مجلة الرسالة/العدد 354/الأمومة عند العرب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 354/الأمومة عند العرب

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 04 - 1940



للأستاذ رفعة الحنبلي

تمهيد

ذهب أكثر علماء الاجتماع، حتى أواسط القرن الثامن عشر إلى أن الأبوة هي أقدم عهداً من الأمومة في تاريخ الأسرة، وأنها قد تتشابه والأسرة الحديثة تشابهاً كلياً من حيث المنشأ والتكوين، إلى أن ظهر كتاب (الأمومة) للعالم الألماني الكبير فأحدث انقلاباً تاماً في تاريخ الأسرة وفي آراء علماء الاجتماع فيه. إذ ذهب إلى أن الأمومة هي أقدم عهداً من الأبوة، وأبعدها أثراً منها في الهيئة الاجتماعية

ليست الأمومة أقدم نوع في تاريخ الأسرة بل هي - كالأبوة - أحد الأنواع التي مرت على هذا التاريخ منذ ما أخذت الجماعات الإنسانية تفكر في تكوين الأسرة وخلقها

أراد علماء الاجتماع بالأمومة بأنها القرابة من ناحية الأم، كما أرادوا بالأبوة بأنها القرابة من ناحية الأب، ذلك أن الولد في الحالة الأولى ينتسب إلى أمه كما أنه ينتسب إلى أبيه في الحالة الثانية

وقد اختلف العلماء في أمر نشأة الأمومة وتباينت آراؤهم في أمر ظهورها، فذهب إلى أنها نشأت من نكاح المشاركة أو بعبارة ثانية من نكاح الاختلاط فتولد من هذا النوع من النكاح الفوضوي الأمومة؛ إذ ليس من السهولة أن يعرف الولد أباء فينتسب إليه ويلتحق به، ولذا كان النسب محصوراً في الأم وقرابتها وحسب، وأصبحت لها مكانتها العالية، ومقامها الرفيع عند القوم، لأنها - في الحقيقة - الوالدة الوحيدة المعروفة من أبوي الولد مما أدى بها إلى تزعمها الهيئة الاجتماعية ردحاً من الزمن

إلا أن العالم الإنكليزي يخالف فيما ذهب إليه في أمر نشأة الأمومة، ويردها إلى التباين الموجود بين نوعين من أنواع الزواج: الزواج الخارجي والزواج الداخلي ذلك أن عندما أراد البحث عن تاريخ الأسرة، وجد أن هنالك عادة لا تزال شائعة عند بعض الشعوب المتوحشة حتى في بعض الأمم المتمدينة أيضاً، هذه العادة هي خطف الخطيب لفتاته، أو اغتصابها، فأيقن أن هذه الظاهرة ليست إلا بقية من عادة قديمة أخرى تشير إلى تزوج رجل قبيلة في قبيلة ثانية. وقد توصل في بحثه هذا إلى معرفة تلك العادة وسبب تأصله في الأمم الغابرة، فاعتقد أنها ناتجة عن وأد الفتاة وقتلها، مما أدى إلى قلة عدد النساء، وزيادة عدد الرجال زيادة بينة، فأقدم هؤلاء على مخالطة امرأة واحدة مما نشأ عنه تعدد الأزواج وبالتالي الأمومة، التي يعنى بها معرفة أم الولد دون أبيه

وخالف العالم الألماني زميله في اجتهاده مخالفة تامة فذهب إلى أن الأمومة ظهرت بظهور (عصر الزراعة) وعهدها؛ ذلك أن الأم - في ذلك الوقت - كانت تتعهَّد الأرض بالغرس والزرع تعهداً كليَّا، وكانت تشرف على البيت إشرافاً تاماً لا ينازعها السلطة عليه أحد، متحملة التبعات العظيمة التي ألقيت على عاتقها مما جعلها تهتم بالناحيتين الداخلية والاقتصادية، بينما كان الرجل بعيداً عن البيت وعن هذه المظاهر المختلفة، إما للقيام بواجب الدفاع أيام الغزوات والحروب، وإما لإشباع رغبته في القنص والصيد، وهو إلى هذا قد لا يفكر في الاجتماع بأسرته وزيارة امرأته - أم أولاده - إلا عندما يرغب في الاتصال بها

