مجلة الرسالة/العدد 363/إلى أين. . .؟
مجلة الرسالة/العدد 363/إلى أين. . .؟
للأستاذ محمود محمد شاكر
- 2 -
قال صاحبي بعد قليل من سكتة صفير الإنذار بالغارة الجوية:
الآن وقد صم صدى هذا النذير البغيض، ومات صوت البومة الدميمة التي قامت تنعق على الموضع الخراب من عقل هذا العالم، فأسرعت الأيدي وتناهضت الأقدام، وخفت الأحياء ليطمروا أشلاء النهار التي كانت مبعثرة في طرقهم وبيوتهم على معركة الليل البهيم، إنهم يدفنون هذه الأشلاء الوهاجة خشية أن تراها عيون العافية من سباع الجو المنقضة بأنياب كرجوم الشياطين. آه يا صديقي! ما أقبح هذا وأفجره. ولكن دعني من هذا، فالآن أعود إليك
لقد مثلت لك بعض صورتها هي وبعض صورته عند أول اللقاء. لم أكشف لك بعد عن حقيقة النفسين وهما تعملان بأسباب من القدر، إن هذه الأسباب التي لا تدري متى أولها، قد أخذت تلتوي عليهما فيما يستقبلان من أيامهما، وثمة بدأ الإشكال، وتراكبت العقد الجديدة على تلك العقدة القديمة التي التبست عليهما في الطفولة، فلست أدري، ولا هما أيضاً يدريان، إلى أين المصير!
لمحها ولمحته في يوم اللقاء الأول، فوقفا طويلاً ينظران. وشخص البصر وكفت العين لا تطرف، وكأن العين قد أرسلت إلى العين رسلاً من أشعتها لتبحث في أعماقها عن معانيها الحائرة التي لم يستقر بعد على قرار مؤمن، تتبين فيه كلتاهما صورة كلماتها القلبية التي تنبض في موج الدم
أما هو، فقد أخذه ما يأخذ الغريق المشفي على هاوية من الهلاك الرطب الندي، ثم يفتح عينيه، فإذا هو ملقى على الشاطئ قد انتشلته من فزع الردى نجاة برحمة من روح الله. ولكنه لا يدري من الذي رده إلى الحياة بعد ملابسة الموت؟ ولا كيف كان؟ ولا أين هو؟ ولا أي مكان هذا؟. . .
وأما هي، فقد أنكرته بادئ اللحظة، ثم انكشف لعينيها الحجاب الكثيف الذي أرخاه الدهر الماضي بين أيامها وأيامه لقد عرفته وأثبتته معرفة، فأقبلت عليه تندفع بقوة الرد المتفلت من شد عشرين عاماً كانت تجاذبها دونه:
أنت، أنت!! أين كنت؟!
آه، لقد نسي المسكين عندئذ أين كان! إنه هنا. . .!
أليس هذا كافياً؟ أليس هذا هو كل شيء؟. . . أما الماضي، أما الحياة التي عملت في بنيانه أعواماً طوالاً كلها جهد وإرهاق. . .، كل ذلك ذهب وباد وأمحى، وكأن اليد التي تمحو ما تشاء وتثبت في تاريخ الإنسان، قد أمرت صفحتها على رقعة أيامه الماضية فغسلتها وطهرتها من سوادها، وردت إليه وإليها صحيفة أيامه بيضاء نقية قد تهيأت أن ينمنم فيها القدر تاريخه الجديد. . . أجل! كان هذا هو الإنذار الأول من القدر لهذا المسكين أنه سينسى معها كل تجاربه في الحياة، وأنها هي التي ستكتب له هذا التاريخ الجديد من القدر خيره وشره
ومضت الأيام الأولى بعد هذا اللقاء البغت على ذكرى حاضرة تصارع وحوش الماضي التي وطئت بأقدامها عهود الصغر وملاعب الطفولة فطمست معالمها ومحت بعض آياتها. جعلت هي تتكلم، وكأنها ذاكرة التاريخ الواعية التي لا تكاد تفلت شيئاً إلا أحصت دقيقة وجليلة. حدثته وذكرته وأعادت عليه زخرف الصبا ووشيه من نسج حديثها، أما هو فبقي صامتاً ينصت لها خاشعاً ضارعاً يسمع صدى الماضي الذي يتكلم في سراديب النفس العميقة الممتدة الذاهبة بأساليبها الغامضة في أقصى غيب الحياة
