مجلة الرسالة/العدد 375/تصحيحا لتاريخ الزعيم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 375/تصحيحاً لتاريخ الزعيم

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 09 - 1940


للأستاذ عباس محمود العقاد

قرأت نخبة من المقالات التي نشرتها مجلة (الثقافة) الغراء إحياء لذكرى سعد - رحمه الله - في هذه السنة

ولي عناية خاصة بأمثال هذه المقالات، لأنها تتصل بترجمة رجل عظيم أجللته وانعقدت الآصرة بيني وبينه في الجهاد الوطني بضع سنوات فضلاً عن سنين عدة كنا ننظر إليه فيها قبل ذلك نظرة الوثوق والإعجاب، ولأن هذه المقالات تتصل من جهة أخرى بموضوع كتاب ألفته في تاريخ ذلك الرجل العظيم، فيعنيني أن أراجع فيه كل ما عسى أن يصحح رأياً أو واقعة أو خبراً مما ورد في الكتاب لاستدراكه في أوان الاستدراك

ومن المقالات التي اتجه إليها ناظري أول ما أتجه مقال العالم الفاضل الأستاذ أحمد أمين لأنه كتب عن مدرسة القضاء الشرعي وهو أحد الأعلام الذين أنجبتهم تلك المدرسة القصيرة الأجل، الطويلة النفع والذكرى

ولكني عجبت لأنني رأيت الأستاذ ينساق إلى خطأ شائع من الأخطاء الشائعة الكثيرة التي ذاعت عن مدرسة القضاء في بعض الفترات.

وذلك إذ يقول: (. . . لم يرض الخديوي ولا الأزهر عن المشروع، ولمن سعداً أصر وعرض الأمر على مجلس النظار برياسة الخديوي، وعارض في الجلسة من النظار من أوعز إليهم أن يعارضوا، فاتخذ سعد المسألة قضية يترافع فيها كما كان يترافع أيام عهده بالمحاماة، ونسى المجلس ونسى الخديوي وضرب بيده على المائدة كما كان يضرب أمام القضاة، وتخاذل المعارضون ووفق على المشروع الذي كان يحلم ببعضه الشيخ محمد عبده، وتم وفي نفس الخديوي منه شيء بل أشياء، وهمس الخديوي في أذن مصطفى باشا فهمي رئيس مجلس النظار: يظهر أن نسيبك لم ينس المحاماة. . .)

فهذه القضية قد راجت زمناً لأنها تحمل عنصراً من عناصر الرواج بين الجمهور، وسمعتها من مصادر عدة قبل التقائي بسعد وبعد التقائي به في أيام الحركة الوطنية، وهي مع ذلك (مؤلفة) أو مخترعة سمعنا نفيها من سعد نفسه وذكرنا ذلك في مقالنا الذي نشرناه بمجلة (الهلال) الغراء على أثر وفاته، وذكرناه بعد ذلك في كتابنا عن سعد حيث نقول ف الصفحة العشرين بعد المائة:

(. . . كان الخديو حريصاً على استبقاء الأزهر في قبضته لإطلاق يديه في اختيار القضاة الشرعيين والإشراف على المجالس الحسبية وما يعهد إليها من محاسبة الأوصياء على التركات والنظار على الأوقاف، ولكنه كان يعارض في إصلاح الأزهر وتمكينه من إعداد القضاة والمعلمين والمحامين على الوجه المطلوب. وقد تعب الشيخ عبده في علاج هذا الإصلاح العسير حتى نفض يديه آخر الأمر واضطر إلى اعتزال منصبه في مجلس الأزهر الأعلى. فلما تصدى سعد لهذه المعضلة العصيبة هاجمته الأغراض والسعايات والعراقيل من كل جانب، فعزم عزمته ونكب عن ذكر العواقب جانباً كعادته حين يتصدى لأمر هو على يقين من صلاحه من وجه الحق فيه، وجاء إلى مجلس الوزراء وهو معول على أمر من أمرين: إما مدرسة القضاء، وإما الاستقالة وهو غير آسف

(قال سعد في بعض أحاديثه عما جرى في تلك الجلسة بينه وبين الخديو: إن الأقاويل اختلفت في المناقشة التي دارت بيني وبين الخديو في ذلك اليوم. فقال أناس: إنني ضربت على المنضدة بيدي وقلت في وجه الخديو: دعني أدافع عن مشروعي! وأن الخديو أجابني حينذاك ساخراً: يظهر أن الباشا لم ينس بعد صناعته القديمة. . . يعني المحاماة، وقال أناس غير ذلك ما يجري مجراه، والصحيح أنني لم أضرب على المنضدة بيدي ولم يعرض الخديو بسابق عملي في المحاماة، وإنما شاهدت في سموه ميلاً ظاهراً إلى رفض المشروع بعد ما شجعني على المضي فيه، ورأيته يأبى على المناقشة والشرح أمام زملائي الوزراء. . .

