مجلة الرسالة/العدد 366/أنا. . . والقلم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 366/أنا. . . والقلم

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 07 - 1940



للأستاذ علي الطنطاوي

(بين يدي الآن رسائل من بيروت وحمص وبغداد والإسكندرية وأم درمان من إخوان كرام ما كان لي شرف الاتصال بهم، كلهم يسألني لم لا أكتب في الرسالة في هذه الأيام، ويشفق أن تكون الأرزاء قد هدت ركني وكسرت قناتي. . . فكتبت هذا الفصل هدية إليهم وجواباً)

(ع)

أعترف أنها قد جفَّت قريحتي فما تبضّ بقطرة، وكلّ ذهني، ومات خيالي، ومرت علىّ أيام طوال لم أستطع أن أخط فيها حرفاً، وعدت من العيّ والحصر كأول عهدي بصناعة الإنشاء، وأصبحت وكأني لم أكن حليف القلم وصديق الصحف، وكأني لم أجر للبلاغة في مضمار. . . وما أدري أأبرأني الله من حرفة الأدب التي ابتلاني بها وابتلاها بي، أم هي سكتة عارضة وُعقلة مؤقتة، كالذي يعرض للشعراء والكتاب، ثم تزول السكتة وينطلق اللسان، ويعود أحدّ مما كان؟. وما أدري أعّلة ذلك الزواج، وقد قالوا إن زواج الأديب يؤذيه وتغور منه ينابيع فكره، أم هي الرزايا والآلام، وما يغيظ الأديب من انحراف الأمور عن صراطها، وتقدم من حقه التأخر، وتأخر من يستأهل التقدم، وضياع الحقوق وغلبة الجهال، أم هذه العزلة الحسية والروحية التي أبت إليها طوعاً أو كرهاً، فجعلت حياتي كالبركة الساكنة، لا يسقط فيها حجر فيثير أوحالها ويخرج دررها؟

إني كلما أخذت القلم لأكتب، أحسست أنه يحرن ولا يملكني زمامه، وأنه يستعصي عليّ ويستعصم مني؛ وأجدني أميل إلى مطالعة كتاب، أو أنظر في صحيفة. فأقبل على القراءة، وأعوض على ذهني ما فاته منها في هذا الزمن الطويل، وأني لا أزال أحتاج إلى تعلم كثير مما أجهل، ولا يزال في الكتب ما لا أستوعبه في شهرين أو ثلاثة، ولست قائلاً مقالة ذلك الدعيّ الذي زعم أنه قرأ ديوان الفرزدق في خمسة عشر يوماً، ولا والله ما يفهم قصيدة منه واحدة في شهر. . . ولا الذي ظن أنه علم كل شيء حتى ما يسائل واحداً عن علم مسألة لكي يزدادها! فأسلمتني المطالعة إلى الزهد في الإنشاء، ومال بي الزهد إلى إيثار الدعة وابتغاء السلامية ومحبة الخمول، بعد الرغبة في الذكر، فسبحان مقلب القلوب. . .

ولقد كنت أشكو الغربة وأضيق بها، فصرت أشكو فقدها. ويا حبذا الغربة، وأنعم بها مثيراً للشعور، موقظاً للهمم. كنت أتألم منها فأصف ألمي، وأشتاق فأصور شوقي، وأرى فيها جديداً فأنتبه إليه، فأكتب فيه؛ فرجعت أمرُ على المشاهد غافلاُ عنها لأني آلفها كلها وأعرفها، ورجعت لا آلم ولا أسر، ولا أقول إني راض ولا مبتئس - وهذا لعمري شرَّ ما يمر على الأديب من الأحوال، وهذا هو الموت. . . ولربما شغلني سفساف الأمور، وأضاع عليّ الكثير من وقتي. وهل ينفع القراء أن يعلموا أن عملي منذ شهر الطواف في أحياء دمشق من شرقها إلى المغرب، ومن شمالها إلى القبلة، أفتش عن دار أستعيض بها عن داري (في الجادة الخامسة)، لأن حماقة صاحبها كرهت إلى جمال مستشرفها، وطيب موقعها. . . وأن أعصابي في ثورة دائمة، عفت معها الحياة، من صبية عشرة - أحياهم الله لأبويهم - يسكنون الطبقة التي تحتنا، لا يهدؤون لحظة ولا يسكنون ولا يفترون عن بكاء أو صياح أو غناء، أو قرع باب أو كسر شباك؛ وقلبي يخفق وأعصابي تتمزق، ولا أنتفع من نفسي بشيء. وإن شكوت إلى أحد سخر مني وضحك عليّ. فليتصور القراء مبلغ ما أجد من الضيق والأذى، فيا ليت أني لم أعط ملكة الكتابة، أو ليتني إذ أعطيتها عرفت كيف أستفيد منها، فما شيء أصعب على الرجل من أن يريد ولا يقدر أو يقدر ولا يريد. . .

وليثق القراء أن يوماً يمرّ عليّ لا أكتب فيه شيئاً أو أعد في نفسي شيئاً لأكتبه لهو يوم بؤس عليّ لا يوم نعيم، وأن أول ما أفكر فيه إذا سرني أمر أو ساءني، أو أعجبني أو راعني، كيف أصوره وأعرض على الناس صورته كي أنقل إليهم شعوري، وأقاسمهم عواطفي، لا أفعل ذلك للشهرة والمجد الأدبي، ولا للنفع ولا للضرر، فقد بلغت من الشهرة ما يصح الوقوف عليه لو كانت الشهرة أكبر همي، ولكني رغبت عنها لأني وجدت ما نلت منها لمُ ينلني خيراً قط. ثم إنه ليس بين الرجل وبين أن يشتهر في بلادنا بصفة الأدب إلا أن يكتب فصلاً أو فصلين؛ فإذا هو ومن ملأ الأسماع أدباً حقاً وبلاغة باقية سواء، ولكني أكتب - علم الله - لأدفع عن نفسي الملل وما يصيبها من الألم إذا أنا لم أكتب، فكأنني أعمل بالغريزة التي تدفع النحل إلى اتخاذ العسل والعقارب إلى نفث السم، وكل حي من الحيوان إلى ما سخر له من نفع أو ضرر. ولا أعلم أأحسن أم أسئ، ومتى يكون الإحسان وكيف يجئ، وكل ما أعلم أن فكرة تخطر على بالي تأتي بها نظرة أو سمعة، فتنمو فيها حتى تملأ ذهني وتسيطر عليّ، فلا أملك عن تدوينها تأخراً، فآخذ القلم فإذا هي تجر وراءها أخوات لها، وإذا أنا أمضي في الكتابة لا أكف حتى يكون القلم هو الذي يقف، ثم أبعث بذلك إلى المجلة أو الجريدة، فإذا أبطأت بنشره أو أهملته سخطت وثرت؛ وإن نشرته فرحت به وقرأته بلذة، فإذا مضى عليه يوم عدت إليه فرأيت عيوبه. فقلت ليتني نقصت من هنا وزدت من هناك، وحذفت هذا أو أثبت ذاك. . . ثم لا يمنعني ذلك أن أعود إلى خلتي من الإسراع كرة أخرى. ولقد حاولت التنقيح والصناعة مرة فأفسدت من حيث توهمت الإصلاح، فعدت إلى طبعي. فإذا كان في الناس من يعجبه ما أكتب فالحمد لله. . .

وما سكت لقلة في الموضوعات، ولكن لجفاف في القريحة. ولو كان بي أن أكتب لوجدت في كل شيء موضوعاً لفصل، غير أنه لابد من العاطفة والفن، ولو كان الأدب الواقعي أن تسرد كل ما (وقع) لك لكان الناس كلهم أدباء؛ ولكن الأدب الواقعي أن تأتي بالصورة الجميلة، قد صقلها الطبع، وبرقشها الخيال، وزانتها العبارة الصحيحة، والسبك الدقيق. لكنك لا تخرج فيها عما (يمكن أن) يقع. . .