حدث من هذا الابتعاد أن التف حول المرأة أولادها - وهي التي غذتهم بلبنها وقامت على تربيتهم - فأنشأت لنفسها مركزاً سامياً بين أعضاء أسرتها، أي لدى أولادها واخوتها وأعمامها، وأخذت الأسرة تتركز فيها، فاحترم القوم هذه الأم، وأنزلوها منزلة رفيعة، وأمست محور الأسرة ومحور البيت معاً. . . وهكذا اتجهت الأمومة نحوها

إلا أن لم ينتبه إلى أهمية (التوتمية) في نشأة الأمومة؛ هذه الكلمة تشير إلى رمز ديني اتخذته الأسرة أو القبيلة القديمة إلهاً لها، وهي إلى ذلك من الرموز الدينية التي لها الفضل الأكبر في تكوين الأسرة الأولى. يقول: (إن الأسرة الأولى لم تقم إلى على التوتمية، وحسب المرء لكي يعد عضواً في الهيئة الاجتماعية أن يكون تابعاً أو منتسباً لتوتم واحد ومن صفات التوتم أن يكون محصوراً في نسل المرأة، أي أن يتبع الولد توتم أمه. وليس الولد هو الذي يتبع أو ينتسب إلى هذا التوتم فحسب، بل تشترك الأسرة والقبيلة في هذا الانتساب أيضاً. فالتوتمية لها إذن الأثر الأكبر في تكوين الأمومة وظهورها

وإذا كان الولد لازم أمه في عصر الزراعة كما نوه بذلك وما إليها وانتسب إلى أسرتها، وتوثقت علاقته الاجتماعية بها، فإن كل هذه الظواهر لم تكن نتيجة هذا العصر، بل كان الباعث لها التوتمية الأمومة عند العرب

مما لا ريب فيه أن الأمومة كانت فاشية عند أكثر شعوب العالم إن لم يكن كلها، ونكاد نلمس آثارها جلية واضحة عند بعض الجماعات: كقبائل الأراواك في غينيا، وقبائل الدياك في بورنو؛ كما أننا نشعر باضمحلالها عند البعض الآخر حيث خلفتها الأبوة. وإذا ما رجعنا إلى تراث كل أمة من الأمم الغابرة نجد أنها عرفت هذا النوع من أنواع الأسرة. والأمة العربية لم تخل في سالف عهدها، قبل الإسلام، من شيوع الأمومة فيها ومعرفة العرب بالتوتمية فالتوتمية كلمة أشار بها هنود أمريكا الشمالية إلى الحيوان المقدس الذي تعبده القبيلة وتسمى باسمه وتنتسب إليه. فالقبيلة التي تأخذ الحمامة توتماً لها، فإنها تعتبرها ملاكاً كريماً، وروحاً طاهرة وحارساً أميناً لها، فتتلقب بها، ويعتقد رجالها جميعهم أنهم أقرباء لها ولسائر أنواع الحمام أيضاً

ولو رجعنا إلى تاريخ الأمة العربية، في جاهليتها، لوجدنا أن كثيراً من قبائلها كانت تعرف بأسماء بعض الحيوان أو بأسماء بعض الآلهة، ودليلنا على ذلك أنْ بعض القبائل العربية كانت معروفة بقبائل أسد، وثور، وكلب، وعقاب، وغيرها، حتى أن المستشرق سمث يعتقد أن لهذه الأسماء معاني دينية، وأن لها علاقة بعبادة الحيوان كما هو مشاهد في التوتمية؛ كما أن البعض الآخر من القبائل العربية تتلقب بأسماء الآلهة التي عبدها كقبائل بني هلال وبني شمس وبني بدر وغيرها الذين كانوا ينتسبون إلى تلك الآلهة التي كانوا يعبدونها أيضاً؛ فالقبائل العربية كانت، عهدئذ، توتمية أي أنها كانت تقدس الحيوان وتعبده، وعنه اتخذت ألقابها. على أن من صفات التوتم، كما قدمنا، أن يكون محصوراً في نسل المرأة أي أن يتبع الولد أمه دون أبيه، كما هو مشهور عن هنود أمريكا الشمالية إذ لا يزالون حتى اليوم على الأمومة