كيف تدب الحياة في أشياء الطبيعة التي تخيل للناس أوهامهم أنها موات؟ كيف تستيقظ الأرواح النائمة في غار مظلم قد أطبقت على منافذه صخور صم من جبال الزمن؟ كيف تستقبل النفس - التي أحرقها الظمأ المتضرم - شؤبوباً من الغيث يهمي عليها بارداً عذباً زلالاً سائغاً يترقرق؟ كيف وكيف؟ لقد عرف هو كيف يكون ذلك كله حين تكلمت روحها في ثنايا روحه المتغضنة بأحزانها، وحين أخذت تناجيه بالذكرى. . .، ويتحدر في صوتها ذلك اللحن الخالد الذي يتحدر مع الغيث من السماء يناجي الأرض الظامئة المقشعرة المجدبة، فكذلك تهتز وتربو على مد أنغامه التي تفجر في ذرات الثرى كل ينابيع الحياة واستجاشت هذه الساحرة الجميلة التي خرجت عليه من لفائف الغيب المحجب تلك النفس المصممة العنيدة فما زالت حتى انقشعت الغمامة الغبية التي كانت تحيط بنفسه عمراً من قبل. إنه الساعة يسمع ويرى ويحس، ويتغلغل في الحياة ببأس شديد. لا، بل كان في أول أمره هذا مضطرباً حائراً يدور بقوته حيث دارت به على غير هدى ولا صراط، كان ربما خلا فاستوحش فارتاع، فيحتمل كل أعباء الهم الذي يجده في نفسه، فيخرج يضرب في البيداء المقفرة البيضاء في مدا البصر، حيث لا يرى إلا صفاء السماء وبحر الرمل الساكن في مهاد الأرض. . .، حيث لا يسمع إلا حنين الرياح ونجوى أشواقها الأزلية في المهمة القذف. يمشي ثم يمشي حيث يتصرف به القدر الغالب، وهو لا يسمع مع ذلك إلا أنغام صوتها من حوله يتردد: أنت، أنت!! أين كنت؟
اشتعل القلب وفارت الروح، فانطلق بعد الحيرة والضلال في طريق سوى مؤيداً بهذه الروح القوية التي سيطرت على كل روحه بالحب والحنان، ومضى يعمل لها وبأسبابها نافذاً مقدماً لا يمل. ولكن سمعه لم يزل على حاله من الإصغاء ثابتة، كأنها إغماء أخذه كما تأخذ غمية الوحي إذا نزل فاشتد فاستبان، ثم تنحدر رنات صوتها إلى قلبه فتجري في أنهار الحياة المتدفقة في جثمانه بدمه، فيرجع الدم ألحانها ترجيعاً موسيقياً هفافاً آتياً من أغوار القدر العميقة. نعم، إنه لا يزال يسمع في مخارم نفسه ومهاويها صدى يتردد:
أنت، أنت!! أين كنت؟
فتجيبها الروح من أعماقها:
أنا هنا، أنا هنا!! أيتها العزيز!
هكذا بدأ بدؤه وقد نام كل ما فيه وخضع لسلطانها الذي لا ينتهي ولا يفتر، ثم دبت في روحه اليقظة الجديدة فتجددت النفس المتغضنة ورق شبابها، واستجمت قواها الشاردة بعد فترة كإغفاءة النائم في أنفاس الفجر الندي المتروح بعطر الرياض النضرة. ولكنه عاد - بعدئذ - برجولته يتوحش، فارتد إليه حذره الوحشي يتوجس خيفة، وأخذه بذلك الرعب من كل مكان أين أنا؟ وكيف كان هذا؟ ولم خضعت؟ وإلى أين أسير؟ كل هذه أسئلة جعل صداها يتردد في نفسه، ثم يلقيها على الدهر الأصم، فلا يجد جوابها جميعاً ولا تأويلها. ويومئذ جعل يصول صيال الوحش يريد أن يجد الفيل المفقود الذي يفرض فيه سلطانه على جوه وغابه. . . ولكن وا رحمتا له! لقد حق ما قلت يا صديقي: المسألة كلها قدر محتوم! رفعت الأقلام وجفت الكتب!
