مجلة الرسالة/العدد 363/في حياتنا الوجدانية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 363/في حياتنا الوجدانية

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 06 - 1940



(مهداة إلى الأستاذ عبد المنعم خلاف. . الكاتب الذي أحب

عالمه الوجداني)

للأستاذ حسين مروة

ما الكرامة وما الشرف؟

ما الحرية وما المجد؟

أسماء فخمة رائعة، ذات أجنحة سحرية عجيبة ننجذب إليها طائعين مسحورين، فتحلق بنا في سموات من الخيال مواجة بالأنوار والألحان والمباهج. . .

أسماء ذات أبعاد ضئيلة، محدودة ناقصة، يكمن في أطوائها سر من الأسرار لا تحده الأبعاد الواسعة، سر يفيض الخير على جوانب الحياة كلها، ويطوف بالنفوس الإنسانية جميعاً فيثير في الضعيف العاجز مجرد الحنين واللهفة والألم، ويحمل القوي القادر على ركوب الأخطار والأهوال والمكاره، وقد ينفخ في الضعيف الحي الطموح قوة تكتسح بذور الضعف، وتصرع عوامل العجز والخنوع والاستسلام. . .

ما هي هذه الأشياء الحبيبة للإنسان تبهره أضواؤها ومباهجها وتشتد لهفته إليها كلما اقترب منها، ويتغنى بوجده بها في سره وجهره، في صحوه وسكره، في كوخه الوضيع وقصره الرفيع، سواء كان غبياً أم ذكياً، ضعيفاً أم قوياً. أكان بادياً في الصحراء القاحلة، أم حاضراً في المدينة العامرة؟ أكان فلاحاً يتصبب عرقه في حقله، أم عالماً يجرب في مخبره وينقب في كتبه؟ ما هذا الهوس المحموم يدفع الإنسان - أفراداً وجماعات - إلى غمرات الموت بين اللظى المستعر والحديد الحاصد، فيندفع راضياً مستعذباً لقيا الشدائد في سبيل ما يدعوه الكرامة والشرف أو في سبيل الحرية ومجد الأوطان، لكأنما هو - حين يلقى الشدائد في هذا السبيل - إنما يلقى أحبة أعزة في ظلال أمن وارف ودعة ظليلة ناعمة. . .؟

ما هي الكرامة والشرف؟

وما هي الحرية والمجد؟

هل هي حقائق ذات قرار في عالم الحس والواقع: العالم الذي نتعرف إلى حقائقه الم بإحدى هذه الأدوات الخمس: العين التي تبصر الألوان والأنوار والظلال، والأذن التي تسمع الأصوات، والفم الذي يذوق الطعم، والأنف الذي يحس الرائحة، واليد التي تلمس الحرارة والبرودة والخشونة والنعومة؟

هل الكرامة والشرف، وهل الحرية والمجد حقيقة من هذه الحقائق المحسوسة في هذا العالم الواقعي الذي لا يعترينا الريب بوجوده؟

كلا: ليست هي شيئاً من هذا كله - كما نعلم جميعاً -

أتكون - إذن - معدومة لا قرار لها في هذا الوجود الواسع؟

أتكون - إذن - غارقة في بحر العدم اللانهائي؟

ولكن: كيف تكون الكرامة والشرف، والحرية والمجد - عدماً من الأعدام وهاهي أضواؤها الباهرة تبهر عيون الشعوب الضعيفة والقوية على السواء، وهاهي أنغامها الصارخة تدفع بالإنسانية اليوم إلى المجزرة الهائلة الطاحنة، وهاهي الدماء البريئة تراق على جوانبها، وقد كانت كذلك من قبل أن يقول الشاعر العربي العظيم:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم

وستظل كذلك حتى ينصب ميزان العدل أمام الديان الأعظم. . .

كيف تكون الكرامة والشرف والحرية والمجد عدماً من الأعدام وهي نفسها تلف سبعين مليوناً ونيفاً من العرب بشملة واحدة وهم في رقاع من الأرض متباعدة؛ وهي: هي نفسها تشد الأواصر وتجمع القرابات، وتوحد المشاعر بين شعوب العربية على اختلاف الديار والأحوال. وهي نفسها - كذلك - تدفع ببضعة نفر من هؤلاء الشباب المتحمسين إلى المسرح يمثلون - أمام جمهور عربي متحمس - دوراً من أدوار جهاد العرب المقدس في سبيل الكرامة والشرف وفي سبيل الحرية ومجد الوطن؟

إذن: لا سبيل للشك في أن هذه المعاني الوجدانية السامية ليست هي من الأشياء الغارقة في بحر العدم المطلق، ولا سبيل للشك - إذن - بأنها في قرار مكين من هذا الوجود

نعم: هي موجودة دون شك ولكن. . . ولكن أين يقع محلها في بحر هذا الوجود الأوسع ما دامت لا قرار لها - كما قلنا - في عالم الواقع المحسوس؟

وهنا يبدو لنا سؤال هو مفتاح السر في هذا الموضوع: ترى: أكان الإنسان إنساناً بمجرد هذا الوجود الحسي الواقع وحده؟ إذن فما معنى هذه الإنسانية المتبجحة بأسرارها الخطيرة؟ ما معنى هذه الإنسانية المفضلة - تفضيلاً مطلقاً - على كل شيء وهب نعمة الوجود؟. . . ما معنى هذه الإنسانية المزهوة بعظمتها إذا كان وجودها قائماً على جانب واحد هو الجانب الحسي الواقعي، الجانب المادي دون غيره؟ وأين يمتاز الإنسان - إذن - عن الحيوان الأعجم إذا كان يشاركه في هذا الجانب المادي من الوجود ثم لا يزيد شيئاً بعد ذلك؟

