة إلا عنصراً واحداً من عناصر كثيرة تألفت منها قوته الذاتية، فمجده لا يقف عند القول بأنه كان أخطب الخطباء.

وأواجه الموضوع مرة ثانية خدمة للتاريخ الأدبي فأقول:

كان يهمني من عهد بعيد أن أدرس العصر الذي أعيش فيه دراسة صحيحة، وأن أزن المواهب عند من ألاقيهم من أهل الفكر والرأي والبيان، وقد يتفق أحياناً أن أشغل نفسي بدراسة الوجوه والملامح، وربما توغلت فدرست الصلات المجهولة بين ما يُظهر للناس وما يضمرون، فإن رأى بعض القراء خطأ في بعض ما أُصدر من الأحكام الأدبية على أهل هذا الجيل، فلا يرجع ذلك الخطأ إلى المسارعة في الحكم بلا روية، وإنما يرجع إلى أني قد لا أوفق إلى الصواب مع الحرص الشديد على النظر والتدقيق

والحق أني مفتون بنفسي من هذه الناحية، ولا أعترف بأني قد أخطئ إلا تجنباً للوقوع ف اللجاجة مع بعض القراء، مع أني أومن بأن الكبر المطبوع أخف روحاً من التواضع المصنوع. وأقول بعبارة صريحة أن التعبير اللساني له فنون، وقد تَدِق الفروق بين تلك الفنون، ثم تَدِق حتى تصبح من العسير أن نضع لها الموازين، ومن هنا ينشأ الخلاف في الحكم على طبقات المتحدثين والخطباء

وأضرب المثل بالفرق بين المحاضر والخطيب، فالمفهوم أن المحاضر والخطابة فنان يقتربان أشد الاقتراب، لأنهما في ظاهر الأمر يرجعان إلى أصل واحد، ومع ذلك نرى القدرة على المحاضرة والخطابة تتفاوت أشد التفاوت عند الرجل الواحد في بعض الأحيان

فالدكتور طه حسين محاضراً يُعد في الطبقة الأولى بين المحاضرين، ولو راعينا أن الدكتور طه لا يستطيع أن يهيئ كلاماً يأخذ بعضه برقاب بعض في دقائق تقارب الستين لجاز الحكم بلا مجاملة بأن الدكتور طه هو المحاضر الأول في هذا الجيل

ومالي لا أقول الحق كل الحق فأصرح بأني لم أشهد في مصر محاضراً يماثل الدكتور طه في جهارة الصوت ونصاعة الأداء؟ ولكن طه حسين خطيباً مخلوق آخر: فهو في الطبقة الحادية والعشرين بين خطباء هذا الزمان، وما سمعت الدكتور طه يخطب إلا أشفقت عليه، فمن العجيب أن الرجل الذي لا يتحبس ولا يتوقف وهو يحاضر قد يتعرض لأبشع ضروب الغي وهو يخطب، فمن أين جاءت هذه الفروق بين الموقفين مع قرب الصلة بين موقف المحاضر وموقف الخطيب؟

أيرجع السبب إلى أن الدكتور طه محدث بارع، والمحاضرة فن من الحديث؟

أم يرجع السبب إلى أن الدكتور طه يجري على فطرته وهو يحاضر فيسلس له القول، ويتكلف وهو يخطب فيمتع (بمزايا) المتكلفين من الفضلاء؟

هذا موضوع يصح للدرس، وهو من الدقة بمكان. وأذكر شاهداً آخر يوضح هذه القضية بعض التوضيح

كانت صحبتي طالت لفقيد الوطنية والدين عبد اللطيف الصوفاني، وكنت أراه أفصح الناس حين يدور الحديث حول المطالب القومية، ثم سنحت فرصة وجب فيها أن يقف ليخطب، فرأيت البون شاسعاً جداً بين الصوفاني المحدث والصوفاني الخطيب، ولعل شاعرنا شوقي راعى هذا المعنى حين قال وهو يرثيه: ما كان قُسَّاً ولا زياداً ... ولا بسحر البيان جاء

