مجلة الرسالة/العدد 321/جناية احمد أمين على الأدب العربي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 321/جناية احمد أمين على الأدب العربي

مجلة الرسالة - العدد 321 المؤلف زكي مبارك
جناية احمد أمين على الأدب العربي
ملاحظات: بتاريخ: 28 - 08 - 1939


للدكتور زكي مبارك

- 12 -

لا يعرف أحد كيف استباح الأستاذ احمد أمين ما استباح فصنع بنفسه ما صنع!

وهل كان في مقدور ناقد مهما اعتسف إن يسيء إلى الأستاذ احمد أمين بمثل ما أساء إلى نفسه بلا ترفق ولا استبقاء؟

كنت أدعو الأستاذ احمد أمين إلى رعاية ماضيه فأصبحت ادعوه إلى رعاية مستقبله، فإني أخشى أن تضيع الثقة بكفايته العلمية فيصبح معدوم النصير والمعين، وهو لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بمعونة الأصحاب والأصدقاء، والمرء بنفسه قليل

أقول هذا وقد كشف الأستاذ احمد أمين عن دفائنه المطوية فصرح بأنه يحتقر العقلية العربية في عهد الجاهلية ليتخذ من هذا الاحتقار وسيلة لتأييد دعواه في جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي

والجاهليون قوم كانت لهم حسنات وهنوات، وكلمة الحق فيهم لا تؤذي أحداً من الناس، وقد قال فيهم القرآن ما قال فلم يتأذ أحد من إخلافهم، لأنه لم يقل فيهم غير الحق

أما التحامل على عرب الجاهلية، وتجسيم مساويهم وتضخيم عيوبهم، والتشهير بوثنيتهم، والقول بأنها كانت وثنية أرضية وضيعة - كما يعبر أحمد أمين - فذلك إثم منكر يراد به تحقير الأرومة العربية وتسوئ سمعتها في التاريخ، وذلك لا يقع إلا من رجل يمشي في الوعر من عقوق الأباء والأجداد

نحن لا ننكر أن العرب القدماء كان فيهم وثنيون، فقد كان الحال كذلك عند قدماء المصريين والفرس والروم والهنود، وإنما ننكر أن تكون وثنية العرب وصلت إلى الانحطاط الذي تصوره احمد أمين حين ارتضى السخف الذي تنطق به العبارة الآتية منسوبة إلى أحد الأعراب:

(كنا نعبد الحجر في الجاهلية، فإذا وجدنا حجراً أحسن منه نلقي ذلك ونأخذه، فإذا لم نجد حجراً جمعنا حفنة من تراب، ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه، ثم طفنا به)

كذلك روى أحمد أمين، وهو في غاية من الطمأنينة عن بعض الكتب القديمة ليؤكد لقرائه أن العرب أهل لأن يقول فيهم من الإفك ما يقول

وتصديق هذه الأخبار شاهد جديد على العقلية العامية التي يعيش بها بعض الناس، فليس من الصحيح أن العرب كانوا يعبدون الشاة البيضاء فإذا أكلها الذئب أخذوا شاة أخرى فعبدوها، كما حدث الفقيه الذي نقل عنه أحمد أمين

أيها القراء أسمعوا، وعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا

أيها القراء أسمعوا تاريخ الوثنية الجاهلية، اسمعوها مني لا من أحمد أمين

كان في العرب وثنيون، بشهادة القرآن، ولكن أحمد أمين نسى حقيقة تاريخه ما كان ينبغي أن تغيب عن رجل يتصدر لتأريخ الحياة العربية. نسى هذا الرجل أن عصر النبوة شهد معركة عنيفة بين الوثنية والتوحيد، وفي تلك المعركة جاز لرجال الدين أن يلطخوا تاريخ الوثنية بالسواد ليندحر الوثنيون ولتنشرح صدور المؤمنين. فكل ما تقرءونه في الكتب التاريخية والدينية من وصف عرب الجاهلية بالغفلة والحمق، والطيش والخبال، وسوء الفهم، وبشاعة التصور، وخمود العقل، وبلادة الإحساس، كل أولئك الصفات الدميمة وضعت لغرض خاص هو تحقير الوثنية الجاهلية لتقوم على أنقاضها العقيدة الصحيحة عقيدة التوحيد