والأمومة عند العرب نشأت عن عدم معرفة أبي الولد، ذلك أن الهيئة الاجتماعية العربية القديمة لم تهتم بالزواج الشرعي بل كان الزواج فوضوياً أو زواجاً مشتركاً أي أن المرأة لم تكن ترتبط مع الرجل برباط شرعي متين بل كانت تتصل بأكثر رجال قبيلتها

إلا أن العالم يذهب إلى أن الأمومة نشأت عند العرب عن تعدد الأزواج الذي كان في بادئ الأمر غير مقيد، بمعنى أنه لم تكن صلة قرابة بين الأشخاص المالكة لامرأة واحدة، لكنه أصبح فيما بعد مقيداً ومحصوراً أي أن المرأة أصبحت تخص جملة أشخاص معينة من أسرة واحدة أو من أم واحدة. غير أن الفيلسوف الإنكليزي (يعد تعدد الأزواج من الأمور الشاذة التي نتجت عن قلة النساء) فالأمومة كانت إذن سائدة في الوقت الذي كان فيه زواج الاشتراك شائعاً عند الأمة العربية، قبل أن تعرف الزواج الشرعي أو الزواج الفردي الذي تعرفه الهيئة الاجتماعية الحاضرة وتعمل به

ولابد لنا من أن نتساءل: هل كانت الأمة العربية في جاهليتها، تعرف هذا النوع من الزواج - زواج الاشتراك - أم أخذت بنوع آخر أي بتعدد الأزواج؟

لقد اخبرنا أحد المؤرخين اليونانيين القدماء - سترابون - عن أمر الزواج عند عرب الجاهلية بأن (الأملاك عندهم مشتركة أي أنها تخص جميع أعضاء الأسرة التي يرأسها شيخ، وهو أكبرهم سناً، ولهم جميعاً امرأة مشتركة يختلفون إليها، فمن جاء منهم قبلاً دخل عليها، وترك على الباب عصاه، ليشير بذلك إلى اختلائه بها. . .

لكنها، في الليل، لا تكون إلا مع أكبرهم سناً) نفهم من هذه العبارة التي أوردها هذا المؤرخ اليوناني أن تعدد الأزواج كان فاشياً بين العرب ومعروفاً عندهم، وهذا ما اعتقده المستشرق سمث.

وأعقب هذا المؤرخ عبارته تلك بعبارة ثانية خالف بها ما ذهب إليه في الأولى إذ قال: (وهم يتصلون بأمهاتهم ويعاقبون الزاني بالموت، ويريدون بالزاني من اتصل بامرأة من غير قبيلته). يعني بذلك أن رجال القبيلة الواحدة أباحوا لأنفسهم الاتصال بنسائها بحرية تامة، فلم تكن المرأة يستأثر بها رجل معين، أو جماعة معينة، وهذا ما يجعلنا نؤمن بشيوع زواج المشاركة عندهم لا تعدد الأزواج

يقول أحد علماء الاجتماع: (إن العرب في الجاهلية لم تكن تعرف زواجاً مستمراً ترتبط به المرأة مع رجل إلى وقت محدود؟ ذلك أن العرب كانوا يفضلون النكاح الوقتي على غيره). وقال أيضاً: (والعرب يقضون عمرهم في التجول والتنقل ونساؤهم يتصلن بمن أردن من الرجال لأجل معين، بعد أن يأخذن منهم أجورهن فريضة. هذا النكاح الوقتي يشبه نكاح المتعة الذي أباحه النبي العربي الكريم لأصحابه في أول عهد الإسلام، وقد عرفه بعض علماء الشرع بأنه نكاح يعقد إلى أجل معين، ثم يحل بعد انقضاء هذه المدة. وفسره البعض الآخر: بأنه - أي نكاح المتعة - يعقد إلى أجل، لا ميراث فيه، وفراقه يحصل بانقضاء الأجل من غير طلاق)

ولنبحث قليلاً عن نكاح المتعة، فإن لنا فيه بعض الفائدة لهذا البحث، لنقف منه على مدى تلك العلاقات الزوجية القائمة بين الرجل والمرأة.

