مجلة الرسالة/العدد 348/من ضوء الإسلام

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 348/من ضوء الإسلام

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 03 - 1940



هل من سبيل لنسعد أفراداً وأمة

للأستاذ محمد يوسف موسى

كل منا يلتمس لنفسه الخير ويبذل في ذلك وسعه، وكلنا يزعم أنه برّ بأمته حفي بها، فهو لا يألو جهدا في القيام بالواجب في عمله، وبما يعود على أمته بالسعادة والرفعة. فلِمَ إذا لا يجد المرء أنى تلفت إلا من يندب شقاوة الجد، وخسارة الأمس، واليأس من الغد؟ وليس حال الجماعات بأهون من حال الأفراد. هؤلاء المزارعون يشكون عدم البركة وفتك حشرات الأرض بخيراتها، والمعنون بالشؤون العامة يحز في نفوسهم تفكك وحدة الأمة وتعثرها في طريقها. لماذا هذه الظاهرة التي تدعو للرثاء، وليس منا إلا من يزعم أنه البار بأمته العامل لخيرها؟ في رأيي أن مرد ذلك كله أمران: أحدهما علة شقاء الأفراد، والآخر علة شقاء الأمة

يصبح الواحد ولا هم له إلا الألم اللاذع لما يرى أنه فاته في أمسه، والتفكير المرمض فيما قد لا يكون في غده، فيصرفه ذلك عن تذوق ما في حاضره من لذة وسعادة. تجد هذا الفلاح دائم الحسرة موصول الألم لأنه لم يبع قطنه بأربعة جنيهات كما باعه جاره، والتلميذ دائم الهم خشية ألا يجد عملا متى فرغ من دراسته، وهكذا إذا تقصيت أحوال الناس جميعا، تجد الأسى على الماضي والخشية من الغد، يفوتان علينا التنعم بالحياة وما تفيضه من هناءة وسرور. ليعمل الواحد منا واجبه، وليطرح الأسى الفارغ على الذاهب، والخشية المبالغة من الآني، وأنا كفيل بأنه سيجد برد السعادة. (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير؛ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم). هل رد الأسى نعيما ذهب؟ وهل يرد الألم مقدما للمستقبل ما قد يجيء به من محنة؟ اللهم لا. إذا فلم يعمل الإنسان بنفسه لشقائه وتكدير أيامه؟

من المأثور عن إبيكتيت الرواقي أنه كان يوصي بأن يتعرف المرء ما يتعلق به من الأعمال فيعمله على أكمل وجوهه، وما هو لله فيتركه له. للإنسان أن يسعى لغرضه في شرف ونبل أو في غش ودس، كل ذلك ممكن، فليمض إذا قدما لغرضيه في شرف ونبل وليس له أن تذهب نفسه حسرات إن حيل بينه وبين إدراك ما يريد إذا بذل ما في طوقه، لأن الوصول فعلاً للغايات رهن بإرادة الله وحده. هذه فلسفة لها جلالها وبساطتها وجمالها، ولكن أجمل منها أن أصحابها أخذوا أنفسهم بها. هذا أحدهم وهو هِلفيدْ يُوسْ بْرسْكِسْ كان عضوا بمجلس الشيوخ بروما فطلب منه الإمبراطور ذات يوم أن يتأخر عن حضور جلسة خاصة، فكان بينهما هذا النقاش:

- لا أريد أن تذهب للمجلس

- لك أن تفصلني من العضوية، أما أنا فسأذهب ما دمت عضوا.

- إذا شهدت الجلسة فلا تبد رأيك

- لك ألا تطلب رأيي، وإذاً فلن أتكلم

- لكنه إذا حضرت الجلسة فسأضطر لسؤالك رأيك

- إذا فسأدلي بما أراه عدلاً

- ذلك معناه أنك تسعى للموت

- ومتى قلت لك إني من الخالدين! كلانا يفعل ما يتعلق به؛ لك أن تأمر بقتلي، ولي أن أصبر أو أجزع، وإذاً فسأتحمل الموت وآلامه صابراً

لله ما أنبل هذا المبدأ وما أروع تطبيقه! وما أسهل ما يكون المرء سعيداً إذا وثق بالله، واحترم ما فيه من رجولة فأرضى ضميره!

