مجلة الرسالة/العدد 348/من معاني الهجرة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 348/من معاني الهجرة

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 03 - 1940



للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

لعل أكبر أيام الإسلام بل أيام الإنسانية كلها بعد يوم الرسالة هو يوم الهجرة

لقد كانت الهجرة الكريمة بدء عهد عزة الإسلام وانتشاره، عهد الجهاد الإيجابي في سبيل الله بالنفس والمال. إن النبي صلوات الله عليه كان طبعا يجاهد في سبيل الله بالنفس منذ الأول بتعريضه نفسه الشريفة للخطر الشديد في تبليغ الدعوة قبل الهجرة. أما المسلمون قبل الهجرة فكان جهادهم جهاد المستضعفين: كان جهاد صبر على الأذى وتمسك بالدين رغم الاضطهاد، ومن يقرأ تاريخ الإسلام قبل الهجرة ير عجبا من أمثلة ذلك التمسك رغم الأذى البالغ والعذاب الشديد. لكن الجهاد في سبيل الله يجب ألا يقتصر على الجهاد السلبي، جهاد الصبر على الأذى من غير مقاومة إيجابية للمؤذين. صحيح أن المسلم يجب أن يتمسك بدينه وأن يعمل به رغم كل المثبطات ورغم كل الصعاب لكن يجب عليه أيضاً ألا يقر للذل، ولا يقيم على الضيم، فإن الإسلام دين عزة (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين). فإذا وُجد المسلم بدار مذلة، لا يستطيع أن يقيم فيها دينه كما يجب أن يقام، وجب عليه أن يهجر تلك الدار ولو عزت عليه، وأن يهاجر منها إلى حيث يستطيع أن يعبد ربه ويقيم دينه حرا عزيزا لا يخضع إلا لله، ولا يرى لأحد حقا عليه إلا بحق الله

وهذا هو درس الهجرة الأول. لقد هاجر النبي صلوات الله عليه من مكة وهي أحب بلاد الله إليه، وهاجر المسلمون الأولون وقلوبهم تتلفت إلى ما خلفوا وراءهم من الأهل والمال والوطن. تتلفت ولكن لا تؤثر على الدين من ذلك كله شيئا. إذا لم يمكن إعزاز الدين وإحياؤه وإقامة أحكامه إلا بمفارقة ما يعز من أهل ومال ووطن، فليفارقه المسلم ويهاجر في سبيل الله فراراً بدينه وطلباً لإعزازه. (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مُراغماً كثيراً وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) وصدق الله

إن واجب الإنسان الأول هو واجبه نحو خالقه الذي خلقه ورزقه الأهل والولد والمال والوطن. الأهل والولد والمال والوطن والنفس من اجل نعم الله على الإنسان، لكن من الحمق أن يجعل الإنسان نعم الله عليه سبباً لمعصية الله أو الكفر به، من الحمق المطبق أ يؤثر الإنسان على ربه شيئا مما وهبه ربه، فإيثار الدين على كل ما يعزه الإنسان من مال وأهل ونفس ووطن هو درس الهجرة الثاني، الذي يجب أن يتعلمه المسلم ولا ينساه، هما درسان عظيمان من دروس الهجرة النبوية الكريمة يجب ألا ينساهما المسلم: درس عدم الإقرار للذلة في الدين بأي صورة أو لأي سبب، ودرس إيثار الله ودينه على كل شيء مما خلق الله ومما يعلق به قلب الإنسان

إن قلب المسلم يجب ألا يستشعر خوفا غير خوف الله، ولا رجاء إلا رجاء الله الذي خلقه والذي له مقاليد السموات والأرض وبيده نواصي العباد. هذا هو التوحيد المطلق، وهذا هو الإسلام لله، ومدى التفاضل والتفاوت في هذا واسع عظيم كما نرى، لكن على المسلم أن يجتهد في تحقيقه ما استطاع. عليه أن يحب الله فوق كل شيء؛ ويؤثر الله على كل شيء، ويضحي في سبيل الله إذا لزم الأمر بكل شيء، ولو اقتضى ذلك الخروج في سبيل الله عن المال، والتضحية في سبيل الله بالنفس والأهل والمهاجرة في سبيل الله عن الوطن، إن كان الوطن مما لا يستطيع المسلم أن يقيم فيه الدين

لكن من فضل الله علينا وعلى المسلمين اليوم أن عافانا من ذلك الامتحان الشديد، امتحان ترك الوطن في سبيل الدين. فوطننا والحمد لله وطن إسلام وليس وطن كفر، وهو والحمد لله وطن أمن للدين والمتدينين وليس وطن اضطهاد كما كانت مكة حين هاجر منها الرسول صلوات الله عليه. فموقف المسلمين اليوم في هذا البلد وفي كل بلد مسلم ليس هو موقف الرسول صلوات الله عليه والمسلمين في مكة قبل الهجرة، ولكن هو موقف الرسول صلوات الله عليه والمسلمين في المدينة بعد الهجرة. أعزوا الإسلام فيها ودافعوا عنه كل مهاجم أو مغير، ولم يقبلوا لحظة واحدة أن تكون كلمة في مدينتهم فوق كلمة الله، أو يكون الحكم في أرضهم إلا لله، وهذا هو واجب المسلمين الآن، واجبهم أن يعزوا دين الله في بلادهم كما أعزه رسوله والمؤمنون الأولون، فلا يقبلوا في دينهم مطعناً، ولا لأحكامه مخالفة، واجبهم أن يثبتوا في بلادهم ويثبتوا الإسلام فيها كما فعل النبي في المدينة، وأن يدفعوا عن دينهم وبلادهم كل مهاجر ومغير

وليس الدفاع عن الإسلام وبلاده بالسيف والمدفع فقط. هذا هو آخر الدفاع، لكن أول الدفاع وأهمه هو الدفاع عن روح الإسلام في بلاده. إن روح الإسلام إذا ضعف في المسلمين فلن يتحملوا في سبيل الإسلام أذى ولا جهداً، فضلًا عن أن يريقوا في سبيله من دمائهم دماً. إن روح الإسلام وحبه يجب أن يتغلغل في قلب كل مسلم، فإن تغلغل فسيحرص المسلمون على إقامة الدين وسيعرفون كيف يعزونه ويعزون أنفسهم به

لكن أنى لروح الإسلام أن يتمكن من قلب المسلم وهو يجهل الإسلام ولم ينشأ فيه؟ إن النشأة والتربية هي التي تصبغ الناشئ بصبغتها وتوجهه في الحياة. والنشأة الإسلامية مفقودة في الأقطار الإسلامية منذ أمد طويل، ولو كانت موجودة كما ينبغي أن توجد، لعرف المسلمون دينهم كما ينبغي أن يعرفوه، وإذن لعرفوا كيف يحبونه ويعزونه كما ينبغي أن يحبوه ويعزوه. إذن لعرفوا كيف يدفعون شر العوامل الكثيرة التي تحاول أن تضعف الإسلام في نفوسهم وتغزوه في قلوبهم، ولعرفوا ماذا يقبلون من هذه المدنية الغربية المغيرة عليهم وماذا ينبذون. ليتهم عرفوا الإسلام! إذن لأدركوا أن المدنية الغربية ليس فيها ما يحتاجه المسلمون إلا هذا العلم الطبيعي التجريبي الذي هو ملك العقل البشري عامة، والذي ينبغي أن يكون ملكاً للأمم كافة، لأنه نتيجة استعمال العقل الصارم في بحث ما حلق الله وليس نتيجة العاطفة، فليس فيه شيء من خصائص الأمم التي تظهر عادة في آدابها. العلم التجريبي هو كل ما يحتاجه المسلمون من هذه المدنية الغربية. أما اجتماعيات الغرب فليس المسلم في حاجة إلى شيء منها، لأن رب الشرق والغرب وخالق الخلق كلهم هو الذي شرع للمسلم وللإنسانية كلها أحكام الاجتماع وأصوله مفصلة في الإسلام، كما أجمل للمسلم وللإنسانية كلها أمر طلب العلم الطبيعي في القرآن إجمالاً هو أشبه شيء بتفصيل

لكن إذا كان شباب المسلمين قد فاتهم أن يربوا تربية إسلامية، فإن عليهم أن يتداركوا من ذلك في أنفسهم ما ضيعه الناس. ولا يسوفن في هذا، فإن الأمر ليس أمر حياة أو موت، وعزة أو ذلة، في الدنيا فقط، ولكن هو أمر سعادة أو شقاء إلى الأبد في الآخرة. ولا يقولن إن الفرصة فاتت ماداموا لم يتعلموا الدين على وجهه في المدارس. إن الفرصة موجودة والطريق إلى تدارك ما فات مفتوح بسيط ممتع. أو يدري المسلمون وشباب المسلمين ما هو؟ قراءة سيرة الرسول صلوات الله عليه، وقراءة القرآن، وقراءة الحديث! ثم بعد ذلك أو بين ذلك قراءة تاريخ الخلفاء الراشدين

إن القارئين من شباب الإسلام من بنين وبنات يقبلون على قراءة الروايات، فلماذا لا يقبلون على قراءة السيرة النبوية وهي تاريخ نشأة دينهم وحياة نبيهم؟ إنها أمتع من أي رواية صاغها الخيال، وهي بعد ذلك حق وقع، ومنها يعرفون من أمر دينهم، كيف نشأ وكيف نما، ما لا يعرفه كثيرون ممن لم يدرسوا الدين إلا في كتب الفقه والأحكام

ثم إنهم يقرأون الأدب العربي: يقرأون لأدبائه المحدثين وقد يقرأون للأقدمين. فلماذا لا يقرأون الأدب السهل الخالص البالغ في كتب الحديث؟ إن كتب الحديث الصرف ليست كتب حواش وشروح كتلك التي يتصورها الشبان تدرس في الأزهر. إنها كلام الرسول صلوات الله عليه يحادث أصحابه: يأمرهم وينهاهم ويعظهم ويهديهم ويشير عليهم فيما يستشيرونه فيه من أمور الحياة. إنها أنفع لطلاب الأدب من أي أدب آخر يمكن أن يقرأوه أو يدرسوه، لأن أمور الحياة كلها يتناولها ذلك الكلام الكريم بأعذب لفظ وأسهل أسلوب: لفظ الرسول صلوات الله عليه وأسلوبه في تبليغ رسالة الله للناس ليأخذ شبان المسلمين أي كتب الحديث الصحيحة شاءوا. ليأخذوا البخاري مثلا وليقرأوه تاركين الأسانيد، أو ليبدأوا بقراءة مختصر البخاري المسمى (مختصر الزبيدي) المحذوف منه الأسانيد الطويلة والأحاديث المكررة، ثم ليرجعوا بعد ذلك إلى البخاري نفسه إذا شاءوا، إذن لرأوا العجب العجاب من فصاحة العربية وبيانها إن كانوا طلاب فصاحة وبيان، ولفقهوا من أحكام الدين وروحه ما لا يفقهه أو يعرفه إلا الذين استقوا من هذا الورد العذب الفياض، وكل ذلك في غير كلفة أو عناء

ثم القرآن! لماذا لا يقرأ الشباب الإسلامي القرآن؟ لماذا لا يجعلون لأنفسهم حصة ولو قصيرة يقرأونها من القرآن كل يوم؟ لماذا لا يمضي المسلم يقرأ من القرآن كل يوم شيئا يسيراً حتى يتم القرآن كله في الزمن الذي يتمه فيه، قصر أو طال؟ إن القرآن كلام الله عز وجل، حفظه الله للمسلمين وللإنسانية كلها من التحريف والتغيير رحمة للناس، فهل يغفل الشبان عن كلام ربهم سبحانه فلا يقرأونه وهم يقبلون على دراسة كلام الناس؟ ليقرأوا القرآن - فالقرآن سهل يسره الله للذكر - وإذا لم يفهموا كلمة منه فعندهم القواميس، وإذا لم يفهموا آية فليسألوا عنها أهل البصر بالدين. إن فعلوا - وحياتهم ونجاتهم في أن يفعلوا - فسيشعرون، إذا قرأوا القرآن وتدبروه بطهارة نفس واطمئنان قلب لا يجدهما من لا يقرأ القرآن ليقرأ المسلمون القرآن والحديث وسيرة الرسول وتاريخ الخلفاء الراشدين، عندئذ لا يخشى المسلمون على شبابهم فتنة، ولا تعلق بنفوسهم شبهة، ولا يغلب الإسلام على قلوبهم غالب. عندئذ يستطيعون أن يقوموا بحق الدين بإحسان الدفاع عنه والعمل به، ويعرفون أي نعمة أنعم الله بها عليهم وعلى الإنسانية كلها حين أرسل صاحب الهجرة صلوات الله عليه رسولا منه إلى الناس.

محمد أحمد الغمراوي