وكان من حق رجال الدين أن يصنعوا في تشويه الوثنية الجاهلية ما يشاءون، لأنهم كانوا يرونها زيغاً في زيغ وضلالاً في ضلال

أما أحمد أمين فلا يملك هذا الحق، لأن الإسلام قد استغنى نهائيا عن حرب الوثنية الجاهلية بالنصر المؤزر الذي ظفرت به عقيدة التوحيد

والموقف اليوم قد تغير بلا جدال، فهو ليس موقف الموازنة بين الجاهلية والإسلام حتى يستبيح ما يستبيح من تحقير الجاهليين، وإنما هو موقف المفاضلة بين الوثنية العربية والوثنية اليونانية، وهو موقف لا نخترعه أختراعاً، فقد صرح به الرجل الذي هداه فكره إلى القول بأن وثنية العرب كانت أرضية وضيعة وأن وثنية اليونان كانت سماوية رفيعة!

إن أحمد أمين يقول بأن الوثنية العربية وثنيه أرضية وضيعة، على حد تعبيره المهذب الجميل!

فهل يستطيع أن يقول من أين عرف أن وثنية العرب كانت أرضية وضيعة؟ أنه يجهل - وأنا أيضاً أجهل وسائر الناس يجهلون - كيف كانت الوثنية العربية، لأن تلك الوثنية طمست آثارها منذ أزمان طوال ولم تذكر في أي كتاب إلا بالتحقير والتصغير والتقبيح

وأنا أتحدى الأستاذ أحمد أمين أن يذكر كتاباً واحداً عني مؤلفه بشرح الوثنية الجاهلية شرحاً بين ما لها وما عليها بلا تزيد ولا بهتان

إن العرب ألفوا كتباً كثيرة عن الأصنام، ولكن الغرض من تلك الكتب كان غرضاً دينيا، وهو غرض شريف أرادوا به أن يجعلوا رجعة العرب إلى وثنيتهم من المستحيلات. ولو كانوا يعرفون أن تلك الكتب ستكون حجة يعتمد عليها من يشاء له هواه تحقير الأرومة العربية وتمجيد الأرومة اليونانية لحفظوا لأسلافهم بعض ما كان لهم من حسنات في الجاهلية

والحق أن الخلفاء الراشدين كانوا في غاية من الحزم الصارم العنيف الشريف في حرب الوثنية الجاهلية، لأنهم كانوا يريدون أن يكونوا أمثله عالية في رعاية الميراث الذي خلفه الرسول الكريم، وهو ميراث التوحيد، فلم يسمحوا لأحد برواية الأشعار التي تمثل الوثنية الجاهلية، وخاف المسلمون على دينهم فهجروا ما خلفت الوثنية من أسماء وأحاديث، وبالغوا في التصون من تلك الآثار لئلا يقال إن فيهم نزعة وثنية

كان للعرب صنم أسمه يغوث، فهل يعرف أحمد أمين مبلغ الأساطير التي صيغت حول يغوث؟ وهل يعرف ما صيغ حول اللات والعزى من أقاصيص؟ وهل يستطيع أن يقول بأن الوثنية العربية بقيت سليمة من التحريف والتبديل؟

لو بقيت الأساطير الجاهلية لاستطعنا أن نعرف شيئاً عن الوثنية العربية، ولكن تلك الأساطير ضاعت إلى الأبد، لأن روايتها كانت محرمة على المسلمين، والحكم على الغائب لا يخلو من تعسف واستبداد

لو أن الأستاذ أحمد أمين حين تحدث عن وثنية العرب بالتقبيح كان يريد إظهار فضل الإسلام على العرب لتلقينا كلامه بالقبول. فالإسلام نقل العرب من الظلمات إلى النور، ولكن أحمد أمين يحقر الوثنية العربية لغرض آخر هو قوله الصريح بسماوية الوثنية اليونانية وأرضية الوثنية العربية كنت أحب أن أنقض كلام أحمد أمين بشواهد من التاريخ؛ ولكن أين أجد تلك الشواهد وقد تقرب العرب إلى الله بوأد الوثنية الجاهلية؟

