مجلة الرسالة/العدد 350/إنما يزدهر الأدب في عصور الفوضى الاجتماعية
مجلة الرسالة/العدد 350/إنما يزدهر الأدب في عصور الفوضى الاجتماعية
للدكتور زكي مبارك
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
أيها السادة:
يقال في كل يوم إن جو مصر معروف بالاعتدال، فما الذي جنينا في ذلك الاعتدال؟ كانت النتيجة أن نخاف من الاضطراب في بقاع الأرض. وكانت النتيجة أن نشعر بالغربة حين ننتقل حُلوان إلى قَليوب. وكانت النتيجة أن تخمُد العواطف بفضل ما نحن عليه من قرار وسكون.
أعترف بأن مصر استفادت من اعتدال الجو فائدة عقلية، هي التفوق العظيم في التأليف، فمصر أقدر الأمم الإسلامية والعربية على التفكير المنظم الدقيق بفضل هذا الجو المعتدل الجميل.
ولكن مصر في ماضيها تخلفت في ميدان الأدب عن الشام وفارس والعراق، لأن الفوضى الجوية، لا يحسها المصريون كما يحسها الشاميون والفرس والعراقيون؛ وإلا فأين وصف الثلوج والأمطار والأعاصير في أشعار من يعيشون في ضيافة النيل؟ ثم شاءت المقادير أن تتفوق في الأدب بعد تخلُّف، فما مصدر ذلك التفوق؟ لم نعرف قسوة الطبيعة كما يعرفها الناس في الشام وفارس والعراق، وإنما رمتنا المقادير بقسوة أعنف من قسوة الطبيعة، هي الثورة الجائحة التي نحس أعاصيرها الفواتك في الأذهان والعقول والقلوب
نحن كلَّ يوم على شفا الهاوية: إن اصطرع الشرق جزعنا، وإن أضطرم الغرب نظرنا. ألم تسمعوا أنه كان معروفاً عندنا أن الميدان الأول في الحرب الحاضرة سيكون حول ضفاف النيل؟
ومن هذه المحرجات التي تتجدد كل يوم، إن لم أقل في كل ساعة أو كل لحظة، من هذه المحرجات خُلقت لنا مكاره سياسية تفوق المكاره الجوية في الشام وفارس والعراق
وما هي نقطة الارتحال من وضع إلى وضع في الأدب الحديث؟
لن أرجع إلى ما فصلته في مؤلفاتي ومقالاتي، ويكفي أن أنص على أن الأدب في مصر لم يرتق إلا بفضل الفوضى السياسية، وهي صورة من الفوضى الاجتماعية.
النهضة الحقيقية للأدب الحديث ترجع إلى عهد مشئوم، هو النزاع بين الرجلين العظيمين: عدلي يكن وسعد
زغلول. ففي ذلك العهد صارت الكتابة والخطابة عنصرين أساسيين في تكوين الأدب المصري الحديث. وبفضل النزاع بين عدلي وسعد خُلقت جرائد ومجلات وأندية صار لها في نهضة الأدب مكان ملحوظ. وبفضله استطعنا أن نذيع في الشرق فنّاً جديداً، هو الأدب السياسي، وهو فنٌّ كان انقرض بانقراض النضال بين أشياع بني أمية واتباع بني العباس. وإليكم هذه النكتة:
كان شاع أني أخاصم الأستاذ الدكتور طه حسين، فكتبت في الهجوم عليه مقالات كان لها وقعٌ حسنٌ أو سيئ عند قراء اللغة العربية، واطلع الأستاذ محمود بسيوني على بعض تلك المقالات فانزعج أشد الانزعاج وسعى للصلح بيني وبين الدكتور طه في حفل مشهود حضرهُ العمداء وكبار الأساتذة بكليات الجامعة المصرية، فهل تعرفون نتيجة ذلك الصلح المشئوم أو الميمون؟
تلفَّت الناس متوجعين لضياع فرصة ثمينة هي فرصة الجدل حول المذاهب الأدبية، فهل فيكم من يتفضل بالسعاية بيني وبين الدكتور طه حسين لأرجع إلى مصاولته من جديد؟
