مجلة الرسالة/العدد 354/أفانين

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 354/أفانين

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 04 - 1940



أبو النجم الرجاز وهشام بن عبد الملك

للأستاذ علي الجندي

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

تركنا في المقال الأول أبا النجم في رصافة هشام أو رصافة الشام، على حال تسرّ العدو وتسوء الحبيب! منبوذاً من البلاط خائفاً يترقب! لا طعام إلا ما يصيبه من مائدة الكلبي والتغلبي، ولا مأوى إلا بيت الله يبيت فيه بلا وطاء ولا غطاء مع طُرّاق الليل وأبناء السبيل!

وقبل أن نقتصَّ بقية أخباره نريد أن نعرف: كيف رانت الغفلة على عقله، وكيف غاب عنه شيطانه الناصح! فزلّ زلة ما كان أيسر أن يشيط بها دمُه لولا أن حفّه لطف الله الخفي! وأي زلة أكبر من أن يعيب شاعر الخليفة في وجهه بين غاشيته وخاصته؟

الحق أن لأبي النجم بعض العذر؛ فإنه لم يكن في مقام المادح للخليفة المخاطب له بالشعر حتى يُعدَّ مجبّها له، وإنما هي أرجوزة أنشئت من قبل في غرض خاص وسمعها الخليفة عرضاً، وليس من المعقول أن نعطل التشبيهات، ونُبطل الوصف ونئد الفن إكراماً لحَوَل عينٍ ولو كانت عين هشام! فالكلام في ذاته بريء من العيب، وإنما العيب من المصادفة السوداء!

والحق أيضاً في أشرَّ مما وقع أن جمهرة من الشعراء قبل أبي النجم وبعده وقعوا في أشرَّ مما وقع فيه، وبعضهم لم يكن بادياً جافياً مثله، بل كان حضري الشمائل، رقيق الحواشي، مصقول الخاطر، أنيق الطبع كأبي نواس! ولا يتسع المقام لإيراد الشواهد؛ فقد نجرد لها مقالاً خاصاً، ونكتفي منها بمثال واحد:

يذكر الرواة أن ذا الرمة الشاعر ورد على عبد الملك بن مروان فاستنشده شيئاً من شعره، فأنشده أول قصيدته البائية:

ما بال عينك منها الماء ينسكب؟ ... كأنه من كلى مفرية سرب

وكان بعين عبد الملك شعرة فهي تدمع منها أبداً، فتوهم أنه عرّض به! فقال: وما سؤالك عن هذا يا أحمق؟ وأمر به فأخرج

وقد علل ابن رشيق انزلاق الشعراء إلى هذه المآزق، فقال: إنما يُؤتي الشاعر في هذه الأشياء من غفلة في الطبع وغلظ، أو من استغراق في الصنعة، وشغل هاجس بالعمل يذهب مع حسن القول أين ذهب

ثم قال - ينصح لهم -: والفطن الحاذق يختار للأوقات ما يشاكلها، وينظر في أحوال المخاطبين، فيقصد محابهم ويميل إلى شهواتهم، وإن خالفت شهوته؛ ويتفقد ما يكرهون سماعه فيتجنب ذكره

ورأيي أنه كان واجباً على هشام في أبهة الخلافة وجلال الملك وبهاء المنصب، أن يتغاضى عن هنة غير مقصودة من شاعر نقي الفطرة، سليم دواعي الصدر مثل أبي النجم، وأحسب أن هذه السقطة لو وقعت في بلاط معاوية أو المأمون أو الواثق، ما زادوا على أن أسروها في أنفسهم، أو ضحكوا لها ضحكة مدوية! ولو أن هشاماً جعلها دْبَر أذنه ما كان لها هذا الشأن التاريخي ولأكبر الناس رحابة ذرعه، ورجاحة حلمه، ورموا أبا النجم بالفدامة وفساد الذوق!

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر نقول: إن حولة هشام لها نوادر مذكورة في الكتب!

يحدث المسعودى في مروج الذهب: أن هشاماً عرض الجند يوماً بحمص الشام، فمر به رجل من أهلها على فرس نفور فقال له: ما حملك على أن ترتبط فرساً نفوراً؟ فقال الحمصي: لا، والرحمن الرحيم، يا أمير المؤمنين ما هو بنفور، ولكنه أبصر حولتك فظن أنها عين غزوان البيطار! فصاح هشام: تنح! فعليك وعلى فرسك لعنة الله!

وكان غزوان هذا بيطاراً نصرانياً بناحية حمص يشبه هشاماً كل الشبه

ويحكي المبرد: أن سالم بن عبد الله بن عمر، دخل إلى هشام في ثياب وعليه عمامة تخالفها، فقال له هشام: كأن العمامة ليست من الثياب، قال: إنها مستعارة. قال: كم سنك؟ قال: ستون. قال: ما رأيت ابن الستين أبقى كدنة منك! ما طعامك؟ قال: الخبز والزيت. قال: أما تأجمهما؟ قال: إذا أجمتهما تركتهما حتى أشتهيهما.

ثم خرج من عنده وقد صُدِع! فقال: أترون الأحول قد لقعني بعينه؟ فمات من تلك العلة!

ونحب أن نقول بهذه المناسبة: إن الحول قد يعده بعض الناس - وأنا في طليعتهم - من سمات العيون المستملحة كالحور والانكسار والدعج، وبخاصة إذا كان الحول خفيفاً وهو ما يسمى بالقَبَل.