وهل أملك اختراع الحجج والبراهين، وقد تلقيت عن أساتذتي في الجامعة المصرية وجامعة باريس دروساً كثيرة في تكوين عناصر الحجج والبراهين؟

الحق أني لا أملك إسكات أحمد أمين لأنه يعتمد في تحقير الوثنية العربية على ما رواه القصاص وأنا لا أقيم لتلك الروايات أي ميزان

فالعجز من جانبي تقضي به العقلية العلمية - ولا فخر - والقدرة من جانبه تقضي بها العقلية العامة من غير شك

إن العرب خلعوا وثنيتهم عامدين متعمدين طاعة لله الذي نهاهم عن التعلق بالوثنية، ولم يحفظوا من صور تلك الوثنية غير الصور التي قبحها القرآن ليروضهم على التوحيد، فمن حدثكم أن العرب في جاهليتهم كانوا يعيشون بعقلية أرضية وضيعة فاعلموا أنه يحكم على الغائب بلا بينة ولا برهان

وهنا مسألة دقيقة لا يمكن أن تخطر في بال الأستاذ أحمد أمين، لأنه على فضله بعيد كل البعد عن التعمق والاستقصاء

قلت لكم إن الرب بين الوثنية والتوحيد قضت باندحار الوثنية وتلطيخ سمعتها بالسواد، وأقول الآن إن هناك حرباً ثانية عانتها الوثنية العربية أيام فتنة الشعوبية، فقد أراد الشعوبيون أن يجعلوا العرب في جاهليتهم مثلاً في السخف والحمق والخبال، ولذلك تفاصيل يعرفها من يقرأ كتب الأدب والتاريخ بعقلية المؤرخ. . .

وكذلك نعرف أن الوثنية العربية عوديت مرتين: مرة بسبب العصبية الدينية، ومره بسبب العصبية الجنسية. وقد خفيت أسباب العداوة الثانية على كثير من الناس

وخلاصة القول أن الوثنية العربية حوربت بلا هوادة ولا رفق، ولم يبق من أصولها السليمة ما يعين الباحث على تصحيح العقلية العربية في العصر الذي نسخه الدين الحنيف، فمن حق أحمد أمين أن يتزيد على العرب كيف شاء، ومن حقنا أن نقول: إن إصراره على تحقير العرب في جاهليتهم (وهو لا يعرف شيئاً صحيحاً عن وثنيتهم) هو إصرار الرجل المحروم من نور المعرفة بأصول المباحث العلمية في العصر الحديث بقيت فتنة أحمد أمين بالوثنية اليونانية التي ابتدعت أفروديت وأدونيس وإيروس، فهل يعرف كيف عاشت الوثنية اليونانية؟

لو أن اليونان كانوا أسلموا كما أسلم العرب لوجد في اليونان من يبدل آثار الوثنية اليونانية بحيث تصبح وتسمى وهي مثل في الرقاعة والسخف

ولكن اليونان عاشوا في جاهليتهم بعد ظهور الإسلام بأجيال طوال، وظلوا يتوارثون أوهام أسلافهم من عصر إلى عصر إلى أن جاء المتطرفون من شعراء الفرنسيس والإنجليز فعكفوا على تلك الوثنية يعبدونها من جديد لأنها قامت على أساس براق هو التقديس لجموع الأهواء وطغيان الأحاسيس

وهنا تحل المشكلة التي حار في فهمها أحمد أمين، فهذا الرجل يعجب من سكوت العرب عن ترجمة ما كان عند اليونان من أشعار وأقاصيص

وأنا أتصدق عليه بحل هذا الإشكال فأقول: إن المسلمين الذين نهاهم دينهم عن أحياء الوثنية العربية قد انتهوا بفضل الدين عن أحياء الوثنية اليونانية

وهل يعرف صاحبنا متى استفحلت حماسة الأوربيين لوثنية اليونان؟

انهم انتصروا لتلك الوثنية يوم استحكمت العداوة بين اليونان والأتراك؟ وهل كان يمكن لشاعر مثل بيرون أن يشايع اليونان لوجه الحق؟

