مجلة الرسالة/العدد 322/رسالة العلم
مجلة الرسالة/العدد 322/رسالة العلم
ألغاز الكون وأسراره وتطور مخ الإنسان
للأستاذ نصيف المنقبادي
شرفني عالمنا المصري المحقق الدكتور محمد محمود غالي بالرد على ما قام في ذهني من الحيرة بين ما يقرره العلم من أن الكون سائر لا محالة نحو السكون التام أو (الموت الحراري) بسبب تحول الطاقة كلها في العالم بأسره من صورها العليا كالكهرباء والطاقة الميكانيكية الخ، إلى صورتها السفلى وهي الحرارة المنخفضة الدرجة فلا تستطيع أن تتحول من جديد إلى صور أخرى منها، وبين ما يدل عليه العقل من استبعاد بل استحالة أن يكون للكون نهاية، لأنه لو كان هذا سيحدث لكان قد حدث من قديم الزمان. ومن البديهي أن ما لا بداية له لا يمكن أن تكون له نهاية
وإني اشكر للدكتور الفاضل النصائح الثمينة التي أسداها إلي من وجوب عدم الجزم بشيء خارج ما يثبته العلم التجريبي. وقد دل حضرته بهذا على أنه عالم بطبيعته يتحلى بالروح العلمية الحق. وأقول هذا على رغم تواضعه الذي جعله يرى عدم استحقاقه بعد لهذا الوصف. وهذه فضيلة أخرى للدكتور تدل على أنه على جانب كبير من أخلاق العلماء الحقيقيين وسعة عقولهم. وإني أقول جازماً ومؤكداً - برغم نصيحة الدكتور لي - بأنه سيكون مفخرة مصر في البيئات العلمية العالمية في القريب العاجل
والذي فهمته من مجموع رد الدكتور أن الموضوع الذي أثرته لغز من ألغاز الكون وسر من أسراره لا يستطيع العلم أن يحله الآن
وهذا قول حق وهو ما أعتقده من جهتي. أما العامل الغريب عن العلم الذي افترضه الدكتور افتراضاً ورمز إليه بلاعب العصا فإنه خارج عن نطاق البحث العلمي؛ وإني لا أرى له أي أثر في الطبيعة، ولا أجد في الكون ما يؤيده أو يدل على شيء منه ولو عن بعد. وهذه نواميس الطبيعة العمياء تسير على الدوام في طريقها لا تحيد عنه قيد شعرة، بدليل أن الإنسان يقيسها بالأرقام ويعرف نتائجها مقدماً قبل أن تقع، إذا عرفت أسبابها ومقدماتها، ويدخلها في معادلاته وحساباته. فيحسب مثلاً مقدماً تواريخ كسوف الشمس وخسوف القمر والسيارات الأخرى وغيرها، بالثانية وكسور الثانية في كل نقطة من بق الأرض. أو ليست أساس جميع العلوم - العلوم الحقيقية اليقينية - القاعدة المنطقية البديهية القائلة بأن نفس الأسباب تنتج حتماً نفس النتائج: , , وبالجملة فإن أحوال الظواهر الطبيعية لا تدل على تدخل عوامل أخرى في سيرها، وإلا لظهر تغير من وقت إلى آخر في نظام النواميس التي يديرها، فتسير الأرض اليوم مثلاً بسرعة كذا في اتجاه معين، وتسير غداً بسرعة أخرى في اتجاه آخر، ويتصرف الراديوم تارة على وجه معين طبقاً لنواميس محدودة، وطوراً نراه يتبع طريقاً آخر ويجري على قواعد أخرى
وأظن أن الدكتور يذكر أكثر مني ما حدث لأحد العلماء الرياضيين الفلكيين - ولعله اسحق نيوتن - من أنه افترض نفس العامل الذي نحن بصدده لتصحيح ظاهرة فلكية تحدث في فترات بعيدة، تخالف ما تدل عليه الحسابات وتعجز عن تفسيرها النواميس المعروفة في ذلك الحين أو التي اكتشفها هو. ولم تلبث الأبحاث والاكتشافات التي جاءت بعد ذلك أن نفت ذلك الفرض وفسرت تلك الظاهرة التفسير العلمي الصحيح. فهذه سابقة لمحاولة فاشلة من هذا القبيل يجب أن تجعلنا على حذر من تعليل الظواهر الطبيعية بمثل ذلك العامل. وإن العلم حافل بمثل هذه السابقة، بل إن تاريخ العلم إنما هو تاريخ انتصاراته على تلك النزعة القديمة
وبالجملة فإن العلم يجب أن يكون محصوراً في تفسير ظواهر الطبيعة بالنواميس الطبيعية التي تقع تحت المشاهدة والاختبار، والتي يمكن قياسها أو قياس بعض نواحيها.
