مجلة الرسالة/العدد 34/ابن قلاقس،

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

ابن قلاقس532 - 567هـ (1138 - 1122م)- 6 -لابن قلاقس ديوان شعر يحدثل جامعه أول ما يحدثك أن هذا الشعر ليس كل شعر ابن قلاقس، لأنه حذف منه ما لا يليق بهذا الشاعر من غث القول وسخيفُه، وهي فكرة خاطئة تضر بتاريخ، ولا تفيده؛ إذ من الخير لنا أن نرى جميع مظاهر التفكير للشاعر، سواء أكانت جيدة أم غير جيدة، غير أننا اليوم وقد ذهب ذلك الشعر الضعيف، ليس لنا إلاأن نتحدث عن هذا الشعر الذي بين أيدينا، وأهم ما يميزه خصائص ثلاث: أولها الغرابة في كثير من الأحيان، تلك الغرابة التي تستدعي منك مزيد العناية والاهتمام، فأنت إذ تقرأ شعره لا تقرأه مارا عليه أو مسرعاً في تلاوته، ولكنك تقرأ محترساً منتبهاً، موجهاً كل همك إلى تفهم ما يريده، وفهم ما يقصده؛ ولست أدعى أن ذلك محمدة في الشعر، أو فضيلة بها يمتاز، ولكنني أزعم أن الذي أوقع شاعرنا فيها هو غرامه الذي لا حد لله بالمحسنات اللفظية والجمالي البديعي، مما يدعوك إلى أن تقرأ القصيدة مرة ومرة حتى تفهمها، وتدرك سر معناها، على أنه لم يكن في كل شعره كذلك، بل هو في كثير من الأحيان يترقرق عذوبة، ويسيل لينا ولطفاً، واستمع اليه يقول:كان الشباب الغض ليـ_ لا فاستنار الشيب فجراولئن تقلب بي الزمان كما اشتهى: بطنا وظهرا فيما قتلت صروفه = وقتلته جلداً وخبراً غاض الوفاء، وفاض ما _ ء الغدر أنهاراً وغدراً فانظر بعينك هل ترى = عرفا، ولست تراه نكراً خلق جرى من آدم = في نسله، وهلم جرا ومروعي بالبحر يحـ _ سب أنني أرتاع بحرا أو مادري أنيي بتسـ _ هيل المصاعب منه أدري؟! ثاني الخصائص التضمين والاقتباس، وهما إن دلا فانما يدلان على ثقافة واسعة، واطلاع على الشعر عظيم، وشاعرنا قد أخذ كثيراً من معاني السابقين وصاغها في شعره، فاذا أنت سمعت قوله: والماء يكسب ما جرى = طيباً ويخبث ما استقرا وعاد إلى ذهك قول البديع: وهو الماء إذا طال مكثه، ظهر خبثه، وإذا سمعت قوله: وبنقلة الدرر النفيـ _ سة بدلت بالبحر نحرا خطر ببالك قول صرد: قلقل ركابك في الفلا _ ودع الغواني للخدور فمحالفو أوطانهم أمثال سكان القبور لولا التنقل ما ارتقت = درر البحور إلى النحور بل هو يتعدى ذلك أحياناً إلى المعارضة، وقد استطعنا أن نعرف أنه قد أخذ من ابن الرومي وابن المعتز والمتنبي وغيرهم، وكان أكثر من عارضهم البحتري فهو قد عارضه في قصيدته السينية بتلك القصيدة التي يهنئ فيها بمولود ويقول: كوكب لاح بين بدر وشمس = فسرى بالسرور في كل نفس وتشبهه به جعله يقع أحياناً في سوء التخلص الذي كان البحتري يقع فيه كثيراً كما شابهه أيضاً في الفخر بشعره والمغالاة في التحدث عن قوته وجماله، ولسنا ننسى بعد أقوال البحتري مفاخراً بشعره بعد إلقاء