لكن إذا قام قال صدقاً ... وجانبَ الزُّور والرياَء

وعرفت خطباء لا يجيدون إلا حين يحفظون خطبهم عن ظهر قلب، ومن هؤلاء المرحوم علي فهمي كامل الذي مات في رثاء شهيد الوطنية محمد فريد

وإنما قضيت بهذا لأني سمعته مرة يخطب نحو ساعتين بلا تلعثم ولا تردد، وكان ذلك في كلية مصطفى كامل في إحدى ذكريات الزعيم الأول، وبعد انفضاض الاحتفال بوقت قصير ظهرت جريدة اللواء وفيها خطبة علي فهمي كامل، فرأيت النص المكتوب عين النص المسموع، بلا تقديم ولا تأخير، وبلا زيادة ولا نقصان

ويؤكد من عرفوا الزعيم الخالد مصطفى كامل أنه كان يحفظ خطبه عن ظهر قلب، ويؤيد هذا خطبته التاريخية على مسرح زيزينيا بالإسكندرية، وهي أعظم خطبه، وبها ختم حياته الخطابية، وأسلوبها يشهد بأنه نظمها نظماً ثم حفظها قبل أن يلقيها على الناس

فكيف كان علي فهمي وهو يتحدث؟

كان أعجوبة الأعاجيب في قوة الأداء، وكان يطبق أسنانه بعنف في المواطن التي تحتاج إلى تأكيد، وكان يحفظ الأرقام مهما بعد عهدها في التاريخ، فلم يكن من الصعب عليه أن يذكر اليوم الذي وقع فيه حادث مأثور في أي عهد من العهود وقد حملته الثقة بالنفس على أن يتقدم للانتخابات في دائرة السيدة زينب منافساً للزعيم سعد زغلول؛ فلما راجعته في ذلك غضب وثار وأعلن أن انتصار سعد عليه أبعد تصوراً من المستحيل!

والمهم هو النص على أن علي فهمي كامل المحدث غير علي فهمي كامل الخطيب، لبعد ما بين الحالتين من العنف واللطف، والفطرة والطبع. ولم أشهد علي كامل يرتجل الخطابة إلا مرة واحدة في نوفمبر سنة 1920 وقد وقف يخطب على قبر محمد فريد وهتف هاتف: يحيا سعد! فاغتاظ الرجل واندفع في تجريح سعد بقوة قهارة فرضت على السامعين أن يلوذا بالصمت والخشوع، في وقت لم يجرؤ فيه أحد على أن يذكر سعداً بغير الجميل

أما الشيخ عبد العزيز جاويش فكان يلقى خطبه بأسلوب المدرس المتمكن، وكان يغلب عليه أن يرد يده إلى أذنه بصورة من يدعو فكرة إلى التجمع، وكان يهتف بكلمة (وَي!) حين يرى المعاني تشرد أمام فكره القناص فترجع إليه وهي أوانس خواضع! وكان الشيخ جاويش حين يتحدث في لحظات الصفاء أحيا من الفتاة البتول، وكان لصوته في أوقات اللطف نبرات عذاب، وكانت له ابتسامة حلوة إلى حد يفوق الوصف، وكان لعينيه بريق جذاب، فإذا غضب فحديثه ونظراته رعد وبرق وصواعق

كنت أدخل عليه في وزارة المعارف بلا استئذان، وكانت الفرص كثيرة لمقابلته، لأنه كان يمكث في مكتبه كل يوم نحو عشر ساعات، فيتغدى في الوزارة كيفما اتفق، ويصلي فيها الظهر والعصر والمغرب، وقد يحلو له الأنس بالواجب فيبقى في الوزارة إلى أن يصلي العشاء

دخلت عليه مرة فوجدت عنده إنساناً منزوياً في إحدى نواحي المكتب ورأيت الشيخ غضبان والشرر يتطاير من عينيه، فسلمت تسليماً مختصراً وجلست

