مجلة الرسالة/العدد 348/من أسرار غزوة بدر
مجلة الرسالة/العدد 348/من أسرار غزوة بدر
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
المشهور بيننا أن المسلمين لما انتهوا من غزوة بدر اختلفوا في شأن من أسروه من المشركين، فرأى فريق قتلهم، ورأى فريق أخذ الفداء منهم، فجمع النبي ﷺ أصحابه ليشاورهم فيما يفعله مع أولئك الأسرى، وكان يأخذ بالشورى في أموره، ليعلم أصحابه الأخذ بها، وإن كان هو غنياً عنها، لآن من يكون معه وحي السماء، لا يحتاج إلى رأي أهل الأرض، وهو عرضة للخطأ والصواب.
فجمع النبي ﷺ أصحابه وقال لهم: ما تقولون في هؤلاء؟ (يعني الأسرى)، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، قومك واهلك، استبقهم واستأن بهم، لعل الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار.
وقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، كذبوك وأخرجوك فدعهم نضرب أعناقهم. مكّن عليا من عقيل (أخيه) فيضرب عنقه. ومكن حمزة من العباس (أخيه) فيضرب عنقه. ومكنِّي من فلان (نسيب لعمر) فأضرب عنقه؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر!
وقال عبد الله بن رَواحةَ الشاعر المعروف: يا رسول الله، أنظر واديا كثير الحطب، فأدخلهم فيه، ثم أضرمه عليهم نارا. . . وهو رأي يتفق مع طبيعة الشعراء في تأثرهم بالعاطفة أكثر من العقل، وشأن العاطفة المغالاة في الحب والبغض، وشأن العقل الاعتدال فيهما.
فسكت رسول الله ﷺ فلم يجبهم، ثم تركهم ودخل، فقال ناس من أهل المجلس: يأخذ بقول أبي بكر. وقال ناس منهم: يأخذ بقول عمر. وقال آخرون: يأخذ بقول عبد الله ابن رواحة. ثم خرج رسول الله ﷺ فقال: إن الله لَيُلينُ قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، ويشد قلوب رجال حتى تكون أشدّ من الحجارة. وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم، قال: (فَمنْ تَبعنِي فانه مِني، ومَن عصاني فانك غفورٌ رحيم). ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى، قال: (إنْ تُعذِّبهمْ فانهم عِبَادُكَ، وإن تَغفرْ لهم فإنك أنت العزيز الحكيم). ومثلك يا عمر مثل نوح، قال: (ربِّ لا تذَرْ عَلَى الأرض من الكافرين دَيّاراً). ومثلك يا عبد الله بن رواحة كمثل موسى، قال: (رَبَّنا اطمسْ على أموالهمْ واشدُدْ على قلوبهم، فلا يُؤمِنوا حتى يَرَوا العذابَ الأليمَ).
ثم قال رسول الله ﷺ: اليوم أنتم عالةٌ، فلا يفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق. . .
وروى إبن عباس عن عمر أنه قال: فهوى رسول الله ﷺ ما قال أبو بكر: ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء. فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله ﷺ وأبو بكر قاعدان يبكيان، فقلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله ﷺ: أبكي على أصحابك من أخذِهم الفداء. لقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة منهم - فأنزل الله عز وجل عليه (ما كانَ لِنَبيّ أنْ يَكونَ لَهُ أسْرى حَتى يُثخنَ في الأرْضِ، تُريدوُنَ عَرَضَ الدُّنيا واللُهُ يُريدُ الآخِرَةَ، واللهُ عزيزٌ حَكُيم. لَولا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لمسّكُم فِيما أخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظُيم)
فهذا هو المشهور بيننا في سبب نزول هاتين الآيتين (67، 68) من سورة الأنفال التي نزلت في غزوة بدر؛ وهو يفيد أن الله تعالى غضب على النبي ﷺ وعلى أصحابه لهذا العمل الإنساني العظيم الذي أشار به أبو بكر، من البرّ بالأسرى والرفق بهم. وهذا مع أن الذي أشار به أبو بكر هو الذي يتفق مع ما جاء به الإسلام في شأن الأسرى، ومع ما امتازت به الحروب الإسلامية على الحروب السابقة من الإحسان إليهم. على أن الله قد نصر المسلمين في غزوة بدر نصراً عظيما، وشفى نفوسهم من صناديد قريش، فقتلوا فيها كلهم، ولم يفلت إلا قليل منهم، وكان منهم في الأسر النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط، فقتلهما رسول الله في طريقه إلى المدينة، ولم ينتظر بهما ما فعله في غيرهم من الأسرى. ولما اختار رسول الله رأي أبي بكر في الفداء قال له عبد الله بن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء، فإني سمعته يذكر الإسلام، قال إبن مسعود: فسكت رسول الله ﷺ، فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع عليَّ الحجارة من السماء من ذلك اليوم حتى قال رسول الله ﷺ: إلا سهيل بن بيضاء
ولم يبق بعد هؤلاء في الأسرى إلا العباس بن عبد المطلب عم النبي ﷺ، وإلا عقيل بن أبي طالب أخو علي، وإلا أمثالهما ممن لم يكن من أولئك الصناديد. وقد حقق الله في كثير منهم رجاء أبي بكر (لعل الله أن يتوب عليهم) فأسلم العباس بن عبد المطلب، وأسلم عقيل بن أبي طالب، وأسلم كثير غيرهما من أولئك الأسرى، والرأي الذي تحققه الأيام لا يليق بحكمة الله تعالى أن يغضب من إيثاره على غيره ذلك الغضب