قصيدته، وها هو ذا ابن قلاقس يقول عن شعره: أين أمثال ما أقول؟. وقولي = بات يقتاد شارد الأمثال وهو قد عارض كذلك بعض قصائد جاهلية وأموية واقتبس منها، مثل قصيدة: قربا مربط النعامة مني، وقصيدة: حننت إلى ريا، وغيرهما. ثالثة الخصائص ولوع بالمحسنات اللفظية والجمال البديعي، وبخاصة الجناس والتورية، شأنه في ذلك شأن الشعراء المصريين واستمع إليه يقول: أمنا في فنائكم الليالي = فلا طرق الفناء لكم فناء ويقول: وكيف لا يحب القلب الذي فعلت = يد الصبابة فيه فوق ما يجب وكثيراً ما تسمعه يقول: حجاباً وحجاباً، أو إجلاء وإجلابا، أو إرغادا وإرغابا، كما كان له كذلك ولع خاص بالاستعارة المكنية التي يثبت فيها للشبه خاصة ولازماً للشبه به فكثيراً ما تسمع منه ثغر المزن، ووجنات الورد، وجبين الخطب، ومعاطف الطرب، وغير ذلك. شعر شاعرنا جار على القوانين النحوية والصرفية لا يشذ عنها، ولا يخرج عليها، اللهم إذا استثنينا قطعة لهمزة الوصل أحياناً وأخذه بمذهب: وحملت زفرات الضحى، ذلك المذهب الذي يسكن عين جميع المؤنث السالم حينما تكون الفاء مفتوحة وهو لا يلجأ إلى ذلك إلا مضطراً مكرهاً، كما أنه لم يلجأ - وعلى الأقل في هذا الشعر الذي بين أيدينا - إلى أساليب العامة إلا في النادر الأٌل كقوله: يبكى به الاقلام نفلا محرفا = تموت معانيه عليه من الضحك ويحسن بنا أن نقول: إن ابن قلاقس كان ينظر إلى الشعر نظرته إلى شيء يثير العاطفة، فالشعر ليس كاملاً مزخرفاً فحسب، ولكنه قول يثير في النفس عاطفة تدعو إما إلى الزهد في الدنيا أو الاقبال على لذتها وحسنها وجمالها. أهم ما طرقه ابن قلاقس من الاغراض المدح، والغزل والوصف، والعتاب والرثاء والهجاء، وهي كلها من أنواع الشعر الغنائي الذي لا قصص فيه ولا تمثيل، ومدح شاعرنا أكثر هذه الأنواع وأوفرها قد أخذ بحظ من الجمال وحظ من الرقة، تقل فيه المغالاة والاغراق، وشاعرنا ينظر إلى شعر المدح نظرته إلى العقد الذي يربط محاسن الممدوح؛ وينظمها في قرن واحد، ولولا الشعر لظلت هذه المحاسن متفرقة غير مجتمعة، فهو يقول: وما الشعر الا سلك منتثر العلا = ينظم فيه درها المتبدد ويقول: إذا ما المجد لم يضبط بشعر = فقد أضحى بمدرجة الضياع غير أننا نتساءل: أكان شاعرنا يتكسب بشعره؟ وإذا كان فماذا كان نصيبه من ممدوحيه؟ أما أنه كان يتكسب بشعره فاننا نراه يقول تأبى له الهمة أن = أجعل شعري مكسبي غير أننا بالرغم من ذلك البيت نكاد نوقن بأن شعره كان وسيلة من وسائل كسبه، يدلنا عليها أولا تلك الرحلات التي رحلها في الشرق والغرب، ولا بضاعة معه الا شعره، وثانيا تلك القصائد التي فيها يقاضي ممدوحيه بالعطايا والهبات ويبدي لهم فيها فقره وحاجته، بل إن بعض قصائده تدل على أن بعض ممدوحيه قد جعل له راتباً يتقاضاه. (لها بقية) أحمد أحمد بدوي