وما هي إلا لحظات حتى انفجر الشيخ كالبركان في وجه ذلك الجليس، فقد صرخ:

(من يتزوج بناتنا إذا جاز لكل شاب مأذون ألا يزور أوربا إلا عاد ومعه زوجة فرنسية أو إنجليزية أو ألمانية؟

إن الأتراك لا يتزوجون بناتنا غطرسة منهم وكبرياء، والمغاربة وهم في مثل حالنا لا يتزوجون بناتنا إلا في قليل من الأحوال

فكيف يجوز لشاب أن يترك بنات وطنه للبوار، وهو يعرف في سريرة نفسه أن الفتاة المصرية معدومة النظائر في الجمال وأدب النفس؟ وما الذي بهرك من الفتاة الأوربية حتى تنسى بها بنت وطنك؟ ومتى يصير أمثالك رجالاً يعتمد عليهم الوطن وقد حرمكم الله نعمة الوطنية؟)

وخرج الشاب وهو آسف. وكانت لحظة صمت توهمت فيها عيني الشيخ جاويش مغرورقتين بالدمع، فطلب فنجان قهوة، ثم تكلف الابتسام، وقال: (لا تؤاخذني، فذلك فتى كان أبوه من أعز أصدقائي، وما كنت أحب أن ينسلخ من وطنه بالزواج من امرأة أجنبية)

ومع أن المسألة فيها نظر، ومع أني كنت أراجع الشيخ في كثير من الشؤون، فقد تخوفت عواقب غضبه إن راجعته في ذلك الشأن الدقيق، ثم انصرفت وقد عرفت أن الشيخ لا يرق ولا يلطف إلا في ساعات الصفاء، وأنه أخطب ما يكون وهو غضبان

أما مكرم باشا عبيد فلم أسمعه يخطب إلا في الحفلات، وهو يحفظ خطبه عن ظهر قلب وقف يخطب في ذكرى 13 نوفمبر أيام الائتلاف، وبعد مدة تزيد على عشر دقائق دخل عدلي باشا يكن ومعه جماعة من الوزراء، فرجع مكرم باشا إلى مطلع الخطبة من جديد فأعادها حرفاً حرفا بلا تغيير ولا تبديل

أما مكرم باشا محدثا فلم أعرفه إلا في لحظات قضيتها معه بشارع ريفولي في باريس سنة 1929، وهو يقبل عليك حين يحدثك إقبال من يهمه أن يظفر بثقتك، فيترفق ويتلطف، ويتنقل من فن إلى فنون، وهو في جميع أحواله خفيف الظل والروح

ولم أسمع مكرم باشا وهو يرتجل لأعرف الفرق بين حاليه في الأداء، ولكن من المؤكد أن حاليه يختلفان بسبب غرامه بالزخرف والتنميق، ومن كان كذلك فأمره في الروية غير أمره في الارتجال

ولم أسمع النقراشي باشا خطيباً، ويقول الذين سمعوه أنه ليس من الخطباء

أما النقراشي المحدث فهو آية في حلاوة التعبير وسلامة المنطق، على شرط أن يكون الحديث في داره لا في وزارة المعارف أو وزارة الداخلية

وهو مرهف العقل حين يتحدث، ولكلامه مذاق خاص لأنه لا يتكلم إلا وهو مبتسم، وقد تعجب حين يحادثك بأن يكون لمثله أعداء، لأنه ينقل أحاديثه عن قلب يفيض بالشهامة والصدق والإخلاص، وإن كَثُر القول بأنه مفطور على العنف والاعتساف

والنحاس باشا خطيباً لا يرضيني، وإن كنت أول من تنبأ بأنه سيكون خليفة سعد، يوم رأيته يصاول زغلول باشا في مجلس النواب، وكنت مضيت مع الأستاذ محمد الههياوي لشهود بعض المواقف المهمة قبل أن يموت سعد بعامين

والعيب في خطبة النحاس باشا يرجع إلى الأداء، لأنه يؤدي المعاني بأسلوب رتيب، ولا يفرق بين مقامات الكلام إلا في قليل من الأحايين، ولو جاز أن نقدم نصيحة لرجل في مثل مركز النحاس باشا لرجوناه أن يرجع إلى باب من أبواب العربية أسمه الوقف!