إن الغافلين يجهلون السر في تغني شعراء فرنسا وإنجلترا وإيطاليا بقلعة الأكروبول، فهذا التغني كانت له غاية أصيلة هي تمجيد الأمة التي جعلت عبادة الشهوات من الشرائع. ولو كانوا يريدون وجه الحق لوقفوا على (الكعبة) العربية التي يتوجه إليها الملايين من أهل المشرق والمغرب في أوقات الصلوات، والتي كانت مثابة للألوف من أقطاب التشريع

ولكن الكعبة ليست من هواهم: لأنها لم تمجد الشهوات ولأنها خلت من عبادة أفروديت وأدونيس وإيروس!

إن الشهوة من أهم العناصر في الحياة الإنسانية، وهي تستهوي الناس في كل عصر وفي كل أرض، ولكن العرب امتازوا بين الأمم بالتخوف من عواقب الشهوات، فكانوا لذلك موضع الغضب فلتسخريه من الشعراء الظرفاء الذين بكوا دماً على مصير اليونان أيام حرب الاستقلال وهل يمكن القول بأن اليونان خدموا الشهامة والفتوه والرجولة كما خدمها العرب؟

هيهات! هيهات!

إنما هي وشائج من الشهوة والعصبية السياسية قضت بأن يقول الأوربيون إن وثنية اليونان كانت وثنية سماوية لتقوم لهم دولة تضايق بعض العرب والمسلمين في الشرق

وأحب أن أبين أوجه الحق في هذه القضية فأقول:

إن هيام الشعراء الأوربيين بالوثنية اليونانية له صلة وثيقة بما كان يكرثهم من مصاعب وأهوال. ذلك بأن الوثنية اليونانية تقوم على عبادة المرح والبهجة والإيناس، فأهواء الآلهة عندهم أهواء حادة من الوجهة الحسيه بحيث يمثلون ما في الطبيعة الحية ندمن غضب وبطش وجبروت؛ وأذواق الآلهة عندهم أذواق مترفة ناعمة تمثل ما في الطبيعة الحية من مرح وجذل وفتون

والشاعر الذي يعيش في رحاب الوثنية اليونانية يعيش عيش السعادة والنعيم، فهو محروس بقوات خفية في جميع الشؤون: فله عند الغضب إله ينصره هو إله الحرب، وله في أوقات السرور إله يرعاه هو إله الخمر، وله عند الصبوة إله يفتح له قلوب الملاح هو إله الحب

وهذا هو السر في أن شعراء أوربا وجدوا في الوثنية اليونانية ما لم يجدوه في الشريعة الإسلامية، مع أن الشريعة الإسلامية محملة بالطرائف من أصول الآداب والفنون

وتوضيح ذلك سهل: فلذي ينظر في الوثنية اليونانية يواجه اصطخاب الأهواء والأذواق والأحاسيس، أما الذي ينظر في الشريعة الإسلامية فيواجه بحراً هائجاً من الواجبات والتكاليف، ويشعر بأنه مسئول عن كل شي حتى خطرات القلوب

وهذه الخصيصة من خصائص الشريعة الإسلامية كان لها دخل في عدم ظفر الإسلام بغزو المشاعر في الممالك الأوربية، فالإسلام دين صارم عنيف لا ينظر للأهواء والشهوات إلا بعين الغضب والمقت، وهو ينذر المسرفين على أنفسهم بالويل والهلاك

وقد أتستطاع الإسلام أن يؤثر في المسيحية فخلق منها مذهب البروتستانت، ولكن ذلك المذهب حول المسيحية إلى ميادين عقلية لا يتذوقها الجمهور الأوربي إلا بمشقة وعنت، وما عاش ذلك المذهب إلا لأن الذين اعتنقوه كانوا أصحاء وسيعودون إلى الكثلكة يوم يغلب عليهم الضعف واليونان تنصروا بعد الوثنية، ولكن نصرانية اليونان نصرانية شعرية هي مذهب الأورثودكس، وهو مذهب جذاب براق ترف أجنحته بأرواح الشعر والخيال. وهو نفسه مذهب النصارى في مصر، لأن الوثنية المصرية لا تقل ألواناً وتهاويل عن الوثنية اليونانية

