مجلة الرسالة/العدد 350/أفانين
مجلة الرسالة/العدد 350/أفانين
أثر الإيحاء في جلب التفاؤل
للأستاذ علي الجندي
- 2 -
أوردنا في مقال سابق أمثلة للإيحاء الذاتي، كان سبباً في ردْء التشاؤم عن أصحابها، وجلب التفاؤل إليهم
وسبيلنا في هذا المقال أن نسوق شواهد طريفة للإيحاء الخارجي، أي إيحاء الإنسان إلى غيره
وطرافة هذه الشواهد أن جلها بل كلها وقعت عفو البديهية ومسارقة الخاطر! ولولا ذلك ما كان لها هذا الأثر الذي يشبه فعل السحر! لأن مجيء الإيحاء في وقته أشبه بمعالجة المرض إبان طروئه. هذا إلى إن ذلك يطبعه بطابع الإلهام العلوي والنفحات اللْدنية! ويجعل له وقع البُشرَيات التي تنفرج عنها سجوف الغيوب في الحين بعد الحين!
وطبيعي أن هؤلاء السحرة أو الرُّقاة - على الأصح - الذين استطاعوا أن يتلعّبوا بالنفوس، فأروْها النحوس سعودا، ً والسواد بياضاً! واستنقذوها من القلق والشك والارتماض، لم يكونوا إلا جماعة من أهل اللسن والبيان! ومن أقدر من أهل اللسَ ن والبيان على قلب الحقائق والتصرف في أهواء النفوس؟ وإن من البيان لسحراً!
بل الحق أن البلاغة وحدها لا تغني غناءها في هذا المواقف المتضايقة، ما لم تسعدها شدة العارضة ودقة الفطنة وحسن التأني وبراعة الاحتجاج وقوة التعليل
وسنذكر هذه الشواهد فيما يلي مرتبة بحسب الزمن قدر الاستطاعة:
1 - بنى عبد الملك بن مروان باباً من أبواب المسجد الأقصى ببيت المقدس، وبنى الحجاج باباً إلى جانبه، فنزلت صاعقة فأحرقت باب عبد الملك، فتطّير بذلك وشق عليه! فبلغ ذلك الحجاج فكتب إليه: بلغني كذا وكذا، فلْيهن أمير المؤمنين أن الله تقبَّل منه! وما مثلي ومثله إلا كابنيْ آدم إذ قرَّبا قرباناً، فتُقُبِّل من أحدهما ولم يتقبَّل من الآخر
فلما وقف عبد الملك على الكتاب سُرِّي عنه وأستبشر قال صاحب المثل السائر: وهذا معنى غريب استخرجه الحجاج من القرآن الكريم، ويكفي الحجاج فطانة الفكرة أن يكون عنده استعداد لاستخراج مثل ذلك
2 - خرج المنصور العباسي إلى قتال أبي يزيد الخارجي في جماعة من الأنصار. فلما واجَه الحصن سقط الرمح من يده، فأخَذه بعضهم فمسحه وقال:
فألقت عصاها وأستقرّ بها النوى ... كما قرّ عيناً بالإياب المسافر
فضحك المنصور وقال: لم لا قلت: فألقى موسى عصاه؟
فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، العبد تكلم بما عنده إشارات المتأدبين، وتكلم أمير المؤمنين بما أنزل الله على النبي من كلام رب العالمين
فكان الأمر على ما ذكر، فأخِذ الحصن وتم الظفر للمنصور
3 - قلّد المأمون خالدَ بن يزيد بن مَزْيد ولايةَ الموصل، فمر خالد ببعض الدروب فأندقّ اللواء! فأغتمّ خالد بذلك وتطّير منه! فقال أبو الشّمقمق:
ما كان مُنْدَقُّ اللواء لطيرةٍ ... يُخشَى ولا سوءٍ يكون معجَّلا
لكنّ هذا العُودَ أضْعَفَ مَتْنَهُ ... صِغَرُ الولاية، فاستقلّ الموْصِلا
ففرح خالد! وكتب صاحب البريد بذلك إلى المأمون، فزاده ديار ربيعة، وأعطى خالدٌ أبا الشمقمق عشرة آلاف درهم
4 - كان المنصور بن أبي عامر الأندلسي إذا سار لغزوة، عقد لواءه بجامع قرطبة ولم يسرْ إلى الغزوة إلا من الجامع
فاتفق أنه في بعض حركاته للغزو توجه إلى الجامع لعقد اللواء، فاجتمع عنده القضاة والعلماء وأرباب الدولة، ورفع حامل اللواء اللواءَ، فصدهم ثريّا من قناديل من قناديل المسجد فانكسرت على اللواء، وانسكب عليه زيتها! فتطير الحاضرون من ذلك، وتغير وجه المنصور!
فقام رجل وقال: أبشر يا أمير المؤمنين بغَزَاة هيّنة وغيبة سارّة! فقد بلغت أعلامك الثريّا، وسقاها الله من شجرة مباركة!
فاستحسن المنصور ذلك، وكانت هذه الغزوة من أبرك الغزوات!