أما النحاس باشا متحدثاً فهو على جانب عظيم من الجاذبية في أوقات الصفاء، فهو يرسل النكتة المستعذبة بلا تكلف، وهو لكرم طبعه ينسيك أنه من الزعماء، وهو أولاً وآخراً رجل له قلب، على قلة أرباب القلوب في هذا الزمان

فإن تحدث النحاس وهو غضبان فلا تعجب حين يقع منه مالا يرضيك، لأن الغضب يحوله إلى رجل ينكر أن في الدنيا كلاماً يقال وكلاماً لا يقال!

أما موهبة هيكل خطيباً فليست بشيء بالإضافة إلى موهبته في الحديث

يحدثك هيكل باشا وهو (أبن بلد) فتستظرفه إلى أبعد الحدود، لأنه من هذه الناحية موهوب. فإذا خطب وأراد أن يكون (أبن بلد) ضاقت به نفسك، لأن الخطابة لها وقار لا يسمح بالعبارات البلدية، وقد يعدها من الابتذال

ويروعك من هيكل باشا صفاء عينيه حين يتحدث، حتى لتكاد تجزم بأنه الشاب الذي ترفق فأشار في كتابه عن (جان جاك روسو) إلى أنه كان من أهل الفتون يوم كان طالباً في باريس. أما مقام هيكل باشا في الصحافة والتأليف فهو أوضح من أن يحتاج إلى بيان، لأنه في هاتين الناحيتين من أقطاب هذا الجيل.

أما زعيم الدستوريين محمد باشا محمود، فلم أشهده خطيباً إلا مرة واحدة في الخطبة التي قال فيها وهو غضبان:

(نريد أن نعرف لمن الأمر اليوم: ألسعد أم للأمة؟)

وكنت سمعت أنها عرضت قبل إلقائها على الدكتور طه حسين والعهدة على الشخص الذي صحب الدكتور طه أيام سكناه بحي قصر النيل، فهو الذي زعم في جريدة (الإنذار) أن الدكتور طه هو الذي أنشأ تلك الخطبة التاريخية

والذي يرى محمود باشا وهو يتحدث يؤمن بأنه من أفراد الأدباء في اللغة العربية، وكيف لا يكون كذلك وهو من أسلم الناس ذوقاً في الحكم على الأدب القديم والحديث؟

ولم يكن صوت ثروت باشا في الخطابة بالصوت المقبول، كان صوته لوناً من (الصرصعة)، وكان يقرأ خطبه في أوراق مكتوبة بطريقة تشهد بأنه يخشى عادية اللحن والتصحيف

وأعظم خطب ثروت باشا هي خطبته في الرد على معارضيه سنة 1922، وقد صححها المرحوم محمد المرصفي، فشهد التصحيح بأنها استهدفت لطغيان قلمه البليغ

أما ثروت باشا المحدث، فكان من الآيات في عذوبة الروح وقد استطاع بلباقته أن يسيطر سيطرة روحية على الزعيم سعد زغلول قبل رحيله عن هذا الوجود، فلما وقف يرثي سعداً بعد ذلك، قهره القلب الطيب على أن يضيف إلى خطبته سطوراً من الدمع المسكوب ولم أسمع حافظ باشا عفيفي وهو يخطب، أما أسلوبه في الحديث فقد بهر قلبي وعقلي

وطلعت باشا حرب ليس بخطيب ولم يخلق للخطابة، وهو مع ذلك محدث جذاب، وحاله في ذلك يشبه حال الدكتور علي باشا إبراهيم، أو حال عبد الحميد باشا بدوي