أما لماذا تجري النواميس الطبيعية هكذا، ولماذا هي تدير ظواهر الطبيعة على هذا النحو، وما الغرض من ذلك كله، فهذا لغز آخر من ألغاز الكون؛ بل إنه اللغز الأول وهو ما سماه هربرت سبنسر ' أي ما لا يمكن معرفته. ويتصل بهذا الموضوع ويتفرع منه المسألة التي نحن بصددها الخاصة بنهاية الكون طبقاً لآراء بولتزمان وقواعد علوم الميكانيكا والطبيعة أو علم الطاقة الجديد العام الشامل ' الذي يتوقع العلماء أن يندمج فيه عاجلاً أو آجلاً جميع العلوم الأخرى الطبيعية والبيولوجية
لي رأي خاص في هذا الموضوع عنَّ لي أثناء دراستي للعلوم البيولوجية، وهو أن عجزنا الحالي عن إدراك أمثال هذه (الألغاز) التي تشمل أيضاً الأمور الأخرى المستعصية الآن على العلم مثل الوراثة وأسبابها وكيفية حدوثها في الحيوانات والنباتات، ومثل الشعور في الأحياء وفي الحيوانات على الأخص (بما فيها الإنسان) وكيف أن مواد كيميائية، أي جمادات محضة، مشتقة من الأرض والهواء بفعل العوامل الطبيعية، وعلى الأخص طاقة الشمس تشعر بوجودها وتحس بما يحدث لها - أقول إن عجزنا الحالي عن إدراك حقيقة هذه الأمور التي نسميها ألغازاً وأسراراً لا يدل على أنه من المحال معرفتها، وإنما يرجع ذلك إلى نقص في تكوين مخنا وعدم نموه بعد إلى الدرجة التي تجعله يستوعبها ويلم بخفاياها ويفسرها التفسير العلمي الصحيح
لا يخفى أن الحيوانات العليا الممتازة بشيء من الذكاء مثل الكلاب والفيلة والقرود الشبيهة بالإنسان المسماة (الشامبانزيه، والغوريلا، والأرونجوتانج، والجيوبون) تعجز عن إدراك معظم الأمور التي نعرفها نحن ونعدها من البديهيات. هي ألغاز وأسرار بالنسبة لها، ولو كان في وسعها أن تتكلم أو تكتب لوصفتها بأنها الأمور المجهولة التي لا يمكن معرفتها ' على حد تعبير هربرت سبنسر
ولا شك في أن هذا كان حالنا فيما مضى من الزمن قبل أن يتم تطورنا الإنساني بفعل العوامل الطبيعية. فلما تم هذا النمو ونما على الأخص مخنا بسبب الظرف الطبيعي الذي طرأ علينا في ذلك الماضي البعيد وهو اضطرارنا إلى الوقوف على الدوام على قدمينا الخلفيتين لتسلق الأشجار لنقتات ثمارها بسبب ما حدث في ذلك العهد من نقص الغذاء على الأرض من جهة، ونمو الحيوانات المفترسة من جهة أخرى. واستعمال أيدينا في القبض على فروع الأشجار وقطف ثمارها، ثم في تناول الأشياء والأجسام المادية الأخرى وفحصها والتأمل فيها، وذك مدة مئات الألوف من السنين - أقول إنه حين تم هذا النمو في مخنا أدركنا شيئاً فشيئاً كثيراً من الأمور التي ظلت غامضة على أجدادنا، وأخذت معلوماتنا تتسع بالتدريج إلى أن قام العلم وازدهى وساد العالم في عصرنا الحالي