والإسلام الصحيح لم يعرفه العرب إلا في عهد الصحة والعافية، فلما ضعفوا خلعوا على إسلامهم أردية جديدة من أردية الوثنية. ولو قام باحث بتدوين الأساطير التي صيغت حول الأولياء والصالحين لأمد الأدب بثروة تفوق الثروة التي عرفها اليونان أيام الوثنية

قد يقول قائل: وما محصول هذا الاستطراد؟

وأجيب بأنه يفسر تلك الظاهرة الغريبة التي لم يقع مثلها في التاريخ: فظهور الإسلام في بلاد العرب لعهد ظهوره كانوا في عافية روحية وعقلية، ولذلك استطاع الإسلام أن ينسخ وثنية العرب إلى غير رجعة، ليحولهم إلى رجال يفكرون في عجائب الأرض قبل أن يفكروا في غرائب السماء، والأرض هي المزدرع الأصيل لطلاب السيطرة والجبروت من أصحاب العزائم الشداد

وأحمد أمين لا يفكر في هذه الحقائق لأنه رجل محترم، والرجال المحترمون يكتفون بما رضيه الناس من المنقولات والمرويات

ولكن أين نحن من جوهر هذا البحث؟

أنا أخشى أن يكون فيما عرضته من الحجج والبيانات شيء من الغموض، لأنني احترست في عرض بعض المشكلات احتراس من يمشي على الشوك لأسلم من تقول المرجفين

فما هو جوهر البحث بطريقة واضحة صريحة تؤكد صدق ما ذهبنا إليه؟

خلاصة القول أن أحمد أمين حكم بأن وثنية العرب كانت (أرضية وضيعة) وأن وثنية اليونان كانت (سماوية رفيعة)

وقد أثبتنا بالبرهان القاطع أن وثنية العرب محاها الإسلام، ولم تبق لها رسوم ولا أطلال، فالحكم لها أو عليها حكم على مجهول ونحن نتساجل بطريقه علمية لا تغني فيها الأحكام على المجهولات أي غناء

وقد تحدث الإسلام عن وثنية العرب في مواطن كثيرة من القرآن، ولكنه لم يشر إلى ما كان في تلك الوثنية من نفحات الشعر والخيال، لأن الإسلام لا يرى الخير والحق والجمال في عقيدة غير عقيدة التوحيد

وما كان ينتظر أن يصنع الإسلام غير الذي صنع، فحكمه قام على أساس الصدق في تطهير العقلية العربية من أوضاع الأساطير والأباطيل

أما أحمد أمين فموقفه مختلف كل الاختلاف، فهو يعير العرب بوثنيتهم، وهي عنده أرضية وضيعة، مع أنه لم يعرف من تلك الوثنية غير وجهها الدميم، وذلك الوجه الدميم موضع شك وارتياب، لأنه لون بأصباغ جديده خلقتها العصبية الدينية والعصبية الجنسية

وأحمد أمين ينظر إلى الوثنية اليونانية بعين الإعجاب ويراها سماوية رفيعة

ومن المؤكد أنه لا ينضر إليها تلك النظرة إلا وقد جرد نفسه من النزعة الدينية، لأن الإسلام لا يرضى عن الوثنية في أي شكل من الأشكال

فلم يبق إلا أن يكون نظر إليها من الوجهة الأدبية، وعندئذ نقول إنه على حق في الإعجاب بتلك الوثنية، لأنها وثنية حية ولأنها لونت الأخيلة والأذواق في كثير من الممالك والشعوب

ولكن تلك الوثنية ظفرت بحظ لم تظفر بمثله الوثنية العربية فقد ظفرت بالإعزاز والتبجيل على حين لم تظفر وثنية العرب بغير التحقير والتقبيح

فالجميل من الوثنية العربية تناساه المؤمنون، والقبيح من الوثنية اليونانية تناساه المشركون. وكانت النتيجة أن لم يبق من وثنية العرب غير القبح، ولم يبق من وثنية اليونان غير الجمال

قولوا الحق أيها القراء!