(قال رحمه الله بفكاهته المعهودة: وكنت قد انتقلت من القضاء إلى الوزارة (بعبلى) فدأبت على الشرح والاستدلال وقلت: أنني أفهم أن المناقشة حرة، وأود أن أعرف المانع من تنفيذ المشروع. ولا أدري أن هذا الكلام يغضب الخديو وينقل وقعة على سمعه. فأحمر وجهه كلون طربوشه، وسمع من أصحابنا الوزراء مني هذه اللهجة فأيقنوا أنني لا أقدم عليها إلا وأنا مؤيد بقوة خفية، ووهموا أن لورد كرومر يريد إنشاء المدرسة على الرغم من جميع العقبات، فأجازوا المشروع بالإجماع وبقى الخديو وحده معارضاً فيه! والحقيقة أن لورد كرومر لم يفاتحني في المسألة إلا بعد أن سمع بما دار بيني وبين الخديو من المستشار المالي، وقد كان يحضر جلسات مجلس الوزراء)

هذه رواية سعد كما سمعناها منه، وثبت لنا مرة أخرى أن أصلح الإشاعات للرواج هي أولاها بحذر المؤرخين

من الذين علموا بتصحيح هذه الإشاعة فيما أذكر كاتب سعد وملازمه في وزارتي المعارف والحقانية فؤاد كمال بك رحمه الله، ولعله أشار إلى ذلك في مذكراته

وقرأت في مقال الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف (أن سعداً وهو في وزارة المعارف قد أضطر في بعض الظروف لمصانعة السياسة التي كانت متحكمة في ذلك الوقت، ومن ذلك ما كان من رأيه الذي دافع عنه خاصاً بالتعليم باللغة العربية، ولكنه في هذا إنما جرى على المثل المأثور: لا تكن صلباً فتكسر ولا ليناً فتصهر)

والذي نعلمه أن سعداً لم ينكر أن التعليم باللغة العربية واجب مطلوب، ولكنه كان يرى أن التعليم باللغة العربية لا يتم ولا يعم قبل تحضير كتبه وإعداد مدرسيه، وهذا رأي متفق عليه لا ضرورة فيه لمصانعة الأقوياء أو لاجتناب الصلابة، وفي وسعنا أن نقول إن قوة الاحتلال كانت تصانع سعداً أضعاف ما كان يصانعها، وكانت تحتمل منه أضعاف ما كان يحتمل منها، وهذا غاية ما يطلب من وزير مصري لم يؤيده في ذلك الوقت برلمان ولم يكن الخديو من الراغبين في بقاءه، ولا سند له إلا ما وقر في نفسه من القوة والصلابة الشكيمة

وقرأت من مقال مكرم عبيد باشا (. . . إن سعداً العظيم كان كسعد الرجل، إذا ما أحس إحساساً فلا توسط في حساسيته المرهفة. إذا ما بكى أو ضحك تشاركه عيناه بالدمع المنسجم - يبكي فيتطاير الدمع كالشرر المستمر، ويضحك فيتساقط الدمع كالماء المنهمر. . . ولا يهولنك أن يبكي سعد العظيم أو سعد الرجل فلعل أجمل آية في الإنجيل هي تلك الآية الحلوة القصيرة: بكى يسوع)

والواقع أن البكاء كان (تعبيراً) قوياً في نفس سعد زغلول لا يدل على ضعف ولا استكانة، ولكنه لم يكن من الانطلاق والمعاودة بحيث يفهم من هذه العبارة. فعلى طول رؤيتي له لا أذكر أن عينيه فاضتا بالدمع الغزير غير مرتين، وأما تناثر الدمع من عينيه حين يطيل الضحك فأمر طبيعي في تركيب العيون يزيده في سعد أنه احتفظ - على خلاف كثير من الشيوخ - بنعمة الضحك القلبي إلى ما قبل وفاته بأيام. وكان رحمه الله يجتنب البكاء ما استطاع ويشيح بنظره عن رؤية الضعفاء الباكين، وقلنا من الكتاب هذا المعنى: (إن هذا المناضل المكافح طوال الحياة لم يكن أبغض إليه من رؤية العنف ولا مشاهدة الحزن والمحزونين. ذهب بعد الإفراج عنه في جبل طارق ليشهد صراع الثيران على الأرض الإسبانية، فلم يطق ما رآه من تعذيب هذه الحيوانات وانصرف بعد فترة وجيزة وهو يتأفف من هذا اللعب الممقوت. وعرف عنه ذووه أنه لا يطيق أن يرى البكاء لأنه يؤذيه ويستبكيه فكان يقول لهم: لا تبكوا أحداً أمامي، وإذا مت فخذوا ثأركم مني ولا تبكوني. ومن عادته ألا يظهر أمام الناس في موقف يخشى فيه من جيشان نفسه وغلبة دموعه، ولهذا لم يستقبل أم المصريين على المرسى في جبل طارق واكتفى بأن ينتظرها في حجرة الاستقبال. . .)

