مجلة الرسالة/العدد 335/من هنا ومن هناك

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 335/من هنا ومن هناك

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 12 - 1939



السياسة والأخلاق

(عن (نشرة اكسفورد في الأحوال الحاضرة))

منذ عرف الإنسان السياسة لم يجد سبيلاً للتوفيق بينها وبين المثل الأخلاقية العالية. فهو أما أن يهجرها ويصد عن سبيلها كما يفعل رجال الدين في كل العصور، أو يشتغل بها ويواجه كل مواقف بما هو أهل له، فيرد ما لقيصر لقيصر كما يقول المثل المعروف. والسياسة لا تعرف غير الحقائق الواقعة، فليس من السهل أن نسألها العطف أو الرحمة أو الأناة أما إلى ذلك من الخلال التي نعرفها في حياتنا العامة.

ولعل من أهم الأسباب التي تجعل للسياسة هذا اللون، أنها تدين في الحياة للقوة، والقوة سلاح خطر، وإن كانت في ذاتها شيئاً لا هو من الخير ولا هو من الشر، شيئاً لا لون له ولا صفات فمرجعها في الحقيقة إلى الغاية التي تستخدم في سبيلها والوسائل التي تلتمس لها.

وقد واجه الحكماء والمحكمون هذه الصعوبات منذ عرفت السياسة. إلا أن ظروف العالم الحاضرة اليوم قد أمدتهم بشيء من الصرامة والتأييد. ويرجع ذلك إلى سببين: السبب الأول هو أتساع نطاق الحياة السياسية باشتباك الصوالح الدولية، فكثير من أحوال السياسة اليوم لا يرجع أمره إلى المصالح والأغراض الوطنية كما كان بالأمس، فللشئون الدولية أهميتها الكبرى في هذه الأحوال، ومن هنا يصير الاعتماد على القواعد الأخلاقية أشد صعوبة مما كان عليه في العهود السالفة.

أما السبب الثاني فهو أشد عمقاً من السبب الأول: وذلك أن الشعوب في هذه الأيام لم تعد تهتم بالدعوة الأخلاقية في العالم السياسي، لأنها غير واثقة من كيانها الأخلاقي نفسه.

لقد كانت الدول الأوربية منذ خمسين عاماً، بل - منذ عشرين عاماً كذلك - يربطها وثاق متين من الأخلاق المسيحية

- ولا أقول إن الحياة في تلك العهود قد وصلت إلى مستوى الأخلاق المسيحية السامية - ولكن هذا الباب كان مفتوحاً على كل حال. ولكنا اليوم نرى فجوة واسعة في العلاقات الدولية فلم يعد يصل ما بينها ذلك التعاون القديم الذي تقلصت ضلاله ولم يحل محل شيء على الإطلاق، وقد أصبحنا نرى على الصهوة رجالاً متعلقين بعنان القوة، وهم لا يخشون شيئاً غير الهزيمة، ولا يخجلون من شيء غير الانحدار. فهل من الغريب مع هذا أن تنحط القوى الأدبية والمعنوية في العلاقات بين الدول الأوربية إلى الحضيض الذي لم تنحدر إليه في عهد من العهود؟

نحن اليوم أمام موقف يدعونا إلى بعض التأمل. ومما يدعو إلى الأسف الشديد أن نرى الحالة السياسية والفكرية والأخلاقية يعروها هذا الجمود.

وإذا كنا هنا بصدد الكلام عن الأخلاق، فمن الواجب أن نقول: إن حكام ألمانيا الحاليين قد أساءوا استعمال القوة التي في أيديهم، فزادوا إلى ويلات الإنسانية بلاء لم يعهد له مثيل؛ ومن الحق أن نحملهم وزر ما جنوا على العالم الإنساني، ونجعل الدفاع عن الأخلاق من الواجبات العامة التي ينشدها الجميع لخير الإنسانية العام.

إن الدول الدكتاتورية ما زالت تعتقد أن القوة هي سيطرة الإنسان على الإنسان، لا سيطرة الإنسان على الطبيعة، وترى في الجار عدواً يجب أن تتحين الفرص لهلاكه. فالجار والجار عدوان على الدوام.