ففي ترجمة ابن سريح: أنه كان في عينه قبل حلو لا يبلغ أن يكون حولاً

وفي أخبار أبي الأسود: أنه اشترى جارية حولاء فغارت منها زوجه وابنة عمه: أم عوف. فكانت تشارُّه في كل يوم وتقول: من يشتري حولاء؟ فلما أكثرت عليه قال:

يَعيبونها عندي، ولا عيبَ عندها ... سوى أن في العينين بعض التأخر

فإن يك في العينين سوءٌ، فإنها ... مهفهفة الأعلى، رداح المؤخر

وقد عد بعض العشاق حول عينيه نعمة من الله تستوجب الشكر والحمد! وساق ذلك في شعر طريف علق عليه أبو هلال العسكري بقوله: إنه لا أظن له شبيهاً!

قال العاشق الشاعر الأحول:

حمدت إلهي إذ بليت بحبها ... على حول يغني عن النظر الشزْر

نظرت إليها، والرقيب يظنني ... نظرت إليه، فاسترحت من العذر

ونعود إلى سياقة قصة أبي النجم فنقول: إن محنته لم تطل، فقد تأذّن الله بكشف الغمة عنه وهيأ لذلك أسبابه!

فأمسى هشام ذات ليلة لَقِس النفس منفّر المنام! وهو عارضٌ كثيراً ما يعتري الخلفاء لما يكابدونه من جهد في تصريف أمور الملك وتدبير شئون الرعية، وإعمال العكر في سدّ الثغور ورتق الفتوق. وكانوا في مثل ذلك يفزعون إلى السُّمار الظراف يتفكهون بأحاديثهم ومُلحَهم. فتقدم هشام إلى خادم له أن يبغيه محدثاً، وأن يكون أعرابياً أهوج شاعراً راوية! ومن يكون ذلك المحدث الأعرابي الأهوج الشاعر الراوية غير أبي النجم؟

وذهب الخادم يبحث عن طلبة الخليفة فقاده حسّه اللطيف إلى أحد المساجد، وإذا برجل نائم فضربه برجله وقال: قم، أجب أمير المؤمنين. فقال الرجل: أنا أعرابي غريب. قال: إياك أبغي، فهل تروي الشعر؟ قال: نعم، وأقوله. فأقبل به من المسجد حتى أدخله قصر الخليفة وأغلق الباب وراءه؛ فذكر الرجل حادثته مع هشام فرجف قلبه وأيقن بالشر المستطير! ولكنه أسلم الله أمره واستقاد للخادم؛ فأدخله إلى أمير المؤمنين في بيت صغير من بيوت القصر، بينه وبين أهله ستر رقيق والشموع تزهَر بين يديه. فلما بصر به هشام قال: أبو النجم؟ قال: نعم، طريدك يا أمير المؤمنين. فإذن له بالجلوس وسأله عمن كان يُضيفه؛ فأخبره خبر الكلبي والتغلبي. قال: وكيف اجتمعا لك؟ قال: كنت أتغدى عند أحدهما وأتعشى عند الآخر. قال: وأين كنت تأوي؟ قال: في المسجد حيث وجدني رسولك

وأطرق هشام برهة لعله راجع فيها نفسه فندم على ما كان منه مع أبي النجم! ثم رفع رأسه وقال له: مَا لَكَ من الولد والمال؟ قال: أما المال فلا مال لي، وأما الولد فلي ثلاث بنات وبُني يّقال له: شيّان. قال: هل أخرجت من بناتك؟ قال: نعم، زوجت اثنتين وبقيت واحدة تجمِز في أبياتنا كأنها نعامة. قال وما وصيت به الأولى؟ - وكانت تسمى برَّة - قال:

أوصيتُ من بَرةَّ قلباً حُرا ... بالكلب خيراً والحماةِ شرَّا

لا تسأمي ضرباً لها، وجَرا ... حتى ترَى حلو الحياة مُرَّا

وإن كستك ذهباً ودرُا ... والحيّ عُمَّيهم بشرٍّ طُرَّا

فضحك هشام، وقال: فما قلت للأخرى؟ قال: قلت:

سُبَّي الحماة واْبهتي عليها ... وإن دنتْ فازدلفي إليها

وأوجعي بالفِهْر ركبتيْها ... ومرفقيها، واضربي جنبيها

وقعَّدى كفيْكِ في صُدْغيها ... لا تخبري الدهَر بذاك ابنيْها

فضحك هشام حتى بدت نواجذه، وسقط على قفاه! وقال: ويحك! ما هذه وصية يعقوب لولده! قال: ما أنا كيعقوب يا أمير المؤمنين ولا ولدي كولده

قال: فما قلت للثالثة؟ قال: قلت:

أوصيك يا بنتي فإني ذاهب ... أوصيك أن يحمدك الأقارب

والجار والضيف الكريم الساغب ... لا يرجع المسكين وهو خائب

ولا تني أظفارك السلاهب ... لهن في وجه الحماة كاتب

والزوج، إن الزوج بئس الصاحب

قال: فأي شيء قلت في تأخير زواجها؟ - وكان اسمها: ظَلاَّمة - قال: قلت:

كأن ظلامة أخت شَيَّان ... يتيمة ووالداها حيَّان

الرأسُ قملٌ كله وصِئبان ... وليس في الرجلين إلا خيطان

وقُصَّة قد شيَّطتها النيران ... تلك التي يفزع منها الشيطان فضحك هشام حتى ضحكت النساء لضحكه! وقال للخِصيّ: ما فعلت الدنانير المختومة التي أمرتك بقبضها؟ قال: هاهي عندي ووزنها خمسمائة. قال: ادفعها إلى أبي النجم ليجعلها في رجلي ظلامة مكان الخيطين!

علي الجندي