مجلة الرسالة/العدد 34/في محكمة التاريخ

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 34/في محكمة التاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 02 - 1934



الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي

هل غدر بأمته وخليفته؟

- 2 -

مناقشة المصادر

المصادر كما رأيت قسمان: قسم يبرئ الرجل مما نسب اليه، وآخر لا أقول يتهمه بالغدر والمخامرة، بل يلصق الخيانة به لصقاً دون تحرز او تشكك، ويمثل القسم الأول ابن الطقطقي وحده، ويمثل القسم الثاني ابو الفدا وابن الوردي والكتبي ابن خلدون ودحلان، فهؤلاء متفقون في الجوهر مختلفون في الاعراض. والآن أحو ل شطر انتباهي نحو ابن الطقطقي لأنه أول من كتب عن الحادث، ولأنه المؤرخ الأوحد الذي يحاول ان يبرئ ساحة الوزير من تلك التهمة الشنعاء، فيقول بصراحة إن ابن العلقمي لم يخامر، ويؤيد مدعاة باستبقاء هلاكو للوزير وتسليمه الأمر اليه بعد فتح بغداد، الا ان ما نعلمه من كلام ابن خلدون يدحض حجة ابن الطقطقي من حيث يؤيدها، فابن خلدون يذكر كما يذكر ابن الطقطقي أن هلاكو استبقى الوزير في دست الوزارة الا انه يزيد على ابن الطقطقي فيقول (والرتبة ساقطة عندهم فلم يكن قصارى أمره الا الكلام في الداخل والخرج متصرفا من تحت آخر أقرب إلى هلاكو منه) ثم لابن الطقطقي حجة أخرى براءة الوزير هي انه يستبعد على هلاكو ان يبقى على الوزير فيما لو كان الوزير غدر باستاذه، وهذا في الحقيقة استنتاج ضعيف جداً، يرده ما يقع تحت ابصارنا اليوم من استعانة المستعمرين بطبقة خاصة من الناس يسمونهم عادة بالمعتدلين، لكنهم في الحقيقة الخونة الخارجون على مبادئ الأمم النزاعة إلى استقلالها واستغلال مواهب ابنائها وماذا يضير هلاكو ان هو استبقى ابن العلقمي؟ وهل بلغ هلاكو من سموا النفس، وحب الصادقين والمخلصين تلك المنزلة التي تخوله ان يقتل من يخرج على هذه المبادئ، حتى ولو كان الخروج في مصلحة هلاكو؟؟ فعدم قتل هلاكو لابن العلقمي لا يؤخذ حجة على سلامة نيته في دولة المستعصم، بل على العكس من ذلك يمكن اعتباره كدليل إعلى إدانة الرجل وممالأته لاعداء الخلافة المتبرين.

ثم هناك أمر يسترعي الانتباه، وهذا الأمر هو تصدي ابن الطقطقي لنفي التهمة، وتصريحه بأن هنالك من يتهم الوزير بذلك. فهذا يؤيد المصادر الأخرى التي تقول بمخامرة الوزير، ذلك لأنها لم تختلق هذه التهمة اختلاقاً، فقد ذكرها من تقدمها لكن وجهته سلبية، وأعني به ابن الطقطقي، ولذا فانا أظن أنت عرض المؤرخ لنفي الاتهام له تفسيران إما أن يكون المؤرخ يعلم حقيقة أن هناك مخامرة، فعمد إلى نفيها اضلالاً لمن بعده، أو أن شائعات قوية راجت عن خيانة الوزير إن صدقا وإن كذبا، فتصدى صاحب الفخري لدحضها وتكذيبها لغاية في نفسه أو لغير غاية. وأنا أرجح أن تعرضه لهذا الموضوع كان سبباً في رواج تلك الشائعات. أما لأي الغايتين فلا أراني قادراً على تحديد ذلك، هذا من جهة، ومن جهة ثانية دعهنا نسلم بأمانة ابن الطقطقي وحرصه على الحقيقة وتباعده عن التشيع!!. . . الخ.