كان بيني وبين الدكتور طه ودٌّ وثيق، ولكن رعاية ذلك الود لم تنفع الأدب بشيء، لأن كل ما يصدر عنه كان يقع من نفسي موقع مقبول، فلما ثار عليّ وغضبت عليه أتيت في مصاولته بالأعاجيب، فمن ذلك الذي يتفضل فيفسد ما بيني وبينه لأجد الوقود لسنان قلمي؟ أليس فيكم دساس ظريف ينقل إليه أنني اغتبته من فوق منبر كلية الآداب؟
اتقوا الله وأفسدوا بيني وبينه وبين سائر الأساتذة لتسمعوا صرير القلم الذي تعرفون! وهل فيكم من ينكر أن مجموعة نهج البلاغة من أعظم الذخائر الأدبية؟ فهل كان يمكن أن يظفر الأدب بتلك المجموعة النفسية لو أعتدل الميزان فصار عليّ ابن أبي طالب أول خليفة أو ثاني خليفة بعد الرسول؟
إن غيض ابن أبي طالب على أهله وزمانه هو الذي أرَّث في صدره نيران الحقد على الدنيا والناس فزفر بتلك الخطب الروائع غالبت الدهر وصابرت الزمان
وما هي الظروف التي خلقت مواهب الشيخ محمد عبده؟ هي ظروف الفوضى الاجتماعية في انتقال الأزهر من حال إلى أحوال، يوم كان تدريس العلوم الحديثة موضع خلاف، ويوم كان القول بكروية الأرض يلقى ألف اعتراض
والشيخ المراغي من أكابر هذا الزمن، ولكنه سيذهب بعد عمر طويل بلا تاريخ طويل، لأن بيئة الأزهر قد صلحت واستنارت فلم تعد تحتاج إلى مصلح يتشرف بعدوان الاضطهاد
فإن أراد الأزهريون أن يكون لشيخهم تاريخ طويل فليتكلفوا الغفلة عن مطالب العصر الحديث ليجد شيخهم فرصة الدعوة إلى اعتناق مذاهب التفكير في الجيل الجديد
أرجوكم للمرة الثانية أو الثالثة أن تذكروا أني لست من أنصار الفوضى الاجتماعية، وإنما أنا مؤرخ لظاهرة من الظواهر الأدبية والفلسفية، والمؤرخ غير مسؤول عن حوادث التاريخ
وكم تمنيت السلامة من مكارة الفوضى التي تثور في صدري والتي قضت بأن يكون ميدان قتال بين الملائكة والشياطين
في صدري أتُّون يأخذ وَقوده من الأحلام والأوهام والحقائق والأباطيل، ثم يقول في كل لحظة: هل من مزيد؟
وهذا الأتون يفرض عليَّ أحياناً أن أُلقم فم الشره الأكول بأكداس من الآراء تُشْبه الحطب المعطوب ليسكت عني لحظة أو لحظتين، كما يقدم الأعرابي لناره الموقدة أكداساً من العظام والتراب! ويشهد الله أني أكره أشد الكره بعض ما يصدر عن قلمي، ولكن ماذا أصنع وفي صدري نار تأكل الحجر والطوب حتى يعييها أن تجد الوقود الصالح من جذوع الشجر والنخيل؟ ولكني أتعزى كلما ذكرت الحكمة التي تقول: (لو أنصف الناس استراح القاضي). فشيوع المظالم بين الناس هو الذي خلق الثروة التشريعية، وهو الذي قضى أن يكون في الدنيا قضاة ومفتون ومحامون. ولو سلم المجتمع من الاضطراب لأغلقت المحاكم، ولم يبق أمام الأستاذ لطفي جمعة إلا الفرار إلى الريف ليأخذ قوته مما تخرج الأرض بجهاد الفأس والمحراث، ويومئذ يُحرَم الأدب من خطبة نفسية يحاورني بها في المدرَّج الأكبر بكلية الآداب، وتحرمون تكلُّف الرفق في التصفيق له بغير حق!
لو أنصف الناس واستراح القاضي لخلت الدنيا من المؤلفات النفيسة التي صدرت عن الرومان والعرب والفرنسيين في أصول التشريع. لو أنصف الناس واستراح القاضي لخلت الدنيا من الأدب الرائع الذي صدر عن رجال الأخلاق من الذين سمعتم أخبارهم ودرستم آثارهم مع منصور فهمي ومصطفى عبد الرزاق وأحمد أمين. لو أنصف الناس لمات سقراط غير مسموم، ولم نقرأ الوثيقة الأدبية الرائعة التي جاد بها قلم أفلاطون، والتي فتنت لامرتين حين قرأها بترجمة كوزان فنظمها بقصيد رائع يفتت الجلاميد.
