مجلة الرسالة/العدد 364/حركات الإصلاح الإسلامية
مجلة الرسالة/العدد 364/حركات الإصلاح الإسلامية
4 - أزمة إسلامية
للدكتور علي حسن عبد القادر
أما حركة التجديد الإسلامية بمصر فقد صدرت عن عوامل وأسباب أخرى غير التي ذكرناها عن حركة الهند، وإن كانت قد سلكت نفس الطريق، وجاءت بنتائج متشابهة. ونحن لا نستطيع أن نجزم بأن الحركة الهندية كان لها أثر في حركة الإصلاح المصرية. وإذا ما تصفحنا ما كتبوه من رسائل وكتب فإنا لا نجد بينهما أي ارتباط. ويظهر لنا واضحاً ما بينهما من فرق إذا عرفنا أن الروح التي سادت الحركة الهندية كانت (روحاً ثقافية) جاءت من التفكير والنظر الذي كان نتيجة اتصال الإسلام بالحضارة الأوربية، وجهودهم الإصلاحية كانت تحت تأثير أوربي، أما الناحية الدينية عندهم فكانت أمراً ثانوياً.
والحركة المصرية كانت، على الضد من هذا، حركة دينية نتيجة تفكير ونظر ديني، وسلكت طريق الإصلاح مستقلة عن أي نفوذ أجنبي، فهي عندما ترفض أعمالاً أو بدعاً لا تردها على أساس أنها (معادية للتمدن والحضارة) بل لأنها (معادية للسلام) مخالفة للقرآن والسنة الصحيحة، كما أن البدع القائمة على الحديث كانت ترد على أساس من علوم النقد الإسلامي في الجرح والتعديل. وهي تهتم من ناحية أخرى بخلقية الإنسان كمسلم وكشرقي، وتكره التقليد الأعمى للأوربيين، وتحذر من أضراره، حريصة جد الحرص على (الخلقية العربية الإسلامية)
وهنا في مصر حيث يقوم منذ قرون الجامع الأزهر، هذا المركز العالمي العظيم للعلوم الإسلامية، والذي كان يسير على طريقة قديمة جامدة، ترتبط حركة الإصلاح باسم الإمام محمد عبدة تلميذ جمال الدين الأفغاني الممتلئ به إعجاباً
وقد كان محمد عبدة من طلاب الأزهر ومن علماء الدين، ثم صادفته أزمات داخلية طويلة حتى عرف جمال الدين أثناء مقامه بمصر فرسم له الطريق الذي سار عليه فيما بعد، وسلكه وسط زعازع ومنازعات داخلية وخارجية انتهت به - مع الارتباط بالحركة العرابية - إلى النفي من مصر. وبعد ذلك وصل إلى مركز الإفتاء ونال اعترافاً عاماً ونفوذاً كبيراً، وكان ولا يزال موضع عداوة قاسية من طبقة المتزمتين الجامدين
وإنه وإن كان فيما انتهى إليه قد صبغ الإصلاح بمصر بلون خاص - مع العلم بأنه كان ضد النفوذ الغربي - فإن الاسم الذي أطلقه عليه جولدزيهر بأنه (ذو ثقافة وهابية) أقرب الأسماء إليه وأولاها به. فمن الحق أن نقرر أن هذا العامل هو الذي يفسر لنا إصلاحات محمد عبدة الدينية التي لا ارتباط بينها وبين الحركة الهندية. وأن ما أسماه جولدزيهر (ثقافة وهابية ليس معناه أم أن هذه الخطة قد جاءته مباشرة من الوهابيين، وإنما غرضه التفريق بين حركة الثقافة في الهند والحركة المصرية التي تسودها العوامل الدينية وترفض ما لا يقره الدين، الأمر الذي لا شك في كونه أثراً جاء من العربية الخالصة
وكان لسان حال مدرسة الإمام محمد عبدة مجلة النار التي يحررها السيد رشيد رضا السوري التي أخذت تنازع في الإجماع المنعقد على المذاهب وتقليدها وتطالب بالاجتهاد على أساس القرآن والسنة. فقد رأت هذه المدرسة، مثل مدرسة الهند، أن الإسلام دين عالمي موافق لكل الشعوب وكل العصور، متفق مع الحضارة، ولكن على شرط ألا يأخذ بمذهب واحد من المذاهب، بل يجب الرجوع إلى القرآن والسنة الصحيحة، فهي ترى مثل الإمام الغزالي الذي صرح بهذه الفكرة منذ ثمانية قرون أن المفتاح لشرح الحالة التي طغت على الإسلام، إنما هو في جمود المذاهب الأربعة وانحصار العلم فيها وحدها، تلك المذاهب المتخالفة، وما فيها من تكرر عتيق، ومماحكات غير نافعة، وما تلاها من فقه المتأخرين، ليست هي الإسلام والدين، وإنما ذلك في القرآن والسنة. وأغلب ما في هذه المذاهب إنما يقوم على الاشتغال بفروع جزئية تتغير بتغير البلاد والأوقات وتخضع للتغيير تبعاً للعلاقات الاجتماعية، ومثل هذا لا يصح أن يسلك به في سلك ديني ثابت لكل زمن غير قابل للأخذ والرد. وكان من أثر هذه المذاهب الاختلافات التي حدثت في الإسلام مما وقف ازدهاره. وهكذا رفضت هذه المدرسة أساس المذاهب الفقهية القائم على (اختلاف أمتي رحمة)، وقالت: إن الأمر بالعكس. وطعنت في صحة هذا الحديث الذي يخالف آيات كثيرة من القرآن.