فبكاء سعد في تعبيرات نفسه في أمثال تلك المواقف المعدودة، وكان مع هذا يجتنبها ما استطاع

وجاء في مقال صاحب العزة (فخري عبد النور بك): (ثم ركبنا البحر وعدنا أدراجنا إلى القاهرة، وكان الزعيم الخالد يبدي جلداً وصبراً، وكثيراً ما كان يردد هذا الشطر: لو بغير الماء حلقي شَرِقٌ. حتى وصلنا إلى بيت الأمة)

والذي أذكره أن سعداً رحمه الله تمثل بذلك الشطر وهو في حجرة مرضه بمسجد وصيف بعد أن روى لي أشياء عن أناس من أنصاره كتموا عنه أموراً كان يود لو يطلعوه عليها، وهذه المناسبة ظاهرة مني معنى الشطر المفهوم

وفي عدد الثقافة مثل على اتفاق الرواية إذا اتفقت الملاحظة الطبيعية كما يلحظها الرواة خالصة من الحواشي والأغراض فقد كتب الكاتب الأمين الأستاذ (كامل سليم بك) عن (حالة الزعيم النفسية) عقب مقتل السردار. فقال مما وعاه في مذكراته: (لقد مرت بسعد وهو زعيم أزمات حادة أقضت مضجعه. ولأذكر على سبيل المثال ما حدث له أيام وزارة زيور باشا التي أُلفت عقب مقتل السردار، فقد ساد البلاد جو خانق كجو الأحكام العرفية، وقبض على الأبرياء وزجوا في السجون لأتفه الشبهات، وفي طليعتهم الدكتور ماهر والأستاذ النقراشي، وكان سعد يحبهما ويثق بهما أخلص حب وأكمل ثقة، وحزن لسجنهما أشد الحزن وأخذ كثيرون من أنصاره ينفضون من حوله أو ينقطعون عن زيارته؛ فدخلت على سعد يوم 30 يوليه سنه 1925 وهو في هذه الحالة النفسية التعسة ووجدته وحده في مكتبه الداخلي في بيت الأمة يطالع كتاباً؛ ولن أنسى ما حييت ما لاحظت عليه من الحزن الأسود والألم الأليم. سألني عن الحالة العامة فحدثته بما أعرف وتعمدت أن أضمن حديثي ما يدعو إلى الأمل والتفاؤل حتى أدخل على قلبه الكبير شيئاً من الطمأنينة والسكينة، فأبتسم ابتسامة فاترة كانت على الألم أدل منها على أي شيء آخر، وقال: (اسمع يا كامل! لقد ألم بالناس هزال شديد، وهو أشد لدى من كانوا أكثر الناس حماسة وأشدهم غيرة، ومن بقى معي منهم موجودون إما أحياء أو تورطاً وإما لعدم وجود وسيلة أخرى، وهي مصيبة ليس لها إلا ربك)

والواقع أنني لم أجد سعداً في حالة من الغم كالحالة التي وجدته عليها في تلك الفترة، ولاحظت ذلك في كتابة تاريخه فقلت: (ما أعرف وقتاً تسرب فيه السأم والتعب إلى بنيته وإلى نفسه كما كان يتسرب أحياناً خلال الفترة من مقتل السردار إلى عودة الحياة النيابية. . . وذات ليلة كان يسأل: ما الذي يبعث القوة في الشعب؟ وكنا ثلاثة على مائدته: محامياً معرفاً والأستاذ عبد القادر حمزة وكاتب هذه السطور، فقال المحامي وظن أنه يرضيه بما قال: يا باشا كلمة منك تبث فيه الحياة الفتية. وأسترسل في مثل هذا الكلام، فنظر إليه سعد هنيهة ثم قال: ما هذا؟ أتريد أن تخطب؟ أتريد أن تتحمس؟ طيب. . . تفضل أخطب وتحمس وانتظر من يسمع

وكانت نفسه برمة جداً بمن يعبثون بهذا الموضوع لأنه كان مهموماً به ولا يطيق الهزل فيه. بل كثيراً ما سمعته يتضجر في تلك الأيام من حب النكتة في الطبيعة المصرية ويقول: لولا أن المصريين يضحكون من زيور وغرائبه لما احتملوا هذا الزمن الطويل)

وبعد فأني أسجل هذه التعقيبات على ما قرأت في فصول الثقافة وفي اعتقادي أن إخواننا الذين احتفلوا بذكرى الزعيم العظيم يرحبون بما فيها من تصحيح لبعض الوقائع والأخبار، إذ كانوا ولا ريب إنما يقصدون إلى تمحيص الحقائق عن ذكراه.

عباس محمود العقاد