مجلة الرسالة/العدد 348/نشيد العام الهجري
مجلة الرسالة/العدد 348/نشيد العام الهجري
للأستاذ علي الطنطاوي
سلوا عنا رمال الجزيرة، وجنان الشام، سهول العراق
سلوا ربوع العجم، ومجاهل الترك، وسفوح القفقاس
سلوا بطاح إفريقية، ومغاني الأندلس، ومساكن الإفرنج
سلوا حفافي الكنج، وضفاف اللوار، وأطراف الدانوب
سلوا عنا كل أرض في (الأرض). . . فعندها كلها خبر من بطولاتنا وتضحياتنا، ومفاخرنا وأمجادنا، وعلومنا وفنوننا. نحن (المسلمين)
نحن (المسلمين). . . هل روى رياض المجد إلا دماؤنا؟
هل زانت جنات البطولة إلا أجساد شهدائنا؟
هل عرفت الدنيا أنبل منا أو أكرم، أو أرأف أو أرحم، أو أجل أو أعظم، أو أرقى أو أعلم؟
نحن (المسلمين). . . لنا في كل أرض شهيد قضى في سبيل الإسلام والسلام والإيمان والأمان، وتحت كل سماء رفرف لنا علم، وامتد لنا حكم، فكان الحكم المسعد العادل، وكان العلم الظافر الغلاب!
نحن بنينا الكوفة والبصرة، والقاهرة وبغداد
نحن أنشأنا حضارة الشام والعراق والأندلس
نحن شدنا بيت الحكمة، والمدرسة النظامية، وجامعة قرطبة، والجامع الأزهر
نحن علمنا أهل الأرض، وكنا الأساتذة وكانوا التلاميذ. . . نحن (المسلمين)!
منا أبو بكر وعمر ونور الدين وصلاح الدين، منا خالد وطارق وقتيبة وابن القاسم، منا أبو حنيفة والشافعي، منا البخاري وابن حنبل، منا الغزالي وابن رشد، منا إبن سينا والرازي والفارابي والبيروني، منا الخليل والجاحظ وأبو حيان، منا أبو تمام والبحتري والمتنبي والمعري، منا إسحاق الموصلي وزرياب. . . لقد أنجبنا خلفاء وقواداً، ومحدثين وفقهاء، ورياضيين وأطباء، ولغويين وكتاباً وشعراء وموسيقيين. . . لقد أنجبنا مائة ألف عظيم وعظيم. . . نحن (المسلمين)!
تنظم في مفاخرنا مائة إلياذة، وألف شاهنامة، ثم لا تنقضي أمجادنا ولا تفنى، لأنها لا ت ولا تحصى
من بعد معاركنا المظفرة التي خضناها؟ من يحصي مآثرنا في العلم والفن؟ من يستقري نابغينا وأبطالنا. . . إلا الذي يعد نجوم السماء، ويحصي حصى البطحاء، ويستقري رمال الدأماء!
اكتبوا (على هامش السيرة) ألف كتاب، و (على هامش التاريخ) مثلها، , وأنشئوا مائة في سيرة كل عظيم، ثم تبقى السيرة ويبقى التاريخ كالأرض العذراء والنجم البكر!
نحن (المسلمين). . .
هل تحققت المثل البشرية العليا إلا فينا؟ هل عرف الكون مجمعاً بشريا ً - إلا مجمعنا - قام على الأخلاق والصدق والإيثار؟ إن بين واقع الحياة وبين أحلام الفلاسفة وآمال المصلحين، لحرباً أزلية باقية، ما اصطلحا وما تواءما إلا في صدر الإسلام، يوم كان الواحد منا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويؤثره عليها ولو كان به خصاصة. وكانوا أطهاراً في أجسادهم وأرواحهم ومادتهم ومعناهم، وكانوا لا يأتون أمراً ولا يدعونه، ولا يقومون ولا يقعدون، ولا يذهبون ولا يجيئون إلا لله. قد أماتوا الشهوات من نفوسهم، فكان هواهم تبعا لما جاء به القرآن. . .
لقد كنا خلاصة البشر، وصفوة الإنسانية، وجعلنا حقاً واقعاً ما كان يراه الفلاسفة والمصلحون أملاً بعيدا، نحن (المسلمين)!
نحن (المسلمين). . قوتنا بإيماننا، وعزنا بديننا، وثقتنا بربنا، وقانوننا قرآننا، وإمامنا نبينا، وأميرنا خادمنا، وضعيفنا المحق قوي فينا، وقوينا عون لضعيفنا، وكلنا إخوان في الله، سواء أمام الدين. . . نحن (المسلمين)!
نحن (المسلمين) ملكنا فعدلنا، وبنينا فأعلينا، وفتحنا البلاد فكنا الأقوياء المنصفين. سننّا في الحرب شرائع الرأفة، وشرعنا في السلم سنن العدل، فكنا خير الحاكمين، وسادة الفاتحين، نحن (المسلمين)!
أقمنا حضارة، فكانت خيرا كلها وبركات، حضارة روح وجسد، وفضيلة وسعادة، فعمّ نفعها الناس، وتفيأ ظلالها أهل الأرض جميعا
نحن (المسلمين). . . لسنا أمة كالأمم تربط بينها اللغة، ففي كل أمة خيّر وشرّير؛ ولسنا شعباً كالشعوب يؤلف بينها الدم، ففي كل شعب صالح وطالح؛ ولكنا جمعية خيرية كبرى، أعضاؤها كل فاضل، من كل أمة، تقيٍّ نقيٍ، تجمع بيننا التقوى إن فصل الدم، وتوحد بيننا العقيدة إن اختلفت اللغات، وتديننا الكعبة إن تناءت بنا الديار. . .
أليس توجهنا كل يوم خمس مرات إلى هذه الكعبة رمزاً إلى أنها مركز الدائرة وقطب الرحى، تدور عليه وتطيف به، مهما اتسمت الرقعة وطال المحيط؟
نحن (المسلمين). . . ديننا الفضيلة الظاهرة، والحق الأبلج، لا حجب ولا أستار، ولا خفايا ولا أسرار. هو واضح وضوح المئذنة. . . أفليس فيها ذلك المعنى؟ هل في الدنيا جماعة أو نحلة تكرر مبادئها وتذاع كل يوم، عشر مرات، كما تذاع من مشارق الأرض ومغاربها عشر مرات كل يوم، مبادئ ديننا نحن (المسلمين): أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله؟
نحن (المسلمين). . . لا نهن ولا نحزن، ومعنا الله، ونحن نسمع كل يوم ثلاثين مرة هذا النداء العلوي المقدس، هذا النشيد القوي: الله أكبر
نحن (المسلمين). . . البطولة سجية فينا، وحب التضحية يجري في عروقنا، لا تنال منها صروف الدهر، ولا تمحوها من نفوسنا أحداث الزمان. . .
نحن (المسلمين). . . كم حلّ بنا من أرزاء، وكم رأينا من مصائب، وكم نزل بساحتنا من كوارث، فهل باد روح البطولة من بين جوانحنا؟
لا. لا. لا نكون مسلمين إذا لم نكن أعزّ في نفوسنا من أهل الأرض جميعاً، وإن لم نعد إلى ربنا، ونستلهم تاريخنا، ونعد أمجادنا، نحن (المسلمين). . . المستقبل لنا. . . قد تيقظنا فلن ننام بعد أبداً. . . المستقبل لنا نحن (المسلمين)!
دمشق - (المدرسة الثانوية الأولى)
علي الطنطاوي