مجلة الرسالة/العدد 322/لحظات الإلهام في تاريخ العلوم
مجلة الرسالة/العدد 322/لحظات الإلهام في تاريخ العلوم
تأليف مريون فلورنس لانسنغ
مقدمة
العلم هو الذي وصل بالعالم إلى ما هو عليه اليوم، فهو الذي ابتكر كل أداة في الحياة العصرية؛ ولكن العلم الذي نركن إليه في كل وسائل راحتنا ومتعنا ليس بالقوة الجامدة النائية التي تعمل عملها بيننا وهي عن نفوسنا بمعزل. إنما العلم معرفة إنسانية أفادها في بطئ، واحتمل في سبيلها الآلام رجال مثلنا وقد استخدموها لصالح النوع الإنساني
وهذا الكتاب يقدمنا إلى زعماء النهضات العلمية الذين خلفوا الدنيا الحاضرة. وفي الأقاصيص التي تضمنها هذا الكتاب نراهم في أسمى اللحظات التي أدوا فيها مهماتهم، وقد تضمنت كل العصور لحظات هي التي نسج منها التاريخ. وإنه ليبدو لنا أحد هذه المخترعات كأنه بداية لعهد جديد في حياة الإنسان مع أنه كان في العصر الذي وجد فيه يكاد لا يكون موضعاً للملاحظة إلا من القليلين البعيدي النظر الذين أنجزوه
ومن أمثلة الكشوف التي غيرت اتجاه العالم اختراع آلة الطباعة والآلات المتحركة بذاتها وآلات التخاطب على مسافات متباعدة سواء منها السلكي واللاسلكي. ووراء كل كشف من هذه الكشوف رجل أو طائفة من الرجال ميزتهم الجرأة أو المخاطرة والمهارة وحب الإفادة. وفي الصفحات التالية سير رجال ألفنا سماع أسماء بعضهم؛ والبعض لما نألفه، ولكننا مدينون لهم جميعاً بدين ضخم. وسنرى سيرهم في لحظات انتصارهم المثيرة. نحن جميعاً نعبأ بأنفسنا وبعالمنا. وكل مجموعة من السير تتعقب آثار الفكر الإنساني في أحد اتجاهاته فإنما يراد بها إشباع حياتنا العصرية بمجهود ذلك الفكر، وفي كل تريب موفق لكل مجموعة من هذه السير ما يمكننا من الإفادة منها. فاستكشاف النار مثلاً يبدو لنا أقل استغراقاً في الغابر عندما نتبين أننا لا نزال نعيش في عصر النار وإن كان بيننا من يتنبأ بأن أبناءنا وأحفادنا سيعيشون في (عصر الكهرباء) الذي بزغ فجره الآن
لقد اخترع أهل العصور الأولى العجلة، واخترع الرجل العصري الآلة التي تدير عجلات العالم، واستكشف كيف يستعمل الوقود وقوة الماء والكهرباء في تسيير هذه الآلة
لقد كان الرجل يريد دائماً أن يطير ولكن الآلة التي يديرها النفط هي التي جعلت هذ الرغبة في حيز الإمكان
ولقد كان الزمان والمكان مشكلتين أمام أهل العصور الأولى، فكان الإنسان مضطراً إلى لزوم دنيا مزدحمة ضيقة هي دنيا وجوده الحاضر، فتمكن من السيطرة على اعتبار المكان بواسطة الكتابة والطباعة والتصوير الشمسي والآلة الناطقة، وتمكن من السيطرة على اعتبار الزمان بواسطة الساعة والمنظار المقرب وآلة البرقية والمسرة واللاسلكية والآلة البخارية والسيارة، وتمكن بواسطة الطيارة من انتصارات جديدة على اعتباري الزمان والمكان
يجد الصغار من البنين والبنات أنفسهم في هذه الدنيا العجيبة ويتوقون إلى استئناف النصر فيها ويطيبهم منها كل ما كان في الإمكان، فمما يساعدهم على تفهم الدنيا أن يعرفوا كيف شيد بناء المدنية الحديثة
وإن دراسة زعماء النهضات وتقدير ما نحن مدينون به لهؤلاء الزعماء بمثابة تقديم الشكر على الصنوف التي نتناولها من صنع أيديهم
وفي تلك الدراسة وفي ذلك التقدير ما يجعل الشبان أكثر زهواً بتراثهم الإنساني عندما يتبينون أن معارك العالم قد خاضها في كل العصور رجال ونساء مثلنا
وعندما يسطع على لوحة إدراكهم وميض اللحظات العظيمة في حياة العلم سيرون لمحات لا من الماضي والحاضر فحسب، بل من اللحظات العظمى في حياة الإنسان، لحظات الإلهام التي استمتع بها المخترعون والمستكشفون فكانت إيذاناً من الله بظهور هذه الاختراعات وتلك الاستكشافات
عصر النار
صنع النار. الصخر المذاب. الحديد
النار أنفس ما كان في حيازة الإنسان فتخيل كيف تكون الدنيا إذا انطفأ كل ما فيها من النيران، ولم يبق فيها من يستطيع إيقادها!