وبطبيعة الحال لا يمكن القول بأن التطور الإنساني قد تم ووقف عند هذا الحد وهو لم يمض عليه اكثر من ثلاثمائة ألف سنة (متوسط تقدير العلماء) منذ أن تميز عن النوع الذي تفرع منه. ومعلوم أن حياة الأنواع الحيوانية والنباتية تعد بملايين السنين والمرجح أن يستمر التطور في المستقبل، غير أنه لا يمكننا أن نعرف من الآن الاتجاه الذي سيسلكه لأن هذا متوقف على العوامل الطبيعية والاجتماعية المختلفة التي تطرأ وتستجد من وقت إلى آخر لأسباب محلية لا يمكن التنبؤ بها، ومن باب أولى لا يمكن حصرها مقدماً وتحليلها ومعرفة نتائجها
ولكن الظواهر كلها تدل على أن المخ سيواصل نموه على ممر الزمن في نفس الاتجاه الذي بدأ فيه بدليل اضطراد رقي الأمم المتحضرة عقلياً وتفوقها على الأمم المتوحشة تفوقاً تدريجياً مستمراً
فإذا استمر التطور في هذا الاتجاه فإن الفكر الإنساني يصل حينئذ إلى درجة من القوة تجعله يحل بسهولة المسائل المعلقة في العلم وفي الفلسفة ويسمونها الآن ألغازاً أو أسراراً ويكشف عن أسبابها ونواميسها الطبيعية، ويتحول الإنسان إذ ذاك إلى نوع جديد من الـ الذي يتكلم عنه نيتشه
وعلى الجملة فنحن الآن فيما يتعلق بتلك المسائل الغامضة المستعصية على عقولنا على ما كان عليه أجدادنا البعيدون بالنسبة للأمور التي لا تدركها عقولهم البسيطة ونعدها نحن من البديهيات نظراً إلى النمو الكبير الذي طرأ على مخنا أثناء تطورنا
وهناك بعض شواهد تؤيد هذا الرأي. فكلنا سمع بذلك الشخص المدهش الذي يقوم بأعمال كالمعجزات في الحساب دون أن يستعين بأية ورقة لأنه أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة. وقد اختبرته أنا وعدد من المعارف فكنا نكلفه بعمليات طويلة عويصة بأن نطلب منه مثلاً أن يجمع خمسة أو ستة أو عشرة أعداد كبيرة مكون كل منها من أرقام عديدة، أو أن يضرب عددين ضخمين الواحد منهما في الآخر، أو أن يقسم أحدهما على الثاني، أو أن يستخرج الجذر المربع أو المكعب لعدد من سبعة أو ثمانية أرقام الخ، وكنا بطبيعة الحال نحتاط بإجراء هذه العمليات على الورق مقدماً قبل أن نضعها له لتطابق إجاباته على نتائجها. وليتصور القارئ ما كنا نعانيه من التعب وبذل الوقت الطويل في ذلك. وكم كانت دهشتنا عظيمة كل مرة حين كان يفوه بالرد فإذا به مطابق تمام المطابقة لما وصلنا إليه بعد تسويد الأوراق الكثيرة. وإذا وقع خلاف فكان يتضح لنا من مراجعة حساباتنا أنه لم يخطئ هو في شيء بل إن الخطأ جاء منا
ويمتاز هذا الشخص بذاكرة للأرقام مدهشة خارقة للعادة، فإننا كنا نتلو عليه من أوراقنا الأعداد الضخمة الكثيرة المكون كل منها من ثمانية أو عشرة أرقام طالبين منه جمعها أو ضربها أو قسمتها فكان يعيد علينا سردها دون أن يخطئ في رقم واحد منها. وأغرب من هذا مقدرته الغريبة على أن يجري معنوياً في الحال العمليات الحسابية الكبيرة المعقدة التي تطلب منه دون أن يستعين بالكتابة وهو يجهلها كما تقدم لنا القول. فلا شك في أن جزءاً من مخ هذا الشخص نما نمواً استثنائياً أكثر من المعتاد جعله يذكر الأعداد الضخمة التي تتلى عليه ويحسبها بتلك السهولة المدهشة، الأمر الذي يعجز عنه باقي الناس. وقد شاهد كاتب هذه السطور شخصاً آخر من هذا القبيل من سنين في باريس بولوني الجنسية