5 - كان سيف الدولة بن حمدان، قد ضرب خيمة كبيرة عجيبة الصنع (بميّا فارقين) فهبت ريح شديدة فقوضتها، فتكلم الناس في ذلك وأكثروا، فقال المتنبي:
أيقدح في الخيمة العُذَّلُ ... وتَشملَ منْ دْهرَها يشمل
وتعلو الذي زُحَلٌ فوقه ... مُحالٌ لعمرك ما تُسْأل
تضيق بشخصك أرجاؤُها ... ويركض في الواحد الجحفل
وكيف تقوم على راحةٍ ... كأن السحاب لها أنمُل
فلا تنكرنَّ لها صرعة ... فمن فرح النفس ما يقتل
ولو بلغ الناس ما بُلَّغت ... لخانتهمو حولك الأرجل
ولما أمرت بتطنيبها ... أُشيع بأنك لا ترحل
فما اعتمد الله تقويضها ... ولكن أشار بما تفعل
فما العاندون وما أمَّلوا ... وما الحاسدون وما قوَّلوا
همو يطلبون فمن أدركوا؟ ... وهم يكذبون فمن يَقبلُ؟
وهم يتمنوْن ما يشتهون ... ومن دونه جدُّك المقبل
6 - كان أبو إسحاق إبراهيم عبد الله البحتري يوماً عند أبي المسك كافور الأخشيدي فدخل عليه الفضل بن عباس فقال: أدام الله أيام سيدنا الأستاذ (بخفض أيام وحقها النصب)
فتبسم كافور إلى أبي إسحاق البحتري! فقال مرتجلاً:
لاغرو إن لحن الداعي لسيدنا ... وغص من هيبة بالريق والبهر
فمثل سيدنا حالت مهابته ... بين البليغ وبين القول بالحصر
فإن يكن خفض الأيام من دهش ... من شدة الخوف لا من قلة البصر
فقد تفاءلت في هذا لسيدنا ... والفأل مأثرة عن سيد البشر
بأن أيامه خفض بلا نصب ... وأن دولته صفو بلا كدر
7 - كان لعضد الدولة أحد الرؤساء أبن خُلِعَ عليه خلعة سنية، وركب إلى منزله - والناس بين يديه - فعثرت به فرسه فسقط من فوقها، ثم ركبها ثانية من ساعته فلهج الناس بالقول في الطيرة، فقال الوجيه الشاعر:
لا تعذل الفرسَ التي عثرتْ ... بك أمسِ قبل سماعك العذْر
قالت مقالاً لو علمتَ به ... لم تولها لوماً ولا هجرا: لما رأى الأملاك أنَّ على ... سرجيَ فتىً أعلى الورى قدرْا
رفَعَتْ يدي حتى تقبَّلها ... شغفاً بها فهوت يدي الأخرى
8 - كان السلطان حسن الناصري المصري يريد أن يبني لمدرسته (مسجد السطان حسن) أربع منائر. فلما بنيت ثلاث منها سقطت المنارة التي على الباب، فهلك تحتها ثلاثمائة من الأيتام الذين كانوا يقرءون القرآن وغيرهم من الناس!
فتحدّث الناس أن هذا نذير بزوال الدولة! فقال في ذلك الشيخ بهاء الدين السبكي:
تلك الحجارة لم تنقضَّ بل هبطتْ ... من خشية لله، لا للضعف والخَلَل
وغاب سلطانها فاستوحشت فرمتْ ... بنفسها لجوىً في القلب مُشْتعِل
لا يقرب البؤسُ بعد اليوم مدرسةً ... شيدْتَ بنيانها للعلم والعمل
ودمت حتى ترى الدنيا بها امتلأتْ ... علماً، فليس بمصر غير مشتغل
ومما يتصل بهذا وإن لم يكن منه أن الناجم دخل على ابن الرومي، وهو ينظم قصيدة في مدح أبي العباس المرثدي ويهنئه بابن وُلدَ له وكان أول القصيدة:
شمسٌ وبدرٌ ولد كوكبا ... أقسمت بالله لقد أنجبا
فقال الناجم: لو تفاءلت لأبي العباس بسبعة من الولد لأن معكوس أبي العباس: أبو السابع، إذاً لجأ المعنى طريفاً! فقال ابن الرومي:
وقد تفاءلتُ له زاجراً ... كنيتَه، لا زاجراً ثعلبا
إني تأمْلتُ له كنيةً ... إذا بدا مقلوبها أَعَجبا
يصوغها العَكْسُ أبا سابع ... لا كذّب اللهُ ولا خيَّبا
بل ذاك فألٌ ضامنٌ سبعةً ... مثل الصقور استشرفت مرقبا
يأتون من صُلب فتيً ماجد ... وذاك فألٌ لم يَعُدْ مُعْطبا
وقد أتى منهم له واحدٌ ... فَلْنَنتظرهم ستّة غيَّبا
في مدة تغمرها نعمةُ ... يجعلها الله لهُ تَرْتَبا
حتّى نراه جالساً بينهم ... أجلَّ من رضْوَى ومِن كبكبا
كالبدرِ وافي الأرض من نوره ... بين نجوم سبعة فاحْتَبى
ولْيُشكر النَّاجمُ عن هذه ... فإنها من بعض ما بَوَّبا سَدَّي وَأََلحمتُ أخٌ لم أزَلْ ... أشكر ما أسْدى وما سَبَّبا
هذه الشواهد وما قبلها تدل دلالة واضحة على أن التفاؤل والتشاؤم من عمل الإنسان نفسه، وأن المصاب بمرض التطير يستطيع بقوة الإرادة، واصطناع الرجاء، والنظر إلى الحوادث بمنظار أبيض وهاج، في ظل الثقة بالله وبشاشة الإيمان، أن يبرأ منه برءاً تاماً ولله الخلق والأمر.
علي الجندي