إن منازلنا تصبح باردة لا تطاق فيها الحياة، ويصبح طعامنا غير قابل للنضج، وتقف قطاراتنا وبواخرنا، وتمتنع عن العمل مصانعنا، ولا يمكن صنع الكثير مما نأكله أو نشربه أو نلبسه أو نتولى إدارته بأيدينا
إننا نعيش في عصر جدير بأن يسمى حقاً (عصر النار).
ولقد بدأ عصر النار منذ آلاف كثيرة ة من السنين. وليس على وجه الأرض قبيلة ليس لديها أسطورة عن نشوء النار للمرة الأولى وصيرورتها في حوزة الإنسان. ذلك بأنه ليس في وسع مخلوق غير الإنسان أن يصنع النار، وأن مقدرته على صنعها جعلته في مستوى أرفع كثيراً من مستوى الحيوان، وكل أسطورة من هذه الأساطير تنص على أن النار كانت عند الآلهة، ويختلف بعضها عن بعض في بيان الطريق الذي حصل به الإنسان على النار، فيروي اليونان أن بروميذيوس صعد إلى السماء وأوقد شعلته من عربة الشمس، وسرق النار فنزل بها إلى الأرض. وقد كان الآلهة لا يريدون أن يحصل الإنسان على النار، لأنهم يعلمون أنه بعد حصوله عليها سيصبح كأنه واحد منهم، فهو بواسطتها يستطيع تعرف أسرار الأرض والانتفاع بكنوزها، وكانوا لا يرون أن يحبوه هذه المعجزة
ولا يعرف أحد حق المعرفة كيف عرف الإنسان سر صنع النار. وربما كان السر رؤيته البرق يصيب الغابات الجافة فيحرقها. وربما كان فيمن رأوا ذلك المشهد رجل أجرأ ممن عداه فاحتفظ بجزء من النار السماوية عندما وجدها تحرق الغابة بتعهده إياها وبتغذيتها بالوقود. فإن كان أحد قد فعل ذلك فمما لا ريب فيه أن قبيلته تعده مخوفاً محترماً لأنه عرف أسرار الآلهة. وقد كان في كل قبيلة أناس من مهمتهم أن يتولوا حراسة النار، فكانوا يتناوبون حراستها أناء الليل وأطراف النهار ويغذونها ويتعهدونها كيلا تخمد فيخسر الناس هذه الهبة الغالية من هبات الآلهة ويموت الإنسان برداً. والأرجح أن مئات من السنين منذ اليوم الذي عرف فيه الإنسان كيف يحتفظ بالنار قد مضت والإنسان منتفع بالنار دون أن يعرف كيف يحدثها. وكان كل ما في وسعه أن يبحث عنها حيث توقدها آلهة البرق أو إله الغابة، فيحمل منها قبساً إلى كهفه وينعم به. ثم جاء يوم صنع فيه الإنسان النار لنفسه، إما بسنه قطعة الخشب محددة على لوحة صلبة من البلاط، وإما بدق حجرين من الصوان. وعلى أي الفرضين فإن اللحظة التي استطاع فيها الإنسان صنع النار كانت أعظم لحظة في حياة الإنسان في عهده الأول، فإن وجود هذه القوة في يده مكنه من المفتاح الذي يستطيع به استخراج ما في الأرض التي يسكنها من كنوز.
ولما كنا لا نعرف حقيقة الأسطورة التي تنبئ عن استكشاف الإنسان النار لأول مرة، لأن هذا الاستكشاف أسبق كثيراً من العهد التاريخي وعهد الأساطير فإننا سنروي القصة التي يعتقدها أهل جزائر بولونيزيا عن رجل مخاطر جريء تمكن من معرفة أسرار العصي النارية وكيفية استعمالها في مأوى إله النار.
(يتبع)
ع. ا