مجلة الرسالة/العدد 366/أضرار التشجيع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 366/أضرار التشجيع

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 07 - 1940



للأستاذ سعيد الأفغاني

إن من عادتي إذا حل الصيف ونفضت عنى عناء التدريس وذيوله من امتحانات ومراقبات أن أفئ إلى قاعة المجمع العلمي العربي، فأسرح الطرف بما يرد إليها من الكتب والمجلات الغريبة. وكان أن وقع في يدي عدد من مجلة (العصبة) الصادرة في المهجر، فطفقت أطالع فيها، فوقفت عند هذا العنوان (ذلك الأمي اليتيم. بحث أدبي لا ديني) وإذا بالكاتب يسئ فهم النصوص ويغمز الأئمة الذين أجمعوا على أمية الرسول منذ صدر الإسلام حتى يوم الناس هذا، ويعجب من غفلتهم، ثم يتلطف بهم ويعتذر لهم بأن الخطأ أتاهم من حيث إن النبي كان أمياً ثم زالت أميته!

يتساءل حضرته: هل زالت عنه الأمية كما زال عنه اليتم بعد أن تقدمت به السن؟ هل تعلم القراءة؟ (وهو يعني طبعاً القراءة في الصحف التي لا يعرفها إلا من تعلمها مع الكتابة تعلماً). ثم قال: (نجيب بكل جرأة (هكذا والله بالحرف) إنه تعلمها وبز الأولين والآخرين!) انتهى وما شاء الله كان

ويأبى بعد ذلك إلا أن يسرد ما يراه حججاً من مثل: (أنا أفصح من نطق بالضاد)، (أنا مدينة العلم. . .)، (اطلبوا العلم. . .)، (اقرأ باسم ربك الذي خلق)

لست أريد الرد على هذا الكلام ولا أنا بصدد شرح أمية الرسول فمن العبث المخجل أن أشغل القراء بما هو معلوم من التاريخ بالضرورة، وإن مما يفهمه الصغير قبل الكبير أن القراءة معناها مطلق التلاوة، و (اقرأ) الواردة في الآية معناها (اتْلُ) عن ظهر قلب لا أن يسرد ما في صحيفة أو كتاب. وإن حض الرسول على طلب العلم، وكونه أعلم الناس لا ينافي أميته، وكل ما في الأمر أن هذا الناشئ جهل الفرق المقرر بين (الأمية) و (العامية) فتوهم تناقضاً بين النصوص، وأن هذا التناقض عمى عنه الأولون والآخرون حتى طلع حضرته ببصيرته النافذة ونظره الثاقب فأزال لبسه وحل تناقضه بقوله: كان أمياً ثم تعلم وزالت أميته. دع عنك ما يعرفه كل مطلع على سيرة النبي من اتخاذه كتاب الوحي ومن استعماله الرجال ليكتبوا عنه إلى الملوك ومن الحادث المشهور في الحديبية حين سأل علياً عن مكان كلمتي (رسول الله) من الصحيفة ليمحوها بيده الشريفة إذ أصر رسول المشركين على محوها وامتنع عليّ. . . إلى آخر القرائن التي لو لم يكن غيرها لما ساغ لأحد عنده شيء من الفهم أن يذهب إلى نفي أميته، فكيف ونصوص القرآن نفسها مصرحة بأميته في آيات مكية ومدنية، ولو لم يكن إلا هذا التواتر الصارخ لكان لعاقل أن يتهم عقله إذا تطرق إليه في هذا الأمر شك مهما ضؤل

أم كان من الحتم إذا قرر كاتب أن بحثه غير ديني أن يركب رأسه فيه فينقض المبرم ويبرم المنقوض، ضارباً بالعلم والتاريخ واللغة والمنطق والعقل عرض الحائط: يأخذ ما شاء ويدع ما شاء ويستنبط ما شاء كيف شاء بلا سناد من برهان ولا رابط من فهم ولا ضابط من منطق

أنا لا أشك في أن إفساح مجلة (العصبة) صدرها لمثل هذه الآراء الفطيرة ضرب من التشجيع، وأننا باسم هذا التشجيع نُقذي عيون القراء بما يزهدهم في سمين الأدب تحامياً لغثه

