مجلة الرسالة/العدد 364/إلى أين. . .؟
مجلة الرسالة/العدد 364/إلى أين. . .؟
للأستاذ محمود محمد شاكر
(تتمة)
أخذ صاحبي كأس الماء في يده، وجعل يرشقها ببصره رشقاً حديداً يلمح لمحاً تحت حواشي الليل، وكنت أرى وهج مقلتيه يكاد يتطاير تطاير الشرار بينهما وبين الكأس. وأدام نظره طويلاً إلى الماء وهو يقر شيئاً بعد شيء ويسكن، فكأني به كان يغمس نظراته الملتهبة في برد الماء، ليبترد من وقدة العاطفة التي تضطرم في داخله. وبعد فترة عب من كأسه عب الظمآن استحر على كبده العطشى، ثم فرغ فوجه إليّ، وقد برق وجهه، أو هكذا تخيلت ثم قال:
آه. . .! ما كان أبصر ذلك الأعرابي الظريف الذي عطش وضل عن الماء في بيدائه، فلما رمى به السير فأفضى إلى بئر عميقة عادية قد بعد ماؤها، أجهد أن ينزف بدلوه من بعض مائها حتى بُلغ به وكاد يهلكه غؤور الماء، وبعد لأي ما استطاع أن ينزح من مائها ما يرويه، حتى إذا شرب وارتوى وأطفأ غلة الظمأ، حمل تلك الدلو بين يديه ينظر إليها ويقلبها كأنها بني من صغار بنيه يرقصه ويداعبه ويقول:
أي دلاة نهل دلاتي!! ... قاتلني وملؤها حياتي!!
كأنها قَلْتٌ من القلات
فانظر كيف يفرح الرجل بأديم جاس غليظ متغضن موات! إنه يحبه، ويحرص عليه، ويرق له، ويدلله دلالاً كأنه طفل يطفله ويرعاه. وما ذاك إلا أنها أداة يتخذها ليطفئ بها الغلة التي يؤرثها حر الظمأ، لو هو فقدها في مجاز البيداء المجدبة الظامئة، فقد معها القدرة على الحياة، ومع كل ذلك فما هي إلا أديم أصم، وأداة لا خير فيها إذا لم يكن كل الخير من قوة الساعد التي تمتد في رشاء يتطوح بين أرجاء البئر
ما أبلغه من أعرابي، لولا نقل حديثه من الدلو إلى المرأة!
(قاتلتي وملؤها حياتي!!)
إنها المرأة يا سيدي هي وحدها التي تستطيع أن تكون القاتلة المحيية في وقت واحد. إن كل ما فيها هو حياة محبها، وكلما يكون منها - إذا أرادت - هو سبب من أسباب سلب هذه الحياة سلباً جباراً لا رحمة معه ولا هوادة فيه
إن المرأة الحبيبة هي النبع الصافي النمير الذي يرى المحب الصادق في كل قطرة منه حياة تتلألأ في روحه بالمنى، فإذا أرسلت هذه الحبيبة في دمه قطرة واحدة من مائها - أي من حبها - أطفأت هذه الواحدة كل النيران الملتاعة التي تجفف بحرِّها ماءَ حياته. فإذا منعتْ عنه غيثها جعلت كل أفكاره وأحلامه وأمانيه تحتطب من الحياة ما تؤرِّث به تلك النار المبيدة التي لا تنفخ نفخها على شيء إلا جعلته رماداً أغبر. ويومئذ تتحول الحياة فيه إلى خمود بليد، أو إلى حماقة مجنونة كما يعترض الرماد للريح العاصف تطير به في كل وجه حتى يتفرق. . .
ثم سكت صاحبي. . .، وخيل أليّ أن غمامة سوداء داجية من ذكرى أحزانه وآلامه، قد أظلَّت عليه وتدانت أهدابها، فهو يرفع يمينه إلى جبهته، ثم يُمرها إلى ناصيته، إلى يافوخه يضغط عليه. ويتنفس خلال ذلك أنفاساً جاهدة ينتزعها انتزاعاً من أقصى منابع الحياة في قرارة نفسه. . . ما أقسى الذكرى إذا ضربت في القلب بفأسها تحطمُ وتدِّمر وتنقضُ بناء الأيام الماضية!