وإن أرى أن الإسلام إذا كان قد أباح قتل الأسير مع ما أباحه فيه من الاسترقاق والإطلاق بفداء أو بدون فداء، فإنه يجب ألا يصار إليه إلا عند الضرورة القصوى والأسباب الموجبة. وإنه ليعجبني ما روى عن الحسن وعطاء رحمهما الله تعالى أنهما قالا: لا يُقتل الأسير، ولكن يُفادى أو يُمنُّ عليه، وكأنهما اعتمدا في ذلك ظاهر قوله تعالى: (فإذا لقيتُمُ الّذينَ كفرُوا فَضرْبَ الرِّقَابِ حتى إذا أثخنْتموهم فَشُدُّوا الوثَاقَ فإمَّا مَنَّاً بَعْدُ وإمَّا فِدَاءَ حَتْى تَضَعَ الحَرْبُ أوْزَارَها) - المبسوط للسرخسي ج10 ص24 - وهذا الذي يذهب إليه الحسن وعطاء في الأسير هو الذي تذهب إليه القوانين الحربية الحديثة
ولهذا كله لا أرى أن السبب في نزول آيتي الأنفال هو إنكار الفداء الذي أشار به أبو بكر واختاره النبي ﷺ على رأي عمر وعبد الله بن رواحة، ولاسيما أن هذا الفداء في غزوة بدر لم يكن أول فداء أخذه النبي (ص) من الأسرى، فقد أخذ الفداء فيما حصل قبلها من السَّرَايا، ولم ينكر الله عليه أخذه له، وكان ذلك في سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة بين مكة والطائف، فرصد فيها عيراً لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة من تجارتهم، فيها عمرو بن الحَضرمي، وعثمان ونوفل ابنا عبد الله المخزوميان، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة، فقتلت سرية عبد الله بن جحش بعضهم، وأسرت عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، واستاقت العير إلى المدينة، فبعثت قريش في فداء الأسيرين، فقبل النبي ﷺ فداءهما. فأما الحكم بن كيسان فاسلم وأقام بالمدينة حتى أستشهد يوم بئر معونة، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة ومات بها كافراً
والذي أراه أن تينك الآيتين نزلتا في أمر آخر حصل في غزوة بدر، وذلك أن تلك الغزوة كانت أهم قتال بدأ به المسلمون بعد هجرتهم إلى المدينة، وكانوا لا يزالون في نشأتهم قلة بالنسبة إلى قريش، وهذا إلى غيرهم من المشركين الذين تعج بهم الجزيرة، فاهتم النبي ﷺ بأمرها، وأمر الله فيها المسلمين ألا تأخذهم في قتال المشركين راْفة ولا شفقة، وأن يثُخنوا فيهم إذا مكن لهم منهم، حتى يهي أمرهم، ويضعف شأن الشرك بضعفهم، ويكون ما يحصل لهم عبرة لغيرهم من المشركين. وفي هذا يقول الله تعالى في سورة الأنفال (سَأُلِقي في قلوبِ الّذينَ كَفَروا الرُّعبَ فاضربوا فَوقَ الأعناقِ وَاضْرِبُوا مِنهُمْ كلّ بَنَانٍ) - 12
ولكن المسلمين في هذه الغزوة لم يكادوا يرون النصر فيها بعد أن قتل الله من قتل من صناديد قريش حتى أدركتهم تحيزتهم الأولى في الجاهلية، واستبدلوا الأسر في المشركين طمعاً في الفداء بالإثخان فيهم، والضرب فوق أعناقهم
فلما وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله ﷺ في العريش، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش متوشحاً في نفر من الأنصار، يحرسون رسول الله ﷺ يخافون عليه كرة العدو - رأى رسول الله في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له: والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم، قال: أجل والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال
فهذا هو الإثخان الذي نزل فيه قوله تعالى في الآيتين السابقتين (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) وهو إثخان تبيحه الشرائع العادلة، ويقتضيه الحزم والتدبير، وقد أمر الله به في أثناء القتال، ولم يأمر به في الأسرى بعد الانتهاء منه، كما هو المشهور في سبب نزول تينك الآيتين
وأما عرض الدنيا الذي قصده الله تعالى بقوله: (تريدون عرض الدنيا) فليس هو الفداء الذي أباحه الله لنا بعد القتال، وإنما هو ما حصل منهم أثناء القتال من إيثار الأسر على القتل طمعاً في الفداء، والقتال في الإسلام لا يصح أن يكون لغرض القتل من أغراض الدنيا، لأن ذلك هو قتالهم في الجاهلية للسلب والنهب والإسلام أشرف من أن يباح فيه القتال لذلك الغرض
وهذا المعنى الذي نقوله في تفسير الآيتين هو الظاهر منهما، لأن العتاب فيهما لم يرد إلا على نفس الأسر، أما تفسيرهما المشهور فالعتاب فيه على الفداء، وهو إنما يصح تفسيرا لمثل: كان لنبي أن يبقيُ على أسرى. وقد قال أبن السبكي في تفسيرهما: إن المعنى ما كان لنبي غيرك أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض. فجعل هذا من خصائصه ﷺ، وهو تفسير يخالف التفسير المشهور أيضاً، ولكنه بعيد عن نظم الآية، والذي يتفق مع نظمها هو تفسيرنا.
عبد المتعال الصعيدي