ولو أسعدتني القريحة لكتبت في وصف هذا الفتى الذي صحبنا في لجنة من لجان الامتحان كان فيها عالم الشام الشيخ بهجة البيطار ليصحح معنا أجوبة التلاميذ فكان كلما وجد استعارة أو مجازاً خط تحته خطاً، وكلما وجد ترادفاً من اللفظ أو مزدوجاً من الجمل مد مدّة فوقه، ثم نقص عليه من درجات التلاميذ درجة. فحاورناه في ذلك فكان من رأيه الذي تعلمّه في باريز وعلّمه التلاميذ الذي جعلوه معلمهم، أن المذهب الجديد ينكر ذلك ويعده غلطاً، وكانت حجته القاطعة على صحة رأيه أنه رأيه. . . وبذلك دفع كل ما ردّ به عليه الشيخ، وما بيّن له من سنن العرب في كلامها، وما جرى عليه بلغاؤها وما نزل به الكتاب. . . ومال ناظر المدرسة إلى (رأيه. . .) لأنه هو وحده بيننا الذي يحمل شهادة التخصص في اللغة العربية من. . . باريز!

ولو أسعدتني القريحة لكتبت في التعليق على الامتحانات وما يكون فيها من الوساطات والشفاعات والالتماسات وما نالني منها، وكم أبصرت في داري من وجوه ما كانت لتكون فيها لولا الحاجة. . . وطلب (الشفاعات). . . وما يحيق بالمدرس المستقيم الشريف من عنت ومشقة، وما يقال عنه وما يلقى. . . وما يتخذ التلميذ من طرق الغش والحيل، فإذا أظهرتها وعاقبته عليها زعم أنك ظلمته، وتَمَسْكن وجعل نفسه ضحية فأثار عليك الناس، أو (تنمرد) واستكبر فبطش بك، أو شتمك أو وكل بك من يقوم بـ (الواجب)!

ولو أسعدتني القريحة لكتبت في تاريخ الأدب فصلاً أجعل إهداءه للدكتور صِلبا ليرى أن الله لا يستحيل عليه أن يمنح ملكة الأدب من لا يحمل شهادة اختصاص فيه. . . وأن الشهادة بلا علم ليست دائماً أفضل من العلم بلا شهادة. . .

ولو أسعدتني القريحة لوصفت هذا المشهد الذي يملأ النفس ألماً، ويفجر القلب أسى، منظر زميلنا المعلم الشاب (مصطفى شكري خسرو) الذي كان موعد زفافه اليوم، وكان صحيحاً معافى، فرئي اليوم نعشه يمشي إلى المقبرة وعليه غطاء سرير العرس ووقفت زوجته التي كانت ترقب الزفاف، تشهد الدفن. . .

مثل هذا الموضوع ينشد الأديب ويبتغي، ينشد لحظات الإشراق والتجلي، إذ يحس بأنه خرج من ذاته، فدخلتها روح أخرى، فطارت به إلى الملأ الأعلى، فأرته ما لا تراه عين، ولا تحيط بوصفه لغة بشر، وإنما يصور بإشارات ورموز ترفع قارئيها إلى هذا العالم النوراني العجيب

أما المشفقون على، الخائفون أن تلوي الحادثات قناتي، وتهد ركني، فليعلموا أني في أمان، وأن رسالة الأديب أن يطاعن عن الحق ويناضل حتى تعلو كلمته، أو يصرع دونه، ولينظروا أيهما أسير في الناس وأشهر، أورقة الشهادة الناطقة بفضل صاحبها، أم مجلة يكتب فيها الأديب فيقرؤها مائة ألف؟ وأيهما أقوى وأمتن، أهذا القلم الدقيق أم أرجل الكراسي التي يثبت عليها (أولئك) ويعلون بها؟ وأيهما أحد وأمضى، ألسان البليغ المفوه أم ألسنة ببغاوات الليسانس والدكتوراه؟

إن لكل أديب رسالة، فليقوّنا الله على تأدية الرسالة

علي الطنطاوي