ها هنالك الا أن كل هذا ينقصه أمر مهم في النقد التاريخي، ذلك الأمر هو أن ابن الطقطقي ينقل لنا عن الوزير ما قاله أو حدثه به ابن أخت الوزير، وفي هذا كفاية لتقليل أهمية ما يرويه المؤرخ، ولا سيما في موضوع اتهامي له علاقته الشديدة بالشرف والشهامة، وهذان يهمان ابن الأخت بقدر ما يهمان خاله، فاي اعتبار بعد هذا يبقى لما يرويه ابن الطقطقي؟؟؟

أما ما يقوله ابن الوردي فهو في الحقيقة رد فعل لما يقوله ابن الطقطقي، فهذا يشتد في الدفاع عن الوزير، وذاك يشتد في اثبات الجريمة عليه، وقد ذهب الغلو بابن الوردي مذهباً شططا فخرج عن كياسة المؤرخ وحياده، وأنسته العاطفة الجامحة وظيفته والموقف الذي يجب أن يقفه كل مؤرخ، فنعت الرجل بالغوي ولعنه، وبخل عليه بالترحم الذي يستمطر عادة على العصاة والمجرمين، وقد ذكر أشياء لم يذكرها أحد ممن تقدمه ولا من تأخر عنه، فمع أنه ينقل عن ابي الفدا، فقد ذكر أموراً لم يذكرها أبو الفداء نفسه، وأهم هذه الأمور نص هذه الرسالة التي يزعم أن ابن العلقمي أرسلها إلى التتر وهي رسالة طويلة. وقد جئت على ذكرها فانا أشك في نص الرسالة وويلح على الشك حتى يميل بي إلى الجحود والانكار، وذلك لسببين: الأول انفراده بذكرها، والثاني أسلوب الرسالة والكفلة البادية في لهجتها ثم الجمع بين شعر من هنا وهناك لا رابطة بينه، ولا سيما الابيات التي تجعل الاتراك (ويريد بهم المغول وهذا يدل على تدقيق المؤرخ!) طلاب ثأر آل محمد، ثم أمره هلاكو أن يتأول أول النجم وإيصاءه هلاكو بالحرص الذي ليس له معنى فلا أدري ما عسى الوزير يريد بحضه هلاكو على تأول النجم والحرص، والذي يزيد في غرابة هذه الرسالة هو استنهاض ابن العلقمي لهلاكو بذكر ما أصاب العترة العلوية والعصابة الهاشمية، وماذا يفهم هلاكو من هذا؟ فهو لم يكن شيعياً ليتأثر بهذه اللهجة الشيعية، ولا نعلم حقاً هل أسلم هلاكو أم بقى على وثنيته، فقصة موته ودفنه تؤيد أنه لم يسلم، أو إذا كان أسلم فأن الاسلام لم ينفذ إلى قراره نفسه، ولم يتأثر به التأثير الذي يعطف على الشيعة ويثير فيه عاطفة دينية تحفزه لمهاجمة بغداد، ثم ان دحلان يصف التتر وصفا لا يطابق روح الرسالة التي يذكرها ابن الوردي، فيقول دحلان (وكان ذهاب الخلافة بدخول التتر بغداد وهم قوم كفار خرجوا من الصين وتغلبوا على ممالك الاسلام وكانوا يقتلون الرجال والنساء والصبيان، ويأكلون كل شيء حتى الكلاب والحشرات، ولا يعرفون نكاحاً ولا يحرمون شيئاً، وكان ابتداء خروجهم في أول القرن السابع، وظهر امرهم في سنة سبع عشرة وستمائة على الامصار والمدائن والقرى، إلى ان استولوا على بغداد وازالوا خلافة بني العباس، فهل ترى بعد هذا ان في كتاب ابن العلقمي المزعوم ما يلائم طبائع قوم كهؤلاء، وهل فيه ما يستثير حماسهم؟ اني لا أرى شيئاً من ذلك، فلو جاء في الكتاب ما يتفق مع عقيلة اولئك البرابرة كذ كرغنى المملكة، وسهولة اقتحامها والى ما هنالك من مغريات، لكان في ذلك ما يدفعنا إلى الترجيح بأن هذا النص الذي يورده ابن الوردي قد يكون النص الحقيقي لكتاب الوزير إلى هلاكو ان صح ان الوزير ارسل كتاباً، اما وفحواه ما عرفنا فانا استبعد جداً ان يكون هذا النص صحيحاً، ثم هنالك اختلاف بين المصادر بشأن شخصية الرسول وكيفية الارسال، فابن الوردي يقول بأن الوزير ارسل أخاه، وصاحب القوات يذكران الوزير (تحيل إلى ان اخذ رجلا وحلق رأسه حلقاً بليغاً وكتب ما اراد عليه و. . .)، أما ابن خلدون فيذكر وصية أوصاها الوزير لصديقه ابن الصلايا صاحب اربل، ليستحث التتر على المسير إلى بغداد، وهذامعقول جداً، وليس فيه ما يدعو إلى التشدد في عدم احتماله أو تصديقه، ولا سيما ونحن نعلم ان ابن العلقمي لم يكن راضياً عن الدولة التي استبد بأمورها الدوادار ذلك السني المتشدد في سنيته، والحق انني مستريح لما يذكره ابن خلدون لأنه منطقي يستسيغ الاعقل قبوله، ولأن الرجل لم يظهر أقل تحيز أو ميل وكذا أبو الفدا فقد ألفيته فيما كتبه شريفاً مترفعاً عن الهوى وليس هذا بالكثير على ذلك الملك المؤرخ. اما دحلان فيريد ان يقول لنا ان لمجيء التتر اسباباً كثيرة، من اعظمها رسالة الوزير لهلاكو ولكن ما يؤسف له انه لا يذكر سبباً واحداً من هذه الأسباب الكثيرة. أما أنا فلا أعتقد أن وصية الوزير ان ثبتت هي التي جاءت بالتتر وحدها، وإنما قد تكون عاملاً قوياً في تسهيل الاغارة على بغداد، وآسف أني لا أعرف الكافي عن تاريخ التتر ليتسنى لي تعداد بعض الاسباب التي حفزتهم لشن غارتهم الشعواء، واخيراً وبناء على ضعف حجة وكيل الدفاع ابن الطقطقي وتكانف بقية المصادر - على ادانة الوزير - أراني مضطراً اضطراراُ علمياً سليماً من الغاية، وبعيداً عن الهوى، ومبنياً على ما أوصلني اليه استقصائي أن أرجح غدر الوزير بدولته وخليفته متبعاً في ذلك ابن خلدون بأن ذلك وقع على يد ابن الصلايا الذي يظهر انه اتصل بالتتر فحسن لهم مهاجمة بغداد بشتى الطرق، وذلك بعد أن ضاق الوزير ذرعاً بالدوادار وولي العهد واشياعهما السنيين وبعد أن قاست الشيعة نكبات وويلات وفضائح في العرض وخسائر في المال أخرجت الوزير عن تعقله، وجعلته يتناسى كل شيء في سبيل الانتقام أولا وانقاذ الشيعيين ثانياً، فلم يجد امامه أوفق من الاستعانة بالمغول الذين لم تكن بغداد غريبة عن الاستعانة بهم، فقد سبق للخليفة العباسي أن استعان بجنكيز خان على شاه خوارزم، وقد أصاب بغداد من جراء استغاثة الوزير بهلاكو ما أصاب المشرق وبخارى يوم استعان الخليفة بجنكيز على الشاه.

فرحان شبيلات

الجامعة الامريكية (ببيروت)