ألا ترون أن الأستاذ أحمد أمين يجني على المنطق وعلى التاريخ حين يستبيح ما يستبيح في تحقير الجاهلية العربية وتمجيد الجاهلية اليونانية؟

أنا أحتكم إليكم أيها القراء لتفصلوا بيني وبين هذا الزميل

إن الوثنية العربية قد انقرضت تمام الانقراض، ولن تعود مصدر خوف على العقيدة الإسلامية، فلا حرج على الرجل المسلم من القول بأن العرب في جاهليتهم كانت لهم أوهام وأضاليل قد لا تقل جمالاً عما كان عند الفرس والروم والهنود من أوهام وأضاليل

إن الأساطير تخلق لغاية معروفة هي ملء فراغ الأفئدة والعقول، وكان العرب في جاهليتهم كاليونان في جاهليتهم يحتاجون إلى تزجية أوقات الفراغ بطرائف الأسمار والأحاديث، فلم يكن بد من أن يبتدعوا ألوانا من الأقاصيص تصور أهواء الأصنام والأوثان، كما أبتدع اليونان، ألوانا من الأقاصيص تصور ما كان عند آلهتهم من نزوات وشهوات وأهواء

ولكن أين الأساطير العربية؟ أين؟ أين؟

لقد محاها الإسلام ليخلو الو للعقيدة السليمة عقيدة التوحيد. وأنا مع ذلك قادر على وضع خطوط للوثنية العربية إن سمح الزمن بأن أعيش في بلاد العرب عامين أثنين أدرس فيهما ما بقي في أذهان العرب من أساطير الأولين، ويومئذ نعرف بعض الفروق بين أحلام العرب وأوهام اليونان. فإن لم تتح هذه الفرصة فقد وجهت الأذهان إلى درس هذا الموضوع الطريف، وهو موضوع حاولت درسه منذ سنين لأقدم عنه رسالة إلى جامعة باريس تحت عنوان:

'

وقد صدني عنه رجال ثلاثة: أولهم الدكتور طه حسين وكانت حجته أن هذا البحث قد ينتهي إلى (الكفر الموبق) وثانيهم لطفي باشا السيد وكانت حجته أنه لا يحسن تعريض الجمهور لفتن جديدة، وثالثهم المسيو فيت وكانت حجته أنه لا يمكن لباحث أن يسبر أغوار هذا البحث إلا بعد أن يقيم في بلاد العرب بضع سنين

ولو أن المقادير كانت سمحت بالمضي في هذا البحث (وكنت شرعت فيه سنة 1927) لكان من المستحيل أن أعجز عن تقديم صورة من الوثنية العربية أقاوم بها السحر الذي تتمتع به وثنية اليونان. فهل أنتظر أن يكون بين طلبة كلية الآداب من يوجه همته إلى هذا البحث الطريف؟

هل أنتظر أن يكون فيهم من يؤرخ المدة التي غفل عنها مؤلف كتاب (فجر الإسلام)؟

إن من القراء من يذكر أني نبهت الأستاذ أحمد أمين إلى هذه النقطة بمقال نشرته في جريدة البلاغ، ومنهم من يذكر أن بعض تلاميذ الأستاذ أحمد أمين دافع عنه يوم ذاك

والمشكلة مع ذلك باقية، وقد فصلتها في كتاب النثر الفني بعبارات تعجب منها الأستاذ احمد أمين، ودهش من سكوت الجمهور عما فيها من صراحة جريئة، أشار إلى انه تلطف بالسكوت عنها يوم نقد كتاب النثر الفني في مجلة الرسالة سنة 1934 أيها المولعون بالمباحث الأدبية والتاريخية

أنا أوجهكم إلى موضوع صدتني عنه ظروف الحياة، وهو درس ما بقي في أذهان العرب من أساطير الأولين لتعرفوا شيئاً من رسوم الوثنية العربية التي حاربها القرآن

فان وفقتم إلى شيء فسنعرف كيف كان العرب يتصورون الدنيا والوجود قبل أن تظلهم راية الدين الحنيف، ويومئذ نعرف كيف كانت جاهلية العرب بالقياس إلى ما عرفنا من جاهلية اليونان

(للحديث شجون)

زكي مبارك