لو أنصف الناس لحُرِمنا نفثات ابن مسكويه في أدب الصديق. لو أنصف الناس لضاع على الأدب حظٌّ نفيس هو أشعار أبي العلاء في نقد أخلاق الحُكام والقضاة والفقهاء. لو أنصف الناس لأمِن هابيل شر قابيل فلم يصنع التمثال الرائع الذي نراه في متحف (البثي باليه) في باريس. لو أنصف الناس لحُرِم الأدب قصائد ابن الرومي في تشريح ثائرة الحقد والبغضاء. لو أنصفت الطبيعة لحرمت الإنسانية من عبقرية باستور في حرب الجراثيم. لو أنصف المجتمع لأمن بعض الرجال شر الاغتراب وهو فرصة ليقظة العقول. ولو أنصفت ليلى - عفا الحب عن ليلى - لحُرِمتم نفثات المجنون القديم والمجنون الجديد.
أنا أكره الفوضى لأنها كدرت حياتي، ولأنها جعلت صدري ميداناً لاصطراع الهدى والضلال، وع ذلك أجد العزاء حين أشاء.
فبفضل الفوضى في تقسيم الحظوظ نشأت مذاهب أدبية وفلسفية واقتصادية صنعت ما صنعت في توجيه الأذهان والعقول بالشرق والغرب. وبفضل الفوضى في توزيع الممالك كانت الحروب التي صاغت عزائم الأبطال. وبفضل الفوضى في تكوين مدرس اللغة العربية قام النزاع بين الأزهر ودار العلوم والجامعة المصرية، وهو نزاع محمود العواقب، وسيؤتي ثماره بعد حين. وبفضل الفوضى في تصور الغاية الساسية للأمم العربية والإسلامية خُلِقتْ عبقريات الكواكبي وجمال الدين ومحمد عبده ومصطفى كامل وسعد زغلول. وبفضل الفوضى في فهم الغاية الأدبية كان الصراع بين أنصار القديم وأنصار الجديد. وبفضل الفوضى في أحوال الجو كان التنويع الطريف بين الربيع والصيف والخريف والشتاء. وبفضل الفوضى في الأخلاق والعقائد كان الجمال المرموق في تزيين الوجود بالحرب بين الفجور والعفاف والكفر والإيمان. وبفضل الفوضى في تحديد الآراء كانت المناظرات التي تنظمها المعاهد والأندية والجمعيات. وبفضل الفوضى في فهم الغاية الصحيحة لمصاير الإنسانية كان النزاع بين الديانات، وكان الصراع بين المذاهب المختلفة في الدين الواحد، وتلك فتنٌ جوامح نشأت عنها آداب وفنون لا ينكرها إلا غافل أو جهول.
لما تلطفت وزارة المعارف العراقية فدعتني لتدريس الأدب العربي بدار المعلمين العالية في بغداد، سألت عن مبلغ بغداد من الحضارة فقيل لي إنها تشبه طنطا، فجزعت أشد الجزع، لأن طنطا يقلّ فيها الصراع بين المذاهب والآراء، وإن كانت عامرة بالقصور والمتنزهات، وهي البلد الوحيد الذي لا أبيت فيه حين أمضي إليه لمهمة رسمية ودخلت بغداد فرأيتها أقل من طنطا في الحضارة والعمران، ولو شئت لقلت إن أصغر شارع في طنطا أجمل من أكبر شارع في بغداد. . . وكذلك أحسست قسوة الوحشة حين دخلت عاصمة العراق، ولولا الخوف من غضب (العقيدة الأدبية) لرجعت في السيارة التي أقلتني إلى هناك
وبعد يومين اثنين رأيت أن بغداد البدوية غير طنطا الحضرية في طنطا شوارع عريضة وقصور شوامخ، ولكن سكانها لا يعرفون الصراع الجميل بين المذاهب والآراء، لأنها مدينة مصرية صميمة يقل فيها الأجانب، ويكثر فيها ائتلاف الأذواق، وهو باب من السكون والخمود
أما بغداد الجافية التي لا تعرف الحضارة في غير شارع واحد فهي مضطرب عريض لاختلاف المذاهب والمشارب والأذواق، فيها عصبيات عربية وفارسية وهندية وكرديه ويهودية، وفيها جاليات فرنسية وإنجليزية وأمريكية، وفيها على جفوتها بقايا من الحضارات المختلفة، وفيها ألف مجال ومجال لاضطرام الأذواق والأحاسيس
وكذلك ألقيت نفسي في ضرام بغداد فكتبت في نحو تسعة أشهر ألوفاً من الصفحات نشرتُ منها ما نشرت وطويت ما طويت
في طنطا الحضرية يعيش شعبٌ واحد، وفي بغداد البدوية تعيش شعوب، ومن الاختلاف والائتلاف يحيا الأدب الرفيع
