مجلة الرسالة/العدد 344/لوبيا المجهولة
مجلة الرسالة/العدد 344/لوبيا المجهولة
للأستاذ علي معمر الطرابلسي
قال الأستاذ الجليل الحصري بك في مقاله (بين الوحدة العربية والوحدة الإسلامية) في الرسالة عدد 328: (إن العالم الإسلامي يشمل: الأقطار العربية وتركيا وإيران والأفغان وتركستان. مع قسم من: الهند وجزر الهند الشرقية وبلاد القفقاس، وأفريقيا الشمالية مع قسم من أفريقيا الوسطى).
وردَّ عليه الأستاذ أبو الوفا بقوله: (فالأستاذ الحصري يوهم أن الأقطار العربية هي فقط مصر والشام والعراق والحجاز واليمن. أما أفريقيا الشمالية التي تبتدئ من تونس وتنتهي بمراكش، فهذه عنده بلاد إسلامية وليست بعربية. فهل هذا هو الحق يا سيدي الأستاذ؟) - الرسالة عدد 334.
فالأستاذ ساطع الحصري بك عدد البلاد الإسلامية ولم يهتد إلى ذكر لوبيا منفردة، لأنها في رأيه ورأي الحقيقة الجغرافية قطر من أقطار أفريقيا الشمالية، لا فرق بينها وبين تونس والجزائر والمغرب الأقصى. ولكن الأستاذ أبو الوفا لم يصل إلى علمه أنها من أفريقيا الشمالية، ولم يفهم من كلمة الأستاذ الحصري دخولها في هذا القسم من البلاد الإسلامية، فذهب يحدد أفريقيا الشمالية بأنها تبتدئ من تونس وتنتهي بمراكش. فأخرج هذا القطر لذي يدعوه التاريخ (لوبيا)، وموقعه بين مصر وتونس من حساب الإسلام والعربية.
ولسنا ندري متى انتحل هذا القطر ديناً غير الإسلام، ومتى اختار له لغة غير العربية! وقد فارقته سنة 1936 وتركته بخير وعافية، وقضيت ثلاث سنين بين تونس والجزائر، فلم أسمع عنه ما يريب.
لو ترك الأستاذ تبيين كلمة الأستاذ الحصري، أو شرحها بغير هذا الشرح المحصور، لما سمع منا شيئاً، ولكنه حرك فينا عاطفة قد آذاها ما كانت تراه من إخواننا في تونس والجزائر والمغرب من إعراض وازورار. وجرحنا مرة أخرى بنكرانه عربية بلادنا وإسلاميتها بما يفهمه شرحه لكلمة الأستاذ الحصري بك قصد ذلك أو لم يقصد. وقد آلمه ألا تعد أمته من الأمم العربية، فما رأيه وقد أخرجنا من العروبة والإسلام؟
ما رأيه في إسلام لوبيا وقد سبقته إلى الفتح الإسلامي سنين وكانت معقلاً وممراً لغز العرب لما أرادوا فتح بلاده وتعريبها؟
ما رأيه إذا أخبرته أن فتح لوبيا كان في زمن عمر، ولم يكن فتح بلاده إلا في خلافة عثمان؟
لو كانت هذه الكلمة أول ما رأينا من إخواننا في الأقطار الثلاثة لما احتجنا إلى كلام. ولكنهم - عفا الله عنهم - لا يحبون أن تكون لوبيا من أفريقيا الشمالية برغم ما بذلته من جهود. وعند الأستاذ عبد الحميد بن باديس الخبر اليقين. ولعله لم ينس بعدُ رحلته إلى تونس سنة 1936 وما لاقته به البعثة الطرابلسية من حفاوة وما وجهته إليه من لوم وعتاب. ولعله لا يزال يذكر ذلك العهد الذي عاهدهم عليه بحضرة رئيس جمعية الشبان المسلمين. ذلك العهد الذي أكد لهم فيه ألا يتحدث عن شمال أفريقيا إلا ويبدأ من لوبيا، بعد أن حاضر وحاضَر فلم تجرِ له على لسان
إن إخواننا بتونس والجائر والمغرب لا يعترفون أو لا يريدون أن يعترفوا أن لوبيا من الشمال الأفريقي، ولذا لا يرعون لها حق الشقيقة وواجبات الأخوة. وليس يضيرها أن تكون من هذا الشمال أو لا تكون، ما دامت لا ترجو لمستقبلها غير أبنائها.