إن غبار هذا الهدم ليرتفع ويثور حتى يملأ الجو النفسي بما يضجر ويخنق من ترابها، وما أضعف الرجل إذا أخذت الذكرى تلح عليه إلحاح الكبرياء، تتحدى الإنسانية والرجولة بأوهن الفكر! الذكرى. . .! هذا شيء مخيف مفزع. إنها الشبح الذي يدب من بين القبور المهجورة التي تناثرت فيها أشلاء الموتى. إنها تقتل بالرعب، فإذا أتت المحب ذكرى حبيبه، فذاك شبح هائل يقتله بالرعب والحنين معاً
أقول لنفسي: أيها الصديق البائس! إذا لا تعرف طريقك إلى النسيان؟ لماذا تقف في مقبرة أفكارك دائماً فترتاع وتتألم؟ لماذا لا تحاول أن تسخر من الحياة التي سخرت منك؟ لماذا أنت حائر أيها الصديق؟ وبقيت أتداول الهاجس من أفكاري فيه، حتى شُغِلتُ به عنه. ثم جاءني صوته من بعيد كأنه كان يتكلم في بعض أحلامي تحت النوم:
اسمع. . .! اسمع يا صديقي! لقد كنت أفكِّر في بعض ما شغلني عن تمام حديثي قبلُ. لقد سألتَني وساءلت نفسك: أهكذا يضمحل الرَّجل؟ أما إني لا أستطيعُ أن أضعَ لك اللغة وضعاً جديداً حتى أعبِّر لك عن كل خالجة من خوالج النفس الإنسانية حين تضطرب فتهتز فتطير هزاتها على مساقها ومجراها، ثم تتشعب فتنتشر فتعَمل عَمَل الجيش المحارب في هدم صفوف العدو وتفريقها وبَعْثرة قواها المحتشدِة لِّلقاء احتشادَ البنيان المرصوص بعضه على بعض
نعم. . . لن أستطيع ذلك، ولكني سأصف لك بعض الصفة واستشعر أنت كيف يعمل ذلك في هدم الرجل ويسرع في تدمير رجولته أمام أنوثة طاغية تتحدى وتأخذ سلاحها الذي تتحدى به من رجولة عواطف المحب الذي يَرى أن تعاونَ القلبين بالحب، وصبابة النفس إلى النفس الأخرى، هو تمام رجولته وتمام أنوثتها
كان لقاؤهما تجديداً غريباً في قديم نفسه. . . لقد استطاعت هذه الساحرة الجميلة الفتانة - كما وصفت لك - أن تمحو ماضيه كله، وأن تمزق صحُفَ أيامه المهملة التي كان القَدَر يكتب فيها تاريخه الأول. مزقت هذه الساحرة تلك الصحف، وألقت بها في النار التي أشعلتها في قلبه بالحب. بدأ يحيا بها وبسحرها حياة رائعة فاتنة من أحلام الحب، وجعلت هي. . . وجعلت هي. . . آه يا صديقي! هذا كثير كثر، إن ذكرى ذلك كله تؤلمني. . . إنها تعذبني. . . إنها تخِز قلبي بمثل السنان الحديد يقع وخزاً متتابعاً شديداً يتفجر في نزعه بالدم. . . كيف أستطيع أن أقول لك الآن ما الذي كانت هي تفعل! وماذا أقول لك؟ آه. . . إن أنوثتها، بل رقتها، بل حنانها، بل رحمتها، بل إخلاصها، بل حبها. . . كيف يكون هذا؟ بل ذلك الصوت المنغم الروي الممتلئ صوت الحنين المتعذب. . . صوت القدر الآتي من بعيد بأفراح السعادة. . . صوتها. . . صوتها. . . ذلك الصوت المعبر عن نفسها بألحان تتجاوب وتسري وتموج في كل غيب من غيوب نفسه المتراحبة. . .!
إن كل هذه العواطف التي يرسلها إليه صوتها وهي تتكلم كانت تعبُّ فيها عبابها، حتى يجد الأمواج النفسية تتقاذفه في فرح بعد فرح، ومن سعادة إلى سعادة، ومن حلم إلى حلم، كأنه ماض إلى جنة الخلد في زورق من اللذات الطاهرة الجميلة، تحف به الملائكة تغني لقلبه أناشيد المجد والخلود. . .! إنه سوف يسمو بروحه إلى ذلك الجو الذي يعطِّره النبل، ويفيئه الحب، وينديه الحنان، وتضيئه هي بسنتها المشرقة، وتسبح فيه النجوى أنغاماً حرة تهيم وتتعانق
جعلت أيامه معها تتهدل ثمارها الناضجة المغرية، وجعل يقتطف منها حيث أراد، وجعلت هي تغذوه كل يوم غذاء جديداً هنيئاً يملأ روحه قوة وشباباً وعزماً. وجعل إحساسه بسحرها وفتنتها يغلو به في إيمانه بعبقرية أنوثتها الكاملة الجديدة. أجل. . .، إنها أرسلت في دمه الحياة الجديدة، الحياة التي تجدد فكره في أشياء الدنيا، وتستفزه إلى فرض سلطانه على هذه الأشياء.
وكانت هي تنشئ لعينيه في كل يوم بل في كل ساعة دنيا مائجة من فنها البليغ الذي يعبر عن ضميره تعبيراً بليغاً كبلاغة أنوثتها، فانبثقت في عينيه وفي قلبه ينابيع متفجرة من الأحلام الرقيقة والأماني الطائرة، تلك الأماني التي تتنهد دائماً على قلبه بأنفاس الفجر. . .
امتلأت عيناه الحائرتان بأحلام الشباب، وانبعثت القوة المتلهبة بالرغبة، فهو ينظر ثم يندفع إلى أمانيه يريد أن يختطف من السعادة السانحة سنوح الصيد المستطرد، قبل أن تسبقه إليها أنياب الشقاء والألم والبؤس فتفترس منها وتنهش. إنه يريد أن يظفر بسعادته ليتمتع بالحياة بعض المتاع، ولكن يا صديقي. . .، إن هذه الغريزة المتحكمة في الإنسان وفي أعماله - غريزة التمتع بالحياة - هي التي تذهب بالإنسان في القدر مذهباً بعيداً. . . إنها هي التي تجعل الحياة لعيني كل حي، ولكنها هي هي نفسها التي تعمي المحب فلا يبصر تلك القوة السحيقة التي فغرت له أشداقها وأحدت أنيابها، فلا يزال - إلا أن يعصم الله - يتهاوى فيها ما اندفع به إليها هواه
ولكن كيف كان يملك صاحبي إرادته في البصر؟ إنها كانت تعمل أبداً - وهو لا يستطيع أن يدرك - على أن تبقى حبيبة أحلامه ولو قتلنه. نعم إن بعض ضحكها كان يصفق بدلالها كأن أمواج شبابها تتلاطم فيه وتزخر. شبابها. . .!! شباب امرأة جميلة متكبرة معجبة، شباب أنثى تحب، وتريد أن تبقى أبداً محبوبة يهيم في أوديتها المسحورة من يحبها. ومع ذلك فقد كان يجد لما يلقاه منها فرحاً في نفسه، ونشوة في روحه، وعربدة في دمه، كان كالسكران بحبها لا يستطيع شيئاً ولا يملك إلا أن يخضع لذلك السلطان المرح الظافر المبتسم، السلطان العنيف الذي يقبض على روح المحب بحنان طاغ من روح من يحب
وعلى ذلك فإن هذا الرجل المسكين - على عنقه وصلابته وفحولته - لم يجد بدّاً من أن يسلم لها قياد عواطفه التي تصبو صبواتها إلى أناملها الرخيصة الساحرة. كيف يقاوم الرجل الصب - مهما استصعب والتوى - امرأة مقدسة يحبها، فهو يتصبب بروحه في روحها؟ استسلم لها، ولكنه كان يشعر بعد هذا الاستسلام أن ليس في هذه الدنيا شيء يستطيع أن يقهر إرادته، أو أن يحول بينه وبين ما يرمي إليه من أغراضه وإن بعدت. كان معنى خضوعه لها أنه يستطيع إذن أن يخضع الأشياء كلها لسلطانها. . . ما أعجب هذا الحب! أرأيت إلى ذلك الضرس الفولاذي الصليب المتكبر من الجبل الإنساني في صاحبي ذاك. . .؟ لقد كان يُرَى وهو يذل لهذه الساحرة أيامه وليليه خاشعاً مستكيناً كأنه يهودي منبوذ فقير في غربة متوحشة!
ولكن لا تخطيء معنى الذل في فحوى حديثي، أعرفه صورة أخرى من الكبرياء المأسورة في سجن امرأة محبوبة. إن إحساسه بحبه لها كان ضروباً من فن الروح العاشقة. لم يكن يراها امرأة مجردة يحبها بحرارة القلب الملتهب بالرغبة أو بالحب. كلا، كلا، لقد كان يجدها أحياناً في أوهام عواطفه ومدّها أمّاً فهو يريد من أمومتها المحبوبة أن تمهد له في قلبها تلك العاطفة الوتيرة اللينة من الحنو والعطف. وهو يراها مرة أختاً يلتمس في مس يديها، وفي نبرات صوتها، تلك العاطفة الساكنة ذات الأفياء والظلال، عاطفة الأخت التي تضحي في سبيل أخيها المنكوب، ثم يرقى بها إحساسه فينظرها أخاً مخلصاً يشد أزره إذا انطبقت عليه قحم العيش ومتالف الحياة. ثم إذا هي تارة أخرى روح من الأبوة المسددة، الحازمة المصممة البليغة، لا تزال تجد الرجل مهما أناف به العمر وشمخ ذلك الطفل العابس الغرير الطياش
وهي مع ذلك كله الصديق الذي يحامي عنه إذا تعادت عليه الدنيا بأسرها، الصديق الذي تبقى صداقته تطوف عليه تحرسه وترعاه. أتدري بعد هذا إلى أين تنتهي به هذه الألوان المختلفة من إحساسه بها؟ لقد تنتهي في بعض ساعاته معها أن يراها أستاذة، فهو كأنما يجلس بين يديها ليأخذ عنها روائع الحكمة، ويسألها عن سر الأبدية المحجب بالغيب، ويلقى عندها كل أفكاره المعقدة في الحياة، يلتمس عند حكمتها الخالدة ما تعقد، وأن تمنح أفكاره ذلك الهدوء الفلسفي الذي تسبغه الحكمة العالية على سدنتها وحفاظها
ثم سكن صاحبي وغشيته فترة الحديث إذا تطاول به وامتد ولكنه ما لبث أن أقبل عليّ يندفع: أنظر. . . أنظر الآن كيف يضمحل الرجل. هذا هو في مد عواطفه وهي تفور وتثوَّر بأمواجها في الحب العنيف المتلاطم، ثم إذا هي تطير عن أحلامه وتنفر من مجثمها السحري، وإذا هو منفرد لا يدري كيف كان هذا؟ ولمَ؟ ومن أين؟ وإلى أين. . .؟
إنها ذهبت وتركت الدنيا التي أنشأتها له مشرقةً زاهيةً، ناضرة فإذا هي تطفأ وتخبو وتذبل. إن قوة رجولته قد ذهبت تطلبها عند قبور الذكرى، فكيف لا يضمحلُّ الرجل؟ كيف لا يضمحلُّ؟!
محمود محمد شاكر