ليس في بغداد كلها قصر يشبه أصغر قصر من قصور حاضرة (الغربية) ولكن بغداد فيها جرائد ومجلات وأندية لا تعرفها حاضرة (الغربية) لأن الهدوء في طنطا عجز عما قدر عليه القلق في بغداد. وكذلك فهمت أن الأدب يزدهر في عصور الفوضى الاجتماعية وفي أقطار الفوضى الاجتماعية، بدليل ازدهاره في القاهرة وبغداد وباريس ولندن وبرلين، على شرط أن تقع الفوضى في قوم أصحّاء، لا يُقلقهم الاضطراب، وإنما يزيدهم قوةً إلى قوة ومضاءً إلى مضاء. وما رأيكم في الشواطئ المصرية؟ ألم تسمعوا أن رجال الدين اتفقت كلمتهم على أنها من الأرجاس؟ ألم تروا حيرة شيخ الأزهر في تخليص سمعة مصر من مآثم تلك الشواطئ؟
لا جدال أن شواطئنا في الصيف تمثّل الفوضى الاجتماعية أعنف تمثيل، فهي مضطرَبٌ طويل عريض تثور حوله الآراء في الإسكندرية وبور سعيد ودمياط، ويمتدّ شرُّه حتى يصل إلى بحيرة التمساح، ثم تنتقل عدواه إلى حمامات مصر الجديدة والمعادي وحلوان
ينظر الرجل المؤمن إلى هذه الشواطئ نظرة مخطوفة، ثم يهتف: اللهم أن هذا منكَرٌ لا يرضيك! وأقول وأنا صادق أني أنظر إلى شواطئنا أحياناً بعين الغضب والمقت؛ ولكن هذه الشواطئ المُجرمة خلقت فنَّا جديداً في اللغة العربية هو (أدب الشواطئ)، وقد ألفتُ فيه كتاباً سأنشره يوم أطمئن إلى أن الجمهور يفهم أن المؤرخ غير مسئول عن حوادث التاريخ.
ويوم يُنشر هذا الكتاب ستعرفون أن مصر دانت الأدب العربي بثروة طريفة من تشريح العواطف والأهواء، وسترون الغرائب حين تعرفون أن تلك الشواطئ أنطقت رجال الدين أنفسهم بأقوال هي من عيون الأدب الرفيع
كان الأستاذ الأكبر قد اتفق مع سعادة حامد باشا الشواربي على تخصيص جزء من شاطئ الإسكندرية للنساء بلغة العصر القديم، أو السيدات بلغة العصر الحديث، وتسامع رجال الأزهر بذلك فأمطروا شيخهم الكبير وابلاً من برقيات الثناء
ثم ماذا؟ ثم أُعِدَّ الشاطئ النسوي إعداداً محتشماً وأزيلت منه القهوات المخضرَمة التي تجمع من الأشربة ما نعرف وما نجهل ثم ماذا؟ ثم ماذا؟
ثم شاع أنه حمام خاصٌّ بالعجائز فلم تقبل عليه ستٌّ ولا ستُّوته ولا بنتٌ ولا بنّوتة، ورفعت أسواره بعد يومين اثنين؟
لا تظنوني خلقتُ هذه النكتة، فما هي إلاّ واقعةٌ وقعت، ولها حواش وذيول ستعلمون أنباءها بعد حين حياة الشواطئ إفك وسفاهة وضلال، ولكن الأدب يستفيد من كل شئ، لأن مهمة الأدب هي الوصف والشرح والتعليل، وحياة الشواطئ تمدّه بوقود رائع جزيل
الشواطئ كلها مآثم، ولولا الخوف من بغي الحاسدين والحاقدين لقلت إن المآثم لا تخلو من بريق يزلزل القلوب والأذواق والعقول، ومن هذه الزلزلة تكون الرجفة التي تثير شياطين الشعر والخيال. والشواطئ المصرية لها سوابق في تاريخ الأدب العربي. وقد وقعت تلك السوابق فوق أرض مقدسة تعطر ثراها بأقدام الرسول. هل تعرفون ما أعني ومن أعني؟ عندكم عمر بن أبي ربيعة وعندكم الشريف الرضي، وهما شاعران جعلا مواسم الحج معالم صبابة ومدارج فتون
عمر بن أبي ربيعة فاجر بحسب الاصطلاح، وهيامه بزائرات مكة هيام أثيم، ولكن أشعار ذلك الفاجر صارت من ذخائر الأدب العربي. وقد شرَّقت وغرّبت حتى قهرت بعض الجامعات الأوربية على إفراد أشعاره بدرس خاص
كان يقال: ما عُصِىَ الله بشعر أكثر مم عُصِى بشعر عمر بن أبي ربيعة
وهذا حق؟ فهل تضمنون أن يرفع اسمه من مطبوعات وزارة المعارف؟ وكيف وهو من الذين ستحفظ أقدارهم في كتاب (أعلام الإسلام) بدراسة يقدمها الأستاذ عباس العقاد؟
وتسمعون في كل يوم أن مصر تحارب الخمر لأنها في طليعة الأمم الإسلامية، ولكن رجال الأدب في مصر لن يستطيعوا غض النظر عن (خمريات أبي نواس) لأن الأدب وإن فَجَر في بعض نواحيه له سلطانٌ قهار لا ينكر جبروته غير الأغبياء!