أرأيت إلى ما وصف لك من أول ما تلاقيا؟ أرأيت إلى ذلك الوحش الآبد الحذر الذي لا يألف الحياة ولا هي تألفه؟ أرأيت إلى تلك الفكرة الباذخة العضلة التي تأبى أن تذل أو تتهضم؟ أرأيت إلى البركان المتقلع في عنفوان فورته؟ كل ذلك قد استحال بين يديها، وتحت أشعة عينيها، وفي مس أنفاسها، شيئاً غير هذا كله. فكل ما توحش منه فهو عندها يألف وادعاً يلوذ بها خاشعاً متضرعاً، وكل ما بذخ وسما وتعضل فهو يتطامل لها ويرق ويتلين، وكل ما تقصف منه وفار وغلى فهو ينساب إليها صبابة وحنيناً ولوعة
وعندئذ سكت صاحبي بغتة كأن لسانه قد عقد عقداً على ألفاظه، ثم تنهد واحدة كأنما أنهد بها ركن من جبله القائم في ضمير نفسه. ورمى بصره في هذا الركام المتكاثف بعضه على بعض من ظلام الليل. لم أرد أن أستثيره من هدأته التي يستريح إليها بعد هذا الجهد الهائل الذي كان يتدفق به في حديثه. لقد كان يعاني من هذا الحديث أشد مما يعاني الهارب السائر في وحشة الليل الصامت في غول الصحراء، وهو هائم على وجهه تطارده من ورائه شياطين العذاب التي تريد أن تنتشطه إليها بخطاطيف هائلة من الرعب والفزع
كنت أرق له وآسى عليه، ويمنعني من الحديث معه مخافتي أن يكون ذلك ما يصرفه عن بعض الفكر الذي يتعذب به وبوساوسه وخطراته. نعم، إنه عذاب عقلي أليم، ولكنه على ذلك مما يعطي النفس بعض راحتها من عذاب الشك والقلق والحيرة والحياة كلها صروف متعاقبة يراد بها السمو بالنفس على وجه من وجوه الألم. والألم وحده هو الذي يستطيع أن يصقل النفس الإنسانية صقلاً رائعاً، وبذلك يرد إليها حقيقة الإيمان المشرقة بالاطمئنان والتسليم. إنه حائر يشك في حقيقة ما يقع عليه فكره ولكن هذا الألم الذي يصارعه صراعاً عنيفاً لا رحمة فيه، وهو نفسه الرحمة المهداة إليه، ليؤمن بعد ذلك إيماناً لا يداخله شيء من الشك أن قلبه لم يخطئ، وأن أفكاره القلقة هي التي تخطيء وأنه ينبغي أن تقيد أفكار العقل الحائر بأغلال متينة من أفكار القلب المؤمن
وتضربت في همسات الليل أفكاري فيه، وجعلت أستعيد في نفسي كل ما قاله لأرى من تحته المعاني التي تتهارب وتختفي بطبيعتها في ظل الألفاظ اللغوية المحدودة بمعانيها. كنت حائراً في فهم هذا الصديق الذي يحدثني عنه صديقه، وما صديقه إلا هو وكنت ألمح هذا الجبل وهو يتخلع من أعضاءه التي ينهض عليها ثابتاًُ قاراً متسامياً يهزأ بالتلال القصيرة التي تطمح إليه بأبصارها، وجالت في نفسي أفكار وأسئلة لا جواب لها. يا رب! أهكذا يضمحل الرجل؟ وارتفع صوتي بهذا السؤال غير متعمد لذلك. فما هو إلا أن هب صاحبي من غفوة الفكر التي غشيته، فابتدرني يقول:
نعم، هكذا يضمحل الرجل! وما تريد أنت إلى ذلك؟ إنك دائماً تفجؤني بتمثال يتكلم بأفكاري التي أتكلم بها في غيب نفسي أي شيء هو الرجل؟ هل تستطيع أنت أو من سواك أن يقرر للعقل حقيقة الرجل، وأن يمتهد لفكرته أصلاً لا يزول، فإن يخرج عنهما أو عن أحدهما اختفى في العقل أن يكون رجلاً حق رجل؟ هذا هو الغرور الذي يتهاوى فيه الناس ما داموا ناساً يبغي بعضهم على بعض، فطرة ركبت في سر طبائعهم.
إن هذا ليس اضمحلالاً وضعفاً بالمعنى الذي تتوهم، إنه ليس من قوة في الطبيعة إلا وفوقها قوة تحكمها وتصرفها، وخضوع قوة لقوة أعضل منها ليس يعرف ضعفاً فيمن يخضع، وإنما هو القانون الطبيعي الذي يستقيم به نظام العالم. إنه لا يقال للدوحة الفينانة العظيمة: أيتها المسكينة، لماذا تخضعين لسلطان الفصل الذي تساقط به أوراقك؟ أو لماذا هذا الحنين الدائب إلى قطرات من الغيث، وهذا الجبل أمامك يسفح عليه ماء السيل ثم ينقطع أعواماً فلا يظمأ إليه فيحن كمثل حنينك إلى قطرات من الماء انقطعت بضعة أشهر؟ هذه طبيعة الدوحة، فإذا انقلبت طبيعتها إلى غير هذا الناموس قتلها الظمأ وتركها حطباً يابساً لمن يستوقد
آه أيها الصديق! إنك لن تعرف الحقيقة حتى تستشعر قوة الآلام الملتهبة التي تترك الرجل يتزايل على الشوق والوجد واللوعة كما يتزايل جبل من الفولاذ قد تجوفته نار متضرمة من لهب جهنم. أبغي قليلاً من الماء ثم أحدثك كيف اضمحل الرجل!
(لها تتمة)
محمود محمد شاكر