وقد آن للمفكرين أن يوازنوا بين مساوئ التشجيع وما يذكر من حسناته، حتى إذا رأوا الشر فيه أربى على الخير نبذوه غير مأسوف عليه

على أن أول الأضرار حائق بالذين تشجعهم: لأن أحدهم حين يرى سخفه مذيلاً باسمه في صحيفة سيارة، يداخله من الصلف والغرور ما لا يقوّمه مهذب بتهذيبه ولا ناصح بنصحه، ثم يترفع بعد هذا عن كل درس ومطالعة، ذاهباً إلى أنه شب عن الطوق وأن بوسعه أن يأتي بخير مما في الكتب، فقد صار كاتباً تحريراً وأديباً كبيراً؛ وهذا ما يعوق كثيراً من ناشئتنا عن التعلم والتأدب الصحيحين، وهو هو ما يشكو تفشيه فيهم كثير من العقلاء

لست أنكر أن التشجيع قد يكشف عن بعض المواهب ويسلك بها السبل المجدية التي تؤتى فيها أكلها، لكنه إلى ذلك يدفع إلى الحياة بخلق كثير من أنصاف العوام الذين انتفخوا غروراً واعتداداً وكانت أنوفهم في السماء وهممهم في الحضيض وقلوبهم هواء

ولأن نصد بتثبيطنا اثنين أو ثلاثة نأمل فيهم النجاح خير لنا وأبقى من أن نفتح الباب على مصراعيه فنشجع كل جاهل ودعي وغبي، ونملأ صحفنا ومجلاتنا جهلاً وسخفاً ونعيش في جو مشبع غثاثة وابتذالاً

وبعد فماذا على المرء أستاذاً كان أم أديباً أم صاحب صحيفة، إذ قال للشادي: يا بني تحتاج إلى أن تتعلم كثيراً وتتعب طويلاً قبل أن تحدثك نفسك بدفع ما تخط إلى المطابع؟

وإذا كان في كل حكومة إدارة خاصة لمراقبة المطبوعات من الناحية السياسية، فلم لا يكون في كل إدارة جريدة ومجلة وفي كل مطبعة مراقبة فنية دقيقة ترفض كل رخيص مبتذل من المقالات؟

إن من الواجب على المطابع أن تكف عن طبع كل كتاب ليس فيه سد ثغرة في المكتبة العربية أو إضافة خير أو إحياء تراث قيم. . . وحينئذ يستريح الناس من هذا الهِتْر الذي تدفعه المطابع إلى الأسواق حتى سَئِمَتْ النفوس الكتب والمجلات لما في أكثرها من غثاء وهزال

والحاجة إلى هذه المراقبة أمسّ لأن فيها وقاية للملكات من الابتذال والركاكة والفساد، وذلك أجدى على الثقافة من كثرة المعاهد والكليات، إذ أن الصحف والمجلات والكتب مدارس ميسرة لكل قارئ مهما ضؤل حظه من المعرفة. ومن أول الواجبات على هذه المدارس العامة أن تكون رافعة لمستوى قارئها لا خافضة له

في الأقطار العربية ظاهرة ثانية للتشجيع المجرم لا تقل عن هذه فتكا ونكاية، وليس بناصح من عرف موطن الداء فلم يدل عليه مجاملة أو إشفاقاً. عنينا بهذه الظاهرة داء الشهادات التي يحصل عليها حاملها بأرخص ثمن وأيسر سبيل

ومع أني أعرف أن الجامعات ليست سواء في التساهل (أو الغش إذ شئت الصراحة) أعرف كذلك أن بعضها قد تدنى - وخاصة مع الغرباء - إلى درجة لا يصح السكوت عليها، بل يجب على كل حكومة تحررت من أن يفرض على مصالحها هؤلاء المزورون فرضاً - أن ترفض هذا الضرب من الشهادات صيانة لمصالحها من عبث الجاهلين وحفظاً للأمة أن تنحدر إلى الهاوية إذا تولى أمورها المدلسون

يذهب الشاب العربي إلى إحدى ممالك أوربة، فلا يكاد يهبط عاصمتها حتى تراه مهرولاً إلى مكتبة مشهورة أُعطى عنوانها قبل سفره، فيقفها على أن مراده الحصول على شهادة (الدكتوراه) فتتفق معه على مئات من الفرنكات تتناسب هي وعدد الصفحات المطلوبة، فتجمعه بأحد عملائها من الأساتذة الذين يرتزقون من التزوير، فيكتب له الأطروحة ويعلمه إياها تعليما، ويقومان معاً بتجربة المناقشة، ثم يتقدم بها الطالب إلى الجامعة فيفوز بالشهادة ومعه درجة (مشرف جدَّا ويعود إلى بلاده فيعهد إليه بمنصب علمي أو إداري يشرف منه على كثير من المتعلمين ليس فيهم إلا من هو أعلم منه ومن أستاذه وأشرف

وقد بلغت الوقاحة ببعض الجامعات أن تعطي الدكتوراه لمن قدم إليها أطروحته بلغة يجهلها هو كل الجهل. فإذا أنت عجبت لهذه الجامعة كيف تترخص هذا الترخص، وهي في أرقى البلاد المتمدنة، أجابك المنافحون عنها: إن هذا شأنها مع الغرباء فقط، وهو من قبيل التشجيع لا غير، وليس على الجامعة من ضير، لأن هذا الجاهل لن يضر وطن الجامعة، وإنما الضرر منه على وطن آخر قد تكون سياسة الدولة التي تنتسب إليها الجامعة تتعمد هذا الإضرار تعمداً. والأمر بعد هذا على شاكلة كل البضائع المغشوشة التي تصدر هناك، ويكتب عليها: (بضاعة للتصدير إلى الخارج)

ولست أدري، هل في هذا الذي ذكروا ما يبرر الغش والتزوير؟ وهل يستبيح العلم تسمية الجاهلين علماء لوجه التشجيع فقط؟

ولما رأى الكثيرون هذه السبيل المعبدة لنيل الشهادات تهافتوا عليها وهجروا الطرق المشروعة من التعلم الصحيح والدأب المتواصل والعمل الجاهد؛ وصار الذي يطلب الشهادة من طريقها الحلال مثلاً شروداً بين أصحابه في الغفلة والغباء

ألا أخبرك، يا سيدي القارئ، بأشد من ذلك كله وأنكى؟ أتريد أن تعرف كيف آل الأمر بهذا التشجيع؟ فاستمع إذن لما أقصه عليك:

لقيني منذ سنوات خمس شاب من حملة (الليسانس) هبط دمشق فجال جولة في أروقة الحكومة فيها، وتكفل دهاؤه وشطارته ووسائطه أن يعهدوا إليه بتدريس اللغة العربية في إحدى مدارسها. فبعد أن عرفني بنفسه بلطف متناه واحترام فلبي، خدَّرني بمجاملته لساحرة، ثم قال:

إن أولى أمانيه في مجيئه إلى دمشق أن يجد السبيل لإنقاذ مخطوط عربي نفيس من الضياع، وإنه لقي كثيراً من علماء العاصمة وأدبائها، وارتاد أبهاءها الثقافية (صالوناتها)، متعرفاً لرجالاتها، ثم خاطبهم بمراده، فكلهم أشار عليه بأن يلقاني. . . وإن الغيرة على العلم والأدب هي التي تحفزه لهذا الأمر الجُسام، وهو مستعد أن ينفق على مشروعه النفقات الباهظة. . . وليس يعوزه إلا أستاذ ضليع محقق. . . عنده من الغيرة على لغة العرب وتراثها ما يستحلي من أجله كل صاب وعلقم. . . وإنه يحمد الله على أن هداه إليَّ ووفقه إلى إنجاح المسعى بي. . . الخ

كل ذلك يقوله بنبرة متحمسة ولهجة عصبية تعطف عليه الصخر الأصم. ولم يكن من هذا العاجز إلا أن وقع في الشراك قائلاً في نفسه: إن من الفرض على المرء أن يشجع من نصب نفسه لخدمة العلم مهما كلفه التشجيع من الجهد والوقت