أنا أبغض الفوضى أشد البغض، وأرجو الله في كل وقت أن يحفظ عليَّ نعمة السلامة من مكايد الشياطين، ولكني أؤرخ الأدب، والمؤرخ لا يصدُق إلا إن تناسى منافعه الذاتية، ونظر في الحوادث بلا غرض، والنزاهة عن الغرض هي التي تقفني هذا الموقف الشائك فأسجل على نفسي القول بأن الأدب لا يزدهر إلا في عصور الفوضى الاجتماعية، وهو قول يعرّضني لقوارص الاغتياب والتجريح
ولكن ماذا أصنع وأنتم دعوتموني لمواجهة المنطق والعقل فوق منبر كلية الآداب بين شباب وكهول لا يلقاهم الرجل الحازم بغير الصراحة والصدق؟
أحب أن أعرف كيف يطيش السهم الذي صوبته إلى صدر الباطل بهذه الكلمات التي شقيت في تحريرها ليلتين طويلتين؟ أحب أن أعرف كيف يضيع الرجل الصادق في هذه البلاد؟ أحب أن أعرف كيف ينال خصمي أصواتكم بعد هذه البينات، وعلى ضوء هذه الكهرباء؟ له أن يصول ويجول كيف يشاء، ولكم أن تحكموا له أو عليه كيف شئتم، فما أملك من القدرة غير صرير القلم وهدير الوجدان. ولكن، ما الذي يستطيع أن يقول؟
أيقول: إن النظام أفضل من الاضطراب، وإن الأدب الذي يصدُر عن الحالة الأولى أفضل من الأدب الذي يصدر عن الحالة الثانية؟
آمنت وصدقّت! ولكن هل يستطيع القول بأن النظام صدر عنه أدب رفيع؟ وما حاجة الناس إلى الأدب حين يعيشون في نظام وأمان؟ وهل للآمنين أدب وهم يعيشون في غيبوبة بفضل الراحة والاطمئنان؟
الأدب حظُّنا، جماعةَ المكتوين بالدنيا والناس، وليس لسوانا غير الأحلام، أحلام الناعمين بهدآت الليل!
عنّا يصدُر قلق الفِكر وانزعاج البال، وهما مصدر يقظة الرأي والعقل. فما بال قوم يتوهمون أنهم قادرون على مساورة الشعر والخيال وهم يشاركون الأموات في الهدوء والاطمئنان؟ عنا يصدر الإحساس بالدنيا والوجود، لأننا أشقياء بالدنيا والوجود، فما بال قوم يتوهمون القدرة على اقتحام جحيم الأدب وهم بفضل نعيم النظام سعداء؟ عنا يصدر الأدب الصحيح لأننا أصحّاء، وهل يحس وخز الألم غير من يملك عناصر العافية؟
من أنتم، في عالم الفكر والعقل، أيها الوادعون في ظل الأمن المكفول برعاية القوانين؟ أنتم أشبه بالأطفال الذين يعيشون في ظلال ما ورثوا عن الآباء والأجداد، ولن تحسوا من الدنيا أكثر مما يحس هؤلاء، أما نحن فقد كتب علينا أن نعيش بحس مرهف وذوق مشبوب، بفضل البلاء بالدنيا والناس، والفرق بيننا وبينكم أبعد مما تظنون، فجرِّبوا الاطمئنان إلى الوهم الخادع إن صح للمريض بالهيام أن ينخدع بالسراب!
النظام قرار، والاضطراب حركة، والحركة أدلّ على الحياة من السكون، جعلني الله وإياكم من الأحياء!
زكي مبارك