ولكن يؤلمها أن تفصل عن أخوات يربطها بهن لحمة النسب والأخوة، وأواصر اللغة والدين، ويؤذيها أن تتحبب إليهن فيصغرنها ويتجاهلنها
إن لوبيا، وهي في جهادها الشريف العنيف، تكابد آلامها المرة، وتحمل أعباءها الثقال، بدون مناصر ولا معين - لا يحسن بمسلم أن يؤلم عاطفتها المكلومة وقلبها الدامي، بشيء يشعرها بانفرادها عن العالم العربي الإسلامي. ولا يجمل بإخواننا - وهي فيما هي فيه من محنة وعذاب، أن يزودها ألماً على ألم
إن إخواننا بالأقطار الثلاثة لا يذكرون، أو لا يحبون أن يذكروا أن لوبيا أخت لبلادهم. فهل كانوا في ذلك من المصيبين؟
الحق أنهم أخطئوا خطأً فادحاً، ولن يستطيعوا قطع الجوار وحجز الثقافة، وتفريق اللغة والدين، بفضل ما بذله اللوبيون من جهود، وقاسوه في ربط العلائق من جهاد
وإنهم إن استطاعوا أن يتناسوا ذكرها مع أفريقيا الشمالية، فلن يستطيعوا إنكار ما لها في هذه الأقطار من أياد، وما خلفته فيها من آثار إن لوبيا أيها الناس! ليست بالقطر الذي أغفله التاريخ وعدم المجد والشرف، وهي صاحبة قورناء في التاريخ القديم. إنها لازالت تضرب المثل العليا لبني الإنسان في علو الهمة وطهارة الضمير، وأبناؤها المشردون في البلاد العربية، الشرقية والغربية شهداء على ذلك. فهل وعيتم ماذا أقول؟
هل تذكرون أن من بواعث نهضة الشرق ويقظة العرب صليل السيوف ودوي المدافع في لوبيا؟
ولعلها من أول بلاد أحيت الروح العربية، وذكرت الناس مجدهم المهدوم وتاريخهم الوضاء! فهل تحفظون لها هذا الجميل؟
لم تكن لوبيا ميتة الإحساس ولا خامدة المشاعر، ولم تكن خافتة الصوت ولا الحركة، كما قد يخطر ببال كثير
إن في لوبيا حركة أدبية وعلمية لا بأس بها، لعلها تفوق في ذلك بعض أقطار عربية أخرى، ولكن من ذا يرى مقدار تقدم ثقافتها، ويلمس من قريب دلائل الحياة وسمات القوة فيها؟
هل زارها أدباء عرب طوفوا بالغرب، وعلموا خبايا الشرق، لعلهم يرجعون منها بخبر؟
هل أنبئونا عما شاهدوا فيه من مظاهر الحياة أو نذر الموت؟
هل رأوا ما فيه من مساجد وجوامع وكليات؟
وكيف رأوا حالة المكاتب والمطابع ونظم التعليم هناك؟
إن رجال العربية - عفا الله عنهم - نسوا هذا القطر، وانمحت من ذكرتهم كلمة لوبيا. ولو قدر لأحدهم أن يدخل إيطاليا من بحر العرب، أو يزور صقلية، أو ينتقل من الشرق إلى الغرب، أو من الغرب إلى الشرق، لما حدثته نفسه، أن يقف بمرسى طرابلس، أو يتأمل شواطئ بنغازي، ولما طاوعته إرادته أن يدخل خليج السرت، أو يمتع نظره بجمال الجبل الأخضر
إن لوبيا - أيها الناس - لم تنس حظها في خدمة اللغة العربية، برغم ما يعوقها من عقبات، ويعترض سبيلها من صعاب: فأرسلت بعثات علمية إلى الأزهر كما كان لأخواتها في الغرب والشرق من البلاد العربية، وإن كنت أعترف أنها فقيرة إلى كثير من الإصلاحات والنظم، وزينت حِلق (الزيتونة) بعدد لا يستهان به وإن كان لا يزال محتاجاً إلى تنظيم أموره وتوحيد مسكنه ورعاية مصالحه، ورأت الحاجة ماسة إلى تعلم بعض اللغات الحية غير العربية، فكونت بعثة أخرى بإيطاليا منبثة في معاهدها
أيها الأستاذ! سأحدثك عما قريب عن العربية والإسلام في هذا القطر، سأحدثك عما يصطرع فيه من أهواء وآمال، ويتغالب من حقائق وأباطيل
وسأنبئك عن حالة التعليم والثقافة هناك، ومظاهر الحياة والطموح، وسأريك كيف يعمل الرجال في ذلك القطر الذي جهلته وجهله كثير من الناس
سأحدثك كثيراً أيها الأستاذ يوم أرجع من (مجاهل) أفريقيا الشمالية، وأكون بين أهلي وأبناء وطني، أما اليوم فقد لا أستطيع الاتصال بكثير من الحقائق التي تدعم حديثي، وقد تغيب عني كثير من الشئون التي يجب أن أحدثك عنها
ولولا لحظات مسترقات يا سيدي، لما استطعت كتابة هذه الكلمات. وأخيراً أقدم أعطر الثناء إلى كل من ذكر لوبيا بخير وتحدث عنها بالجميل. ولا يسعني إلا أن أزف إلى الأستاذين اللذين حملاني على كتابة هذه الكلمات - الحصري بك وأبي الوفا - أرق التحايا وأزكى التسلميات
(الجزائر)
علي معمر الطرابلسي