انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 318/كتاب الأغاني

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 318/كتاب الأغاني

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 08 - 1939



لأبي الفرج الإسكندراني

رواية الأستاذ عبد اللطيف النشار

صوت

ولست بيهوف يرى رأى عرسه ... إذا أركبته مركباً فهو راكبه

يظل إذا ما نابه الأمر حائرا ... يخاطبها في شأنه وتخاطبه

الشعر للأمير علي بن المقرب من شعراء النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي ببلاد الأحساء في شبه جزيرة العرب. وفي هذا الشعر لحن من صنعة قاسم بك أمين على نغمة (فقئت عيناه فأبصر).

حدثنا الأستاذ عزيز أحمد فهمي قال: ولولا دفع الله الفنون بعضها ببعض لفسد الحسن. فاللحن الموسيقي والشعر يزدوجان ليكمل أحدهما نقص الآخر. ولقد كنت أقول مرة: إن كل فن يجب أن يترجم إلى فن آخر، وهذا كلام حسن؛ ولكني زدته حسنا لما فهمت أن التزاوج بين فنين يستدعى تشابها بينهما ولكنه كذلك يستدعى أن يكون أحدهما سالبا والآخر موجباً. فهذا شعر رامي تنشده أم كلثوم ليس لأن فنها كفنه ولكن لأن فنها يسد النقص في فنه. وهذا المخرج لرواية تمثيلية يتمم نقصها وسيد ثغراتها، وبين الفنين تشابه ولكن أحدهما لا يترجم الآخر بل يشرح الآخر على طريقته هو التي قد لا يدركها هذا الآخر.

قال: وهذا الشعر لعلي بن المقرب قد لحنه قاسم أمين فخلق منه ما خلقت أم كلثوم من شعر رامي.

قال أبو الفرج: وقد سألت الأستاذ عزيز ما الذي يعنيه بهذا الفقه الفني فلم يزد على أن قال: لقد فقئت عيناه فأبصر.

حدثنا الأستاذ خيري سعيد قال: حدثنا العلامتان هيجل وشليجل قراءة عليهما. وحدثنا الناقدان هردر وفيخت، ولم يقل بماذا حدثوه، وأغلب الظن انهم لم يحدثوه بشيء أو لعله آثر ألا يروي عن هؤلاء العلماء الألمان حتى يرى العالم ماذا ستصنعه ألمانيا في مشكلة دانزج.

وحدثتنا السيدة الجليلة هدى هانم شعراوي قالت: إن هذا الشاعر الذي أصبح يتغنى بترفعه عن أن يحدث زوجته في شئونه أو أن تحدثه زوجته في شئونه، يعد حديث الرجل وزوجته في الشئون المشتركة بينهما ضربا من (اليهفوفيه)؛ إن هذا الشاعر وأمثاله هم الذين مكنوا لقاسم أمين من السعي في تحرير المرأة الشرقية. ولو أن الشعراء في القرن التاسع عشر قد قبلوا أن يكونوا يهافيف فركبوا المركب الذي تختاره لهم أزواجهم لما استطاع قاسم وأعوان قاسم أن يلحنوا هذا الشعر تلحينا يبدو للجاهل أنه أخرجه عن معناه، ويبدو للمتأمل انه سد ثغره وأكمل نقصه وأنه لم يناقضه، ولا حاد به عن طبيعته، فطبيعة هذا التغني بالترفع عن الزوجة هي بعينها مقدمة التحرير. ولقد أطرب اللحن وأشجى وكان من أثره ظهور نهضتنا الأدبية النسوية ونشر هذه اليهفوفيه وأنشدت:

صوت

من أنت ماذا تكون يا رجل ... أظهر ما في طباعك البهل

في كل حين تقول يا امرأتي ... يا امرأتي. . . ما تريد يا رجل؟

الشعر لزوجة أديب كبير من شعراء العصر الحاضر اعتاد أن ينشر كل أسبوع مقالة يقول فيها: (وقلت لزوجتي أنت يا امرأة) فقالت هذه السيدة المحترمة:

. . . . يا امرأتي. . . ... يا امرأتي. . . ما تريد يا رجل!

ثم أتمت القصيدة.

حدثنا الأستاذ أحمد الشايب قال: حدثنا أحمد أمين قال: إن الأدب الجاهلي جنى على الأدب العربي في هذا الباب أيضا باب العلاقة الجنسية، فلولا تقديس أدباء العربية للجاهليين لنزع كل أديب نزعة شخصية صادقة كانت تقيهم على الأقل من سخرية المتنبي منهم في قوله:

إذا كان مدح فالنسيب المقدم ... أكل أديب قال شعراً متيم

ولكن الأمر لم يقتصر على استخفاف المتنبي بالأثر الذي تركه الجاهليون بتقديس العرب إياهم في شعر العرب بعد أن وجب زوال الأثر الجاهلي.

قال عروة:

فإن يأخذوا أسماء موقف ساعة ... فمأخذ ليلى وهي عذراء أعجب

وكان هذا القول طبيعياً ممن يئدون البنات خشية الإملاق ولكن تحدث طبيب ليلى المريضة بالعراق عن ظفره بليلى وفضيحته إياها هذه الفضيحة الشنعاء ليست إلا أثراً من أثر الشعر الجاهلي فيه.

قال أحمد أمين: وهل نجد في الشرق رجلا ممن لم يقرءوا الشعر الجاهلي يستسيغ أن يفضح من يزعم أنه يحبها هذه الفضيحة؟ إلا رحم الله الأبيوردي حيث يقول:

وكم للغواني من يد قد جحدتها ... وشكر أيادي الغانيات جحودها

فهذا هو الشعور الطبيعي عند رجل متمدين. أما الذي يقول فيما يقول: إن زوجتي أطال الله عمرها لن تموت بداء غير داء الغيرة، فلا أستطيع تأدبا أن أصفه بغير التمدين ولكني أصفه بالتأثر الشديد بالشعر الجاهلي. وهل من حق إنسان أن يتحدث عن الأدب وهو لا يقدر أثر الإحياء الدائم المستمر في النفس؟

لقد نمنع أبناءنا عن الاتصال بالطبقات التي لا نرضى عن أخلاقها خشية كلمة تقال فتترك في النفس أثرها فكيف بشعر نعجب به ونمجده ونستظهره ثم نعيده ونستعيده سنين، ثم نعلمه بعد أن نتعلمه فإذا نسيناه رسب في عقلنا الباطن؛ ألا يترك هذا كله أثرا في النفس؟ وإذا لم يكن التكرار المقرون بالإعجاب ليترك أثرا في النفس فلماذا نؤمن بالأدب ولماذا نكتب؟ دعنا مما يقوله علماء النفