مجلة الرسالة/العدد 348/بين الذكرى والعبرة
مجلة الرسالة/العدد 348/بين الذكرى والعبرة
معجزة الإسلام الخالدة
للأستاذ محمد عرفه
(شعب يظهر على شعوب، ودين يعلو على أديان، وحضارة
تغزو حضارات، وقوة معنوية تزلزل الأرض وتهد الجبال)
يعجب كثير من الناس كيف استطاع محمد ﷺ أن يفتح بفئة قليلة من المهاجرين والأنصار الحصون التي كانت حول المدينة ومكة؛ وأن يظهر بهم على إقبال الجزيرة العربية ورجالاتها، وعلى عقائدها وعاداتها؛ وأن يرفع بهم في غيابة الجهل، وضلال العقل وحيرة الإنسانية، لواء الحق والفضيلة، والخير والرشاد، فينشر في أرجاء الجزيرة، بهذه الفئة الصغيرة، هدى السماء، وشريعة التوحيد، ويأتيه أهلها طائعين، يدخلون في دين الله أفواجا؛ ثم كيف استطاع أصحابه بعد أن فتحوا بهؤلاء دول العالم القديم: فارس والروم وبلاد السند ومصر وأفريقية والأندلس. . . وقد كانوا أقل عدة، وأضعف جندا، وأقل دراية بفنون الحرب، ودربه على أساليب القتال - من أمة كفارس والروم.
يعجبون من شأن هؤلاء المسلمين الأولين، لقد كانوا بين تلك الدول والشعوب، وهذه الحضارات والمدنيات، كالشعرة البيضاء في فرس بهيم، وكالطفل الصغير يصارع شجاعاً جباراً.
ولكني لا أعجب عجبهم؛ بل أعجب كيف لم يفتحوا الأرض جمعاء، ثم يحاولوا بعد ذلك فتح السماء؟
كيف أعجب من ذلك؟
لعلي أغفل قانون الكثرة، والقوة المادية، والفنون الحربية
لعلي أغفل البروج المشيدة، والحصون الشامخة، والعساكر والدساكر، والمدن والذخائر، والقوة والمنعة، والعزة والشوكة، والعلم والرأي، والفن والتدبير. . .
لا، لست أغفل شيئا من هذا كله، فقد جعلت لكل أمر قدراً؛ بيد أني لم أغفل القوة المعنوية، فقدرتها حق قدرها، ووازنت بينها وبين كل ذلك؛ فرأيتها ترجح بها كافة.
كانت القوة المعنوية في جانب، وكانت القوة المادية في آخر وكان من الحتم أن تتغلب القوة المعنوية على كل شيء عداها. . .
كان في هذه الفئة القليلة من المسلمين قوة معنوية، بعثها فيهم دينهم، وأججها في صدورهم نبيهم، فأتت أكلها كل حين بإذن ربهم، وظهرت بها معجزات الإسلام الخالدة على يد هؤلاء البواسل الأرواع حتى فتحت أرضاً، ونشرت دينا، وفرضت لغة على هؤلاء الأقوياء الظاهرين في الأرض، ثم بعثت الحضارة والمدنية والثقافة والعرفان في الشعوب جميعاً
إنه لخليق بالباحث أن يتبين هذه القوى المعنوية التي كانت تخفق بها قلوب المسلمين، والتي أتت بهذه المعجزات الباهرة الخالدة بعد قليل من السنين
لقد فتشت عنها، وبحثت عن مصادرها ومظاهرها، فرأيتها تتجلى فيما يأتي:
1 - الإيمان
آمن المسلمون بشريعة الإسلام؛ وآمنوا بأنهم على حق في عقائدهم وآرائهم وأعمالهم، والناس جميعاً على باطل، ومن حق هذه العقائد الحقة، والآراء الحقة، والأعمال الحقة، أن تعم للبشر وان يؤمن بها الناس جميعاً؛ وآمنوا بأنهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الإنسانية السعيدة على أسس العدالة والحق والسلام. لقد آمنوا بأنهم مصلحو البشر، وهداة الكون، وأنهم إن مكن لهم في الأرض بعثوا فيها هدى ونوراً وعدلاً، وأنقذوها من يد الظلم والوحشية، وحرروها من استبداد الطغاة وقسوة القساة، وغطرسة المتزعمين والمتكبرين (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر)
وآمن المسلمون مع ذلك بأنهم منتصرون فائزون، لأنهم على حق، والحق لابد ظافر منصور، يستوي في درك ثمرة النصر الأموات والأحياء، فكل موقعة تقع، وكل حرب تشب نارها، هم فيها الرابحون، وأعداؤهم هم الخاسرون، فالمجاهدون من المسلمين إما أن يقتلوا أو يقتلوا، فمن قتلوا فلهم الفوز بالسعادة الآخرة الباقية، يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين، ومن قتلوا فلهم النصر والبقاء في الارض، والعزة والدولة لقد غرس هذا الإيمان المتشعب النواحي في نفوس المسلمين كتابهم الحكيم، ورسولهم الكريم. بعث فيهم الله روح القوة والرجولة، والإباء والبطولة، ووعدهم بالنصر المؤزر والفوز المبين (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلوْن إن كنتم مؤمنين). (أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون)، وزاد الرسول ﷺ هذه الروح فيهم اشتعالاً بقوله وفعله. أفلم تسع قريش إلى عمه برجالاتها ووجوهها يناشدونه البقيا على الرحم، والحفظ للجوار، وكف محمد عن تسفيه أحلامهم والسخرية بأصنامهم، فطلب أبو طالب من إبن أخيه أن يبقى عليه وعلى نفسه وألا يحمله ما لا يطيق من عداوة قومه، وخصومة أرومته، فثار هذا الداعي الكريم، ونطق هذا الروح العظيم: (يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه). وكان هذا القول الفصل بين قريش وبين محمد الرسول الكريم. وضرب بهذا أروع مثل للأجيال السابقة واللاحقة
وقبس المسلمون هذه الروح، فتجلت في أسارير وجوههم، ورسمت على صفحات قلوبهم، وبدت في كلامهم، وفي أفعالهم، كأنها الشهاب الثاقب، أو الصبح المبين
فهذا رسول الله يستشير المسلمين في محاربة قريش وقد خرج للقائهم في غزوة بدر الكبرى، فيقول: (أشيروا عليّ أيها الناس). فينطق سعد بن معاذ: (والله لكأنك تريدنا يا رسول الله). فقال: (أجل). فقال: (يا رسول الله، لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله)
وهذا زيد بن الدثنة يرسله النبي ﷺ في رهط من الصحابة مع وفد من العرب ليقرئوهم القرآن ويعلموهم شرائع الإسلام، فيغدر هؤلاء الأعراب في الطريق بزيد وأصحابه، يقتلون بعضاً ويأسرون آخرين؛ ثم يبيعون زيداً لقريش لتقتله بدل من قتل رجالها بيد المسلمين؛ ويقول له أبو سفيان حين قدم ليقتل: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك تضرب عنقه وأنك في أهلك؟ فيجيبه زيد: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه نصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي
هؤلاء هم المسلمون، آمنوا فلم يقف في طريقهم شيء في الأرض، وساروا كالسيل العرم لا ترده سدود ولا عقبات، فتنوا في دينهم وعذبوا ونكل بهم وشردوا في الأرض وأخرجوا من ديارهم وأموالهم، فما وهنوا ولا استكانوا ولا ذلوا ولا أخلدوا إلى الأرض، بل صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا
2 - الاتحاد والألفة
وترى القوة المعنوية في اتحاد المسلمين الأولين وتوادهم، كما رأيتها في إيمانهم ويقينهم، فقد اتحدت قلوبهم، وتحابت نفوسهم، وصاروا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، وأصبح المسلمون جميعا جسما واحدا، سرت فيه روح واحدة قوية، فكان يشعر بشعور واحد، ويفكر بفكر واحد، إذا اشتكى عضو منه تألم له سائر الأعضاء
وقد بلغ من ذلك الاتحاد المتين والمحبة الصادقة أن أخي رسول الله ﷺ بين المهاجرين والأنصار حين نزل المدينة ليذهب عن المهاجرين وحشة الغربة، ويؤنسهم من مفارقة الأهل والوطن، ويشد أزر بعضهم ببعض، فكان الأنصاري يقسم ماله بينهم وبين المهاجر، ويؤثره على نفسه ولو كان به خصاصة
وقد ضرب المسلمون في هذا السبيل أبلغ الأمثال للأمم التي تصبو إلى المجد والسؤدد، فكان عطف بعضهم على بعض، ومواساة الغني للفقير، والبرئ للمريض، وتوقير الصغير للكبير، وحنان الكبير على الصغير، كان كل ذلك مضرب الأمثال في مشارق الأرض ومغاربها، ولا يزال ذكراً جميلاً لهؤلاء الأمجاد الأبطال، والأجواد السروات الغطاريف