أشار القرآن الكريم إلى هذا النكاح، نكاح المتعة، في عدة آيات. فقد جاء في سورة النساء (. . . وأحل لكم وما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين، فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة. . .) أختلف المفسرون في تفسير هذه الآية، فبعضهم يفهم من مدلولها أنها إشارة إلى الزواج الشرعي أو الزواج الفردي، وأن كلمة أجورهن يراد بها مهورهن لأن المهر ثواب على البضع وبعضهم يرى فيها أنها إشارة إلى زواج المتعة أو الزواج الوقتي حتى قيل أن هذه الآية نزلت في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتح الله مكة على يد رسوله الكريم ثم نسخت.

كان الرجل ينكح المرأة وقتاً معلوماً ليلة أو ليلتين أو أسبوعاً بثوب أو غير ذلك ويقضي منها وطره ثم يسرحها؛ وسميت متعة لاستمتاعه بها أو لتمتيعه لها بما يعطيها

وهاك بعض الأحاديث التي تدل على أن النبي العربي الكريم أباح المتعة يوم فتح مكة، ونهى عنها بعد ذلك. جاء في صحيح البخاري: أن النبي، صلوات الله عليه، نهي عن نكاح المتعة آخراً. وعن أبن عباس حينما سأل عن متعة النساء فرخص؛ فقال له مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد وفي النساء قلة أو نحوه فقال أبن عباس: نعم

يتبين لنا مما تقدم، أن النبي العربي الكريم أباح نكاح المتعة في الظروف المتقدمة، وحرمها تحريماً أبدياً. قال مستشرق في كتابه (تاريخ تمدن الشرق) عن زواج المتعة ما معناه: (وكان شائعاً بين العرب قبل محمد نوع من النكاح يكاد لا يستحق هذا الاسم، وهو المعروف بنكاح المتعة؛ كان يعقد لأجل بقيمة معلومة تدفع للمرأة سلفاً؛ لكن محمداً أبطل هذه العادة الرديئة)

فالمتعة إذن ليست إلا النكاح الوقتي، وكانت من عادات العربي في الجاهلية، ولو لم تكن من عاداتهم قبل الإسلام لما نزلت الآية القرآنية، ولما أحلها وحرمها النبي العربي الكريم؛ لقد تأصلت هذه العادة في نفوس القوم، وتمكنت من أخلاقهم، وتأصلت في طباعهم حتى أننا نلمس أثارها بعد الإسلام وبعد هذا التحريم. روى الرحالة الإنكليزي أنه (رأى في أكثر شوارع مدينة (سنان) - وهي من أعظم المدن في اليمن - سماسرة للنساء، فكل غريب لا مأوى له في المدينة يمكنه أن يتزوج ويتبلد فيها بقيم زهيدة وبطريقة بسيطة، وهو أن يتفق مع المرأة، بعد أن يراها وتعجبه على الثمن، فيحدد لها المدة التي يمكنه أن يقيمها معها أسبوعاً كان أم شهراً أم سنة كاملة ثم يحضر معها أمام القاضي أو حاكم المدينة فيسجلان أسميهما في كتاب عنده ويكتبان الشروط التي اتفقا عليها، وكل ذلك لا يكلفه إلا بضع دريهمات، ثم يضع الرجل يده في يد المرأة أمام القاضي فيتم الزواج ويعد ذلك شرعياً حتى انقضاء المدة المعينة؛ هذا وكل منهما حر أن يفترق عن صاحبه متى أراد أو أن يرتبط معه ثانية بعد انقضاء المدة المعينة، أما إذا افترق أحدهما عن الآخر قبل انقضاء هذه المدة فعليه أن يدفع لصاحبه القيمة التي تسلمها منه أو اتفق معه عليها طبقاً للشروط التي عقدت بينهما، وبعد ذلك يمكنه أن يتزوج على الصورة عينها متى شاء)

لو لم يكن النكاح الوقتي فاشياً بين العرب لاستحال وجود نساء يهبن أنفسهن ببضعة دريهمات ولأجل معين، ذلك أن الأمة العربية في جاهليتها لم تكن تعرف الزواج الشرعي الدائم.

(البقية في العدد القادم)

رفعة الحنبلي