وعدته أن أهب له فراغي الوحيد كل أربعاء من الصباح حتى الظهر، ولبثت على ذلك حتى انتهى العام الدراسي: يقرأ على في قاعة المكتبة الظاهرية نسخته التي نسخها بمصر من كتاب (سر الصناعة لابن جني) وبيدي النسخة الخطية التي تملكها دار الكتب الظاهرية من هذا الكتاب، وأنا أصحح وأقابل وأضبط وأعلق وأرجع إلى مصادر كثيرة في القاعة وهو يكتب ما أملي عليه. فما سلخنا العام حتى أتممنا من العمل قسما صالحاً لست أدري مقداره الآن بالضبط، ولكن الخطة شرعت والعمل وضح، والعقبات اجتيزت، والحزون سهلت، وبقي من العمل ما لا خطر له. كل ذلك على ملأ من الناس، وعلى عين من موظفي المكتبة ومناوليها وروادها لأن قانون دار الكتب يحظر إخراج المخطوط منها تحظيراً باتاً

ثم تعاقبت الأيام يلقاني فيهن هذا الشاب. كلما هبط دمشق بمظاهرة حافلة من البشاشة والشوق والتعظيم والاحترام. . . إلا أنه لا يذكر الكتاب بحرف طول هذه المدة، فظننت أنه ناء بالمشروع وعجز عن نفقاته فأهمله لسوء حاله، ولم أجد من المروءة أن أنكأ فيه جرحاً داملاً. . . وكرت الشهور وإذا بي أجد في دار الكتب قبل شهرين رسالة صغيرة بالفرنسية نال بها هذا الشاطر الدكتوراه، بعد أن عرضها - فيما بلغني - بالعربية على الجامعة المصرية فلم تر فيها شيئاً فرفضتها. قلبت الورقة الأولى من الرسالة فإذا خلفها: (سيصدر للمؤلف بالعربية: كتاب سر الصناعة لابن جني) فدار رأسي والله، لا حسرة على الوقت الضائع والجهد المسروق، ولا خشية أن يكون عبث بالعمل فأفسده ثم هيأه للطبع، ولكن فوجئت بما لم أكن أتصور أن الحياة تنطوي عليه من وقاحة وصفاقة، وعرفت أن ذلك التهافت من شبابنا على نيل الشهادات بأرخص الوسائل وأبعدها عن الشرف، قد دخل في طور آخر أدنى وأحط، هو ما قصصت عليك من أمر هذا الشاب وعلم موظفو المكتبة بالأمر فتعجبوا وشُدهوا وقال أحدهم: (هلا انتظر هذا المزور موت الشهود عليه وهم كثير). ثم بلغني أنه يريد أن يتقدم بهذا الكتاب إلى الجامعة المصرية لنيل دكتوراه ثانية؛ فهان الأمر عليّ لأن أقل مناقشة من أساتذة الجامعة المختصين في موضوع الكتاب وتعليقاته تطلعهم على التزوير فيه وعلى أن البضاعة المعروضة هي لغير عارضها

أحسب والله أن هذا الشاب - ولعل أمثاله في المجتمع كثيرون - لا يرى أنه أتى أمراً إدَّا، وأنه فعل فعله أكثر من سبقوه بنيل الدكتوراه من بعض الجامعات الأجنبية، ففيم يفرد دونهم باللوم؟

وإذا كان أولئك الدكاتير نقدوا من صنع لهم أطاريحهم المئات من الفرنكات فلأن هؤلاء الصانعين غربيون ماديون مرتزقون؛ وأساتذة دمشق بحمد الله مثاليون يحتقرون المادة، وحسب أحدهم من تعب السنين وسهر الليالي أن ينقذ تراثاً من الضياع وليس يهمه أن ينسب إلى سواه

وبعد فهذه أنماط مختلفة من أضرار التشجيع، عرضتها ليعالجها وأمثالها المطلعون من الكتاب، حتى يحذرها الناس

وإن أختم بشيء فهو قولي للمسؤولين من علماء وأدباء وأصحاب صحف ومجلات ورجال جامعات:

احرصوا على تثبيط الدجالين والمغرورين حرصكم على تشجيع الأكفياء الصالحين، وما أنتظر لكم من ثواب الله وشكر العلم وامتنان الناس على تثبيط الأولين أضعاف ما لكم على تشجيع الآخرين.

وإذا لقيتم هذا الضرب الوبيل من الناس وجاءوكم بغشهم وتزويرهم وغرورهم وجهلهم، فثبَّطوا ثم ثبطوا ثم ثبطوا

(دمشق)

سعيد الأفغاني