وقالت أيضاً أن الوحدة والمرونة إنما تكون بالرجوع إلى القرآن والسنة وحدهما حيث توافق الشريعة الحياة في كل وقت وكل حال، وبهذا يمكن الرجوع بالإسلام إلى حالة القوة والشباب
كما رأت هذه المدرسة أن باب الاجتهاد لم يقفل بل إنه مفتوح على مصراعيه لبحث كل المسائل الطارئة. وليس الحكم فيها خاضعاً لحرفية النصوص، بل يجب اعتبار مصلحة العالم الإسلامي أولاً وقبل كل شيء (وليس الشرع محصوراً ي جلود كتب الحنفية). فإذا ما قام الفقه على هاذين الأساسين: الاجتهاد والمصلحة، فإنه يكون صالحاً لكل زمان ومكان، وقابلاً لما تقضى به الضرورة من أمور تدعو إليها المصلحة وموافقة العصر. وحينئذ يمكن الرد على الذين يزعمون أن الفقه الإسلامي إنما هو لزمن خاص ومكان خاص، وليس عاماً لكل الشعوب وفي كل الأوقات
ونظراً لأن الإمام محمد عبدة كانت له شخصية دينية عميقة لأنه كان من مدرسة صوفية، فإن الإصلاح الإسلامي بمصر كان - مخالفاً في هذا الحركة الهندية - يمتاز بأساس من الإيمان والمحافظة وبروح حارة من التقوى. ولما كان يسود الاعتقاد بسمو الوحي ورفعته، جاء الاقتناع القوي بأن العلم والدين عند الفهم الصحيح أخوان لا يختلفان، وعلى هذا الأساس لم يرفض محمد عبدة الأخذ مع الحرية الكاملة بالإصلاح العلمي
حقاً إنه لا يمكن أن يكتم أنه عند ما يحدث في بعض الأحيان خلاف بين العقل والسنة فإنه يجب الأخذ بالأول، بل إنه زيادة على تجب مراعاة حالة الأمة والظروف، فيقدم ذلك على النص الصريح. أما مماحكات الفقهاء فقد رفضت بشدة من محمد عبدة ومدرسته، ووضع بدلاً من ذلك القديم المتفتت جديد مأخوذ من الاجتهاد في الأصول موافق للعلاقات الحاضرة. وفي هذا الطريق سارت هذه المدرسة - مثل الوهابية المعتمدة على ابن تيمية - في رفض الخرافات والبدع، ولكن في الوقت نفسه - موافقة في ذلك للغزالي - حاولت إدخال المبادئ الخلقية والأعمال القلبية في الفقه، مع اقتناع عميق بأن بساطة الإسلام الصحيح التي لم يمسها تغيُّر الأيام تجعله قابلاً لكل حركات التقدم والتطور
ومن هنا نرى أن كلتا الحركتين الهندية والمصرية تنتهيان تقريباً عند غاية واحدة، وهي أن الإسلام عند الرجوع به إلى شكله الأصلي، وعند الأخذ بروحه ولبه، وبعد أن ينقى من الأدران التي لصقت به، ومن جمود العصور المتأخرة، لاشك أنه يصبح موافقاً لطلبات الحياة العصرية. وإذا ما تأملنا قليلاً، فإننا نجد أن الطريق الذي يمكن أن يسلكه الإصلاح الديني من الحركتين سواء.
إلى هنا يقف الأستاذ هرتمان في تأريخه للحركة الإصلاحية في مصر والحكم عليها ولم يتناول بعد الحركة التي تلتها وشخصيتها القوية الجبارة وأسلوبها الحاسم الدقيق. وهو ما سنتناوله تذبيلاً وتعليقاً على هذه الرسالة آخر الأمر.
علي حسن عبد القادر