أين نحن من هؤلاء؟ وأين الأرض من السماء؟ لقد خلف من بعدهم خلف أضاعوا إيمانهم، وبددوا اتحادهم وألفتهم، فتفرقوا شيعا، وتمزقوا بددا، فضعفوا عن كثرة، وذلوا بعد هذه العزة الرفيعة المنيعة
فإذا شاء المسلمون أن يعود لهم مجدهم الباذخ وعزهم التليد، فليبحثوا عن إيمانهم الذي فقدوه، وعن اتحادهم الذي بددوه، وعن ألفتهم التي أضلوها، وليكملوا أنفسهم بهذا تعد الذلة عزة، ويصير الضعف قوة، وترجع إليهم العظمة الدائرة، والسؤدد الدارس
ليؤمن رجال الدين أنفسهم كإيمان السالفين، إيمان قوة وعزم، لا إيمان ضعف وذلة؛ فمجرد التصديق لا ينقل قدما ولا يحرك ساكنا. إنما الإيمان هذه الحركة المتقدة، والنار الملتهبة، والحمية للحق، والمحبة للبشر، والإخلاص لله، والغيرة أن تنتهك حرماته، وتستباح محارمه، وتعصى أوامره؛ إنما هو العمل على أن يأخذوا بأيدي الناس من الظلام الدامس إلى النور المبين. . . ومتى عاد هذا الإيمان إلى أهل الدين أنفسهم أعادوه إلى الناس جميعا
. . . وإذا أردنا الألفة والمحبة - لنستعيد الماضي المجيد، ونؤسس المستقبل الجديد، على عبر اليوم وعظات الأمس - فلننظر بماذا ألف الإسلام بين قلوب أصحابه، وبماذا غرس فيها المحبة والإخاء؛ لقد جمع الإسلام بين قلوب المسلمين بنزع أسباب الفرقة منهم. كان العرب قبائل متعددة كل قبيلة وحدة يرأسها، يتعصب المرء لقبيلته، وتعادي كل قبيلة الأخرى، فكان بأسهم بينهم شديدا، وحطموا أنفسهم بأيديهم، ووأدوا سؤددهم بلجاجهم في الخصومة والفرقة، وأضعف بعضهم بعضا فضعف الجميع. ثم جاء الإسلام فوسع أفقهم الضيق، وبعد أن كان المرء يرى نفسه فرداً من قبيلة، أصبح يرى إنه فرد من أمة، ورأى الجميع أنهم أعضاء أسرة أوسع، هي أسرة الإسلام؛ وخاف الإسلام أن يعودوا إلى ما كانوا عليه أشلاء ممزقة وقبائل متفرقة، فقسا أعظم القسوة على من يعيد روح التعصب إلى القبيلة جذعة، وعد هذا ذنباً خطيراً وإثماً كبيراً
فلنتبع المنهج الذي ألف به الإسلام بين المسلمين، ولنطبق سياسته الحكيمة الرشيدة من جديد، فسترون المعجزة تتجدد، والرجاء يتحقق، والحياة تبسم لنا، والمجد يصافحنا بعد عبوسها وجفائه
لست خيالياً أسعى إلى توحيد المسلمين جميعا قبل اتحاد الأمة الواحدة منهم، فأطلب الكثير وقد عجزت عن القليل، وأطلب للفرع مضيعاً الأصل
كل أمة من الأمم الإسلامية قد قطعّت أحزاباً، وفرقت شيعاً، ففي مصر لا يتحد المصري، كل يرى نفسه فرداً من حزبه، قبل أن يرى إنه فرد من أمته، وفي الأمم الشرقية الشقيقة كما في مصر من الفرقة والانقسام.
علينا أن نداوي هذا الانقسام الداخلي أولاً، فإذا أحرزناه سعينا إلى الاتحاد الخارجي
لقد كان من شرور الحزبية ما سمعتم أولاها وشاهدتم أخراها، حرب وانتقام، وكراهية وانقسام، وإغداق على الشيع والأنصار بالمناسب والألقاب ولو كانوا غير أهل، وحرمان للآخرين ونقمة عليهم ولو كانوا من ذوي الكفايات
من طاوع العصبية الحزبية فانظروا إليه شذراً واعلموا إنه داعي فرقة وانقسام؛ انظروا إلى الحزبية كما تنظرون إلى الداء المهلك المبيد، والشر الماحق المبير، إنها قطعت أوصالا ومزقت شملا، وزرعت أحقادا ورفعت جهلا، وأقصت علماء وقربت جهلة، إنها أبعدت المصلحة العامة وأدنت المصلحة الفردية الحقيرة الزائلة
حرّموا يا قوم النظر الحزبي، كما حرم الإسلام النظر القبلي، وكونوا أفرادا من أمة لا شيعة من أحزاب
الإيمان والاتحاد
خطوا عليهما يا قوم مجدكم، وارفعوا بهما مستقبلكم تتجدد المعجزة مرة أخرى (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون).
محمد عرفة