مجلة الرسالة/العدد 352/من وراء المنظار
مجلة الرسالة/العدد 352/من وراء المنظار
صاحب الديوان
إياك أن تظنه صاحب (ديوان شعر)، فمثل هذا أهون من أن يحفل به إلا من كانوا مثله من ذوي الأحلام والأوهام في هذه الدنيا التي باتت لا تحفل بالأحلام ولا بذوي الأحلام. . .
ولعلك فطنت بعد هذا إلى من أعنيه بهذا اللقب؛ ثم لعلك فهمت لِمَ أسميه (صاحب الديوان)، فما كان لفظ (الموظف) و (المستخدم) وما يجرى مجراهما مما يفي بالغرض في معرض الحديث عن ذلك الذي توافي له من أسباب الجاه والسلطان ما يسمو به على الناس، رضوا بذلك أو لم يرضوا؛ وما أرى نعته بمثل تلك الألقاب المتواضعة إلا ضرباً من الخطأ أسبق مجمع اللغة في تلافيه، فأضع له هذا الاسم الجديد، وبودي لو وقعت له على اسم آخر أكثر فخامة وأضخم جرساً وأبلغ رهبة
ولست أدري وقد وقع منظاري على أنماط وأشكال من أصحاب الديوان إلى من أدير الحديث منهم أولاً فأجعله في طليعة أصحابه فإني لست بمعفيهم جميعاً من حديثي ولو لحقني بعدها من سطوتهم ما أعض إصبع الندم عليه
أأبدأ بالحديث عن ذلك الشاب الماجن المتظرف الذي لا تساوي الدنيا في نظره شيئاً؟ أم أبدأ بصاحبه المتزمت المتبرم الذي يحمل الدنيا كلها على رأسه؟ أم أدعهما إلى ذلك الكهل الذي أخلق برد الشباب على مقعده وهو يلتفت إلى الماضي في حسرة ويحتمل الحاضر في ملل وينظر إلى المستقبل في يأس، ولا يني عن احتقار من هم دونه والحقد على من خلفوه وراءهم وكانوا وإياه في صف واحد عند بدء الشوط؟ أم أبدأ من عل غير متهيب، فأتحدث عن ذلك الذي يخضع له هؤلاء جميعاً ويتملقه أكثرهم وليس فيهم من لا يكره أن يودع كرسيه في أقرب فرصة؟
الحق أني حائر، ولا مخرج لي من هذه الحيرة إلا بأن أعرض عليك في هذه الكلمة صورة لفريق من أصحاب الديوان في قاعة من قاعاتهم، على أن أتناول هذا الإجمال بعد بالتفصيل
دجلت تلك القاعة في شأن من الشؤون فوجدت نحو خمسة عشر من هؤلاء ينصتون إلى من يتلو عليهم حديثاً وهم على مكاتبهم يرنون إليه حتى إذا فرغ من قصته انطلق يضحكون في صخب عظيم، ثم أخذ كل منهم يسابق الآخر في التعقيب عليها بما يسعه من نكتة أو قصة مشابهة، ومضى على ذلك وقت ليس بالقصير، وأنا واقف في ركن عند مدخل القاعة لا أدري من أقصد ولا أجد من يلتفت إلى كما لو كنت (صاحب ديوان) مثلهم لا حرج علي ولا غرابة في أن أكون معهم في حجرتهم
وكان قد مضى على بدء العمل أكثر من ساعة، ولكن أغلب المكاتب كان لا يزال خالياً من الأوراق، وبعضها كانت خالية حتى من أصحابها؛ ونظرت إلى الباب فإذا فريق من الصبية يدخلون وفي أيديهم أصناف (الصينيات)، فهذا يحمل (الفول)، وذلك يقبل (بالطعمية)، وثالث لا يحمل غير القهوة. . .
وأخذ أصحاب الديوان في تناول طعام فطورهم أو في شرب القهوة، اللهم خلا ثلاثة أو أربعة، راح أحدهم يقرأ في جريدة الصباح وراح الآخر ينظر إلى السقف كأنما يفكر في حل معضلة، ولعله كان ينتظر أن يفرغ صاحبه من جريدته ليتناولها بعده، وأخذ الثالث يفتح أدراج مكتبه ويغلقها ولا يخرج منها شيئاً، أما الرابع فقد تناول بعض (الدوسيهات) وصار ينظر فيها واحداً بعد الآخر ثم فتح أحدها أمامه وأخذ يصفر بشفتيه لحناً جميلاً
وكنت قد جلست على مقعد خال بجانبي، وليس ما يمنع وإن لم يكن في يدي عمل أن أكون أحدهم، ولعلهم ظنوا - إن كان فيهم من عنى بأن يظن - أني انتظر أحد الغائبين بناء على موعد سالف؛ وكان علي في الواقع أن أنتظر ولكني كنت أنتظر الحاضرين حتى يفرغوا من طعامهم وشرابهم أو من قراءة صحفهم لأستطيع أن أعرف فيهم من يوجد لديه حل مسألتي
وأزف موعد عملي، ودخل السعاة بأضابير من الأوراق وأخذوا يوزعونها على أصحابها، وحال ذلك دون أن أتقدم إلى أحد، فخرجت على أن أعود مرة أخرى إلى الديوان
(عين)