ولا أعرف أين يقع مكان نجيب بك الهلالي بين الخطباء، ولكني أعرف أنه محدث ظريف

أما حلمي باشا عيسى، فهو فيض من القوة والفتوة حين يتحدث، وإن كنت لم أرض عن أسلوبه الخطابي حين سمعته في مجلس النواب، ولعل ذلك لأن موقفه كان موقف المقرر لا موقف الخطيب؛ والأستاذ إبراهيم عبد الهادي كان من خطباء الثورة المصرية، وكان يومئذ فصيح اللسان، وكان صدري ينشرح حين أراه على حداثة سنه يتسامى إلى منازل الخطباء القدماء في تخير اللفظ الفخم والمعنى الوهاج، ثم ضاق به صدري حين سمعته يخطب في مسرح الأزبكية بعد الثورة بأعوام، فقد سلك في التحريض على أعضاء الحزب الوطني مسلكاً غير مقبول، ومع ذلك كان يستنفر الجمهور بشواهد من القرآن والحديث!!

وكذلك انصرفت عنه وانصرف عني فلم نكن نتبادل التحيات إذا التقينا مصادفة في الطريق، ثم تعارفنا بعد طول التغاضي حين تلاقينا في المفوضية العراقية منذ أكثر من شهرين فكيف صار إبراهيم عبد الهادي الخطيب؟ أهو كعهدي به قبل عشرين عاماً حين كان يرصع خطبه بالحِكم والأمثال والآيات والأحاديث؟ أم تكون الدنيا راضته على فنون من سرعة القول وبديهة الارتجال؟

يشهد ما أقرأ من خطبه المنشورة أنه لا يفرق كثيراً بين مقامات الكلام: فهو يخطب في مجلس النواب كما يخطب في الحفلات، ومع أن الفرق بين المقامين بعيد. فإن سنحت فرصة لشهوده خطيباً ومتحدثاً فقد أرجع إلى هذا الرأي بشيء من التعديل، ولكن ما أهمية الخطابة والحديث في حيوات الرجال؟

لذلك أهمية عظيمة جداً، فأستاذنا أحمد لطفي السيد باشا مدين لمواهبه في الحديث أولاً وفي الخطابة ثانياً، وأكاد أجزم بأنه يراعي التعبير كما تحدث، ولو كان الحديث أمراً بتقديم القهوة للضيوف، وللحديث عنده ألوان: فهو تارة بالعامية الشرقاوية، وتارة بالفصحى البدوية، تبعاً لاختلاف المقامات، ولهجته البلدية عذبة حلوة تقع من آذان السامعين أجمل موقع، فإذا بدا له أن يعرب فهو أعرابي من مجاهيل البيداء، وهو في حاليه يتكلم بصوت رنان يذكر بألحان يوسف المنيلاوي، إن رضى عن هذا الوصف

ولطفي باشا له تاريخ في الدعوة إلى العامية، ولكنه مع ذلك يكره التبذل والإسفاف في الخطب والمحاضرات، ولو سمعته يخطب لعرفت أن دعوته إلى العامية لم تكن إلا دعابة أراد بها أن يشغل الجمهور عن المناوشات التي كانت تقع بين أرباب الأقلام أيام الصيال بين الجريدة والمؤيد واللواء، فلما جد الجد وصار مديراً للجامعة المصرية أعلن أن اللغة العربية لغة العوام وأنها لا تملك القدرة على التعبير عن أفكار الخواص، وفي حديث أذيع باسمه في مجلة الهلال

أما بعد فأين أنا مما ابتدأت به هذا الحديث كنت أريد أن أشرح كيف اختلفت الآراء في سعد زغلول خطيباً ثم اندفعت إلى شجون من الأحاديث شغلتني عن الموضوع الأصيل، وإن كانت تتصل بي أوثق الاتصال. فإن استطاب القراء هذا الفن من التشريح فسأرجع إليه بعد حين

زكي مبارك