ومثل أولئك الحسابين الشواذ الأشخاص الذي نبغوا في الموسيقى من حداثة سنهم نبوغاً فوق الطبيعي، فترى الواحد منهم وهو في سن الطفولة يلتقط أية نغمة يسمعها لأول مرة ويعزفها على الآلات الموسيقية التي يجيدها لدرجة الإعجاب الكبير ويؤلف الأدوار التي يعجز عنها كبار رجال الموسيقى العاديين، ويقود الجوقات الموسيقية وقد لا يزيد عمره على العاشرة أو الثانية عشرة. والأمثلة عديدة من هذا القبيل وهي معروفة للجميع. فلا شك في أن مخ هؤلاء النوابغ الخارقين للعادة نما في ناحية منه نمواً أكثر من الحالة الطبيعية جعلهم يمتازون بتلك المقدرة التي يعجز عنها باقي الناس
وكذلك الحال بالنسبة لعظماء الرجال الذين نبغوا في العلم أو الأدب أو الفنون الجميلة أو الفنون العسكرية. فهذا بسكال العالم الرياضي الكبير استنبط من تلقاء نفسه وهو في سن الثانية عشرة النظريات الهندسية القديمة الأساسية قبل أن يدرسها. وهذا نيوتن مكتشف ناموس الجاذبية. وهذا جوت أو جيته العبقري الألماني الكبير مؤلف رواية فوست الخالدة فإنه لم ينبغ فقط في الشعر والأدب بل وأيضاً في العلوم البيولوجية وله اكتشافات جليلة في علوم الحيوان والنبات وتكوين الجنين تؤيد ناموس التطور والتسلسل الذي قال به وبحث فيه قبل داروين بخمسين سنة، لمناسبة ظهور نظرية لامرك سنة 1809. وهذا نابليون عبر بجيشه جبال الألب وفتح إيطاليا وهو لا يتجاوز الثانية والعشرين؛ ثم غزا مصر، ثم انتصر على أكبر قواد أوربا ودخل جميع عواصمها ظافراً وهو في مقتبل سن الشباب. وهذا فكتور هيجو العظيم. وهذا أينشتين، وغيرهم. ولا شك في أن مخ هؤلاء العظماء نما نمواً فوق المستوى الطبيعي لباقي البشر. والنمو المقصود هنا ليس في حجم المخ ولكن في تكوين خلاياه وصفاتها الطبيعية والكيميائية وتشعب فروعها واتصالها (أي اتصال الخلايا) بعضها ببعض بواسطة هذه الفروع الخ. وبالجملة فإن النبوغ والعبقرية وقوة التفكير ترجع إلى نمو المخ
فلا يبعد أن يصل مخ الإنسان أثناء تطوره في المستقبل البعيد إلى درجة من النمو تجعله يحل بسهولة المسائل المستعصية عليه الآن ويردها إلى أسبابها الطبيعية فلا تعد ألغازاً وأسراراً
كما أنه يجوز مع شديد الأسف أن يتجه تطورنا اتجاهاً آخر بفعل عوامل جديدة وظروف تطرأ علينا نجهلها الآن فنتحول تحولاً يختلف كل الاختلاف عما نتوقعه فنصبح نوعاً مغايراً للنوع الإنساني الحالي ولنوع الـ الذي نصبو إليه بل قد نتحول إلى أنواع مختلفة قد يرتقي بعضها إلى تلك المرتبة العليا ويتأخر بعضها بالمعنى الذي نفهمه من الارتقاء والانحطاط، ذاك لأن الطبيعة لا تعرف هذه الفوارق التي لا توجد إلا في تفكيرنا ومن الخطأ تسمية ناموس التطور بناموس أو مذهب (النشوء والارتقاء) على الطريقة القديمة
نصيف المنقبادي المحامي
دبلوم في الفسيولوجيا العليا الحيوانية والنباتية من كلية العلوم
بجامعة باريس (السوربون)