وتستبيح لنفسها الاعتداء على كل أمة وهبتها الطبيعة شيئاً من خيراتها، وهذه حالة ينهار معها كيان الشرف والأخلاق.

نحن نحارب لأجل المدنية

(نقلا عن مجلة بكشرز يوست)

نحن اليوم في حرب، فماذا نحارب من أجله؟ أنحارب لأجل بولندة؟ أجل، نحن نحارب من أجل بولندة، لا لأن في بولونيا شعباً ضعيفاً معزولاً هوجمت بلاده دون إعلان سابق للحرب، ولكن لما هو أكثر من هذا، وهو أنا منحنا هذا الشعب كلمتنا.

- وهي الكلمة البريطانية. . . ولكننا كذلك نحارب من أجل حياتنا. فنحن نعلم أن انتصار النازية ليس في الحقيقة انتصاراً على بولندا واستراليا وتشيكوسلوفاكيا فحسب، تلك البلاد التي وجدت وذاق أهلها أشد أنواع العسف في العصر الحديث. نحن نحارب لهذه الأسباب - ولا شك - ولكن هناك اعتبار أعظم وأسمى من تلك الاعتبارات، وهو أنا نحارب لأجل المدنية، فما هي المدنية؟ ليست المدنية لبس القبعة الحريرية، أو المعرفة بفن وجنر، أو الاضطلاع بعلم الكيمياء. ولكن المدنية هي معرفة فلسفة الحياة الحقة، هي أن تدرك تماماً أن القوة ليست الطريق إلى المجد، وأن المادية العمياء ليست كل شيء في الحياة، وترى راحتك في عمل الخير للصالح العام. إن الألمانيين ولا شك أكثر انهماكاً في دراسة الكتب من البريطانيين، ولكنهم لم يدركوا هذه الحقيقة، فهم أذن بعيدون كل البعد عن المدنية.

يقول بعض المتشائمين: إن كل شيء في الحياة قد تناولته يد الفساد فما أجدرنا بأن نهدم بيدنا كل شيء ونبني حياتنا من جديد! وما أجدرنا بأن نقتدي ببساطة ذلك الهمجي النبيل ولكن الهمجي النبيل ليس إلا أسطورة في خيال ذلك القائل المسكين، إن أهالي الشعوب الهمجية على ما عرف عنهم من الخرافات الكثيرة ليسوا بسطاء، فهم يطوون قلوبهم على الشحناء ويجدون فخارهم في الحروب.

إن الحياة ولا شك لم تصل إلى الغاية التي يستريح فيها كل إنسان، وعلى الأخص الفقراء، ولكن حالة الفقير اليوم خير منها بالأمس والعالم بمختلف طبقاته اليوم أكثر اتجاهاً إلى البر والإحسان والاعتراف بحقوق الفقراء مما كان عليه منذ مائة عام. لقد أخذت الشعوب تجني ثمار الراحة والرفاهية نتيجة جهادها الجهل والقسوة مئات السنين. ونحن مطالبون اليوم بأن نحارب تلك الدعاوى الباطلة التي غرس بذورها هتلر ولينين، ضناً بتلك الثمار النقية من الفساد

وإن بريطانيا وفرنسا لتزهيان بقيامهما بواجبهما في سبيل الدفاع عن المدنية، ضد هذه الحالة التي ترجع بالعالم إلى عصور الهمجية الأولى، ولا تختلف عنها إلا في استعمال الطائرات قاذفة القنابل والمدرعات الحربية بدلاً من القوس والنبال.

إن الكفاح العظيم الذي نراه اليوم قد أوجد بيننا نوعاً جديداً من الوئام والارتباط، ونحن نرى روح التعاون اليوم يشع نورها في كافة الأنحاء، ومن واجبنا إذا انتهت الحرب أنعمل على دوام هذه الروح، ومن واجب وزارة الخدمة العامة ألا تغلق أبوابها إذا دقت الأجراس مؤذنة بانتهاء الحرب ليدوم هذا التعاون الجميل لمكافحة الجهل والفقر والمرض.