أما الأمة في مجموعها، فأرى أن علة تعثرها في خطواتها، وابتلاءها بكثير من المحن في الأنفس والأموال، وتفكك الروابط وانحلال الأواصر، وتفرق الزعماء - أرى أن ذلك كله يرجع إلى انسلاخنا عن الدين شيئا فشيئا، وإلى مبدأ الأثرة الذي أخذ منا بالزمام. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنا جلوساً عند رسول الله فقال: (كيف أنتم إذا وقعت فيكم خمس، وأعوذ بالله أن تكون فيكم أو تدركوهن؛ ما ظهرت الفاحشة في قوم يعمل بها علانية إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، وما منع قوم الزكاة إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما بخس قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان، ولا حكم أمراؤهم بغير ما أنزل الله إلا سلط عليهم عدوهم فاستنفدوا بعض ما في أيديهم، وما عطلوا كتاب الله وسنة نبيه إلا جعل الله بأسهم بينهم، أعتقد أنه بالاحتكام لهذا الحديث المبين نجد الأمر واضحا، وأن السبب فيما نحن فيه من بلاء جلي

لم نعجب من حبس الله عنا عونه، وفينا من الرجال المحسوبين على الدين من لا يبالي أن يسخط الله، كما يبالي أن يغضب عبداً من عبيده؟ وما بالنا نجزع من ازدياد الإجراء وسببه الفقر وتأصل الحقد في القلوب ومأتاه عدم القسم في الحقوق والواجبات؟ ولماذا نجأر بالشكوى من استئصال حشرات الأرض لكثير من الزروع والأثمار، وقد منعنا الزكاة أربابها؟ إن الله غني عن صيام النهار وقيام الليل إذا كان لا يصحبهما إعطاء الحقوق لأصحابها. إن تربة مصر لتدر الذهب، فليت شعري كيف تتحجر منا قلوب، فلا تحس الآلام التي تنضح بها نفس الفقير، ولا يجد مواسياً؟! ولماذا نعمى، فلا نبصر الشقاء مجسماً في أناس لم يبق لهم من الآدمية إلا الاسم بفضل جحودنا وأثرتنا؟! إن لهؤلاء المحرومين، وهم شركاؤنا في الإنسانية، وإخواننا في الوطن، حقاً معلوماً فيما رزقنا الله من ثراء يتسع لقضاء الصيف في أوربا وغير أوربا، وتضييع مئات الآلاف من الجنيهات على اللهو الفارغ والمتاع الدون. . .

هل تريدون دليلا على ما يسود أخلاقنا من أنانية ممقوتة وعدم رعاية للصالح العام؟ دونكم أدلة لا دليلا واحدا: ماذا ترون في انعدام التناسب بين صغار المرتبات وكبارها إلى درجة شنيعة، لا توجد إلا في بلاد الشرق المسكينة؟ وفي التفرقة بين الطبقات في كثير من مرافق الحياة؟ بل ماذا تقولون في المريض المعدم لا يجد له راثياً، ولا لآلامه مواسياً، ويطرد من مستشفى لاخر، حتى يموت وعياله وأهله تنفطر نفوسهم حسرات، بينما يحدثنا القفطي في كتابه (أخبار الحكماء) أن وزير المقتدر بالله العباسي علي بن عيسى وقّع إلى سنان بن ثابت كبير الأطباء (بإنفاذ متطببين، وخزانة من الأدوية والأشربة يطوفون في السواد، ويقيمون في كل صقع منه مدة ما تدعو الحاجة إلى مقامهم، ويعالجون من فيه، ثم ينتقلون إلى غيره). أليس في بعض هذه المثل ما يدل على ما يتملك أمرنا من أثرة هي بعض السبب فيما نحن فيه من بلاء مبين؟

وأخيرا ما هو العلاج؟ هو في رأيي أن ننعم بحاضرنا دون أسى على الماضي، وأن نحارب الأنانية في أنفسنا وفي غيرنا، وأن يعمل كل منا واجبه وإن كان في ذلك أذى له، وأن يطلب حقه من سالبيه ويلح في اقتضائه؛ فإن السكوت عن طلب الحق جريمة تعدل عندي عدم القيام بالواجب. نسأل الله حسن الحال والتوفيق والسداد.

محمد يوسف موسى

المدرس بكلية أصول الدين