اللهم لا: إن هذا الإنسان العظيم لأرفع شأناً، وأجل خطراً من أن تكون إنسانيته العظيمة قائمة على وجودها المادي مجرداً، لا يسنده جانب آخر من جوانب الوجود. . . لا: ليس الإنسان كائناً حياً وكفى. . . بل إن الإنسان: كائن حي، أعلى، فهو إنسان - إذن - لأنه ذو جانبين اثنين يشارك بأحدهما سائر الكائنات الحية في هذا الوجود، ويتفرد الجانب الآخر واقفاً على قمة الهرم: هرم الحياة

فما هو الجانب الآخر الذي يصعق بالإنسان إلى قمة الهرم؟ هو لون من الوجود أفاضته الطبيعة على هذا الكائن الحي فصار إنساناً، وصار الإنسان سيد الوجود، على الإطلاق

هو لون من الوجود غريب يأبى التعريف والتحديد، لأنه يسمو فوق الحدود وفوق القيود، وإنما نعرفه بمظاهره وأثاره ليس غير

هو الآية الكبرى من آيات الطبيعة جاءت بها لتقيم البرهان على عظمة الخلق والإبداع الإلهي

هو الكوة التي يطل منها الأنبياء والمصلحون على الناس ليغدقوا عليهم أنوار الإيمان والفضيلة والرحمة والعدالة فتتفتح له عيون، وتعشو منه عيون. . .

هو المنظار السحري العجيب الذي يتطلع منه الشعراء، والفنانون الملهمون إلى الوجود، فيكشف لهم أسرار الوجود وخفاياه، ويلون لهم الحياة بألوان من الجمال وألوان من القبح، ويصور لهم الناس صوراً من الملائكة وصوراً من الشياطين، ويخلق لهم عالماً من السعادة يموج بالعطر والنغم، أو عالماً من الشقاء تفح فيه الأفاعي، وتضري الذئاب. . .

هو مصباح الفلاسفة والمثاليين يدورون به في مجاهل الكون وخباياه يبحثون عن الحقائق الكلية المطلقة، ويتغلغلون به إلى مكامن السر المحجب يستكنهون معنى الإرادة العليا فيما وراء المحسوس، أو يسيرون به على الأرض في دنيا المطامع والشهوات يبشرون برسالة الحق والخير والجمال الأسمى

هو العالم الجميل الذي يعيش به المحبون في سبحات من النور تصور لهم كل لمحة من جمال الطبيعة معنى من معاني الحبيبة أو الحبيب

ذلك هو عالم الخيال والذهن والإدراك، أو هو عالم (الوجدان) كما يسميه العلم

فللإنسان - إذن - وجودان لا وجود واحد: هما الوجود الواقعي المحسوس، والوجود الذهني غير المحسوس، أو فلنقل: إن للإنسان حياتين: حياة مادية، وحياة وجدانية، وكلما كانت حياته الوجدانية أوسع أفقاً، وأكثر إشراقاً - كان أقرب إلى الإنسانية الصحيحة أو كان أقرب إلى معنى الكمال الإنساني وكلما ضاق به أفق الحياة الوجدانية ونظر إلى دنياه من نافذة الحياة المادية وحدها - كان أبعد ما يكون عن الحقيقة الإنسانية بمفهومها الأعلى، وأقرب ما يكون إلى حقيقة هذا الحيوان الأعجم يشاركه كل المشاركة في ماديته العمياء المجردة، بل قد يفضله الحيوان الأعجم في هذه الناحية المشتركة

وشعور الإنسان بالكرامة والشرف، وشوقه إلى الحرية والمجد - هما المظهر الأسمى لإنسانيته الصحيحة، لأن الشعور بالكرامة والشرف، والشوق إلى الحرية والمجد - هما أقوى مظاهر الحياة الوجدانية، وأدل على خصب الخيال، وسعة آفاق الذهن، وغزارة ينبوع الجمال النفسي، وقوة إشعاع الروح - هذه الأمور التي تنبع رأساً من دنيا الوجدان في حياة هذا الكائن الحي الأعلى. . . الإنسان

ولا فرق في هذا كله بين شعور الإنسان بكرامة نفسه وشرفها، وشوقه إلى حريتها ومجدها، وبين شعوره بكرامة قومه وشرفهم، وشوقه إلى حرية أوطانه ومجدها، بل: لعل هذين أمران متلازمان لا ينفكان كما يبدو لدى النظر العميق

وعلى ضوء هذا التحليل الصادق تعتبر الأمة العربية في مقدمة أمم العالم رسوخاً في الحياة الوجدانية السامية، لأن تاريخا المجيد طافح بآثار قوة الشعور بالكرامة والشرف، وشدة الظمأ إلى الحرية والمجد، وأيامها التاريخية اللامعة حافلة بالأمثال العالية لحب الكرامة والشرف، وحب الحرية والمجد إلى حدود الغلو، وهي حافلة كذلك بالشواهد العجيبة على التضحية والفداء في سبيل هذه المعاني الوجدانية سواء في الماضي والحاضر، وستكون للعرب مثل هذه الشواهد والأمثال في المستقبل - كذلك - حتى ينقذوا كرامتهم من الهوان، وشرفهم من الامتهان، وحتى يدركوا حريتهم الغالية السليب، ويؤثلوا مجدهم الرفيع الذي كاد يصبح خبراً من أخبار الغابرين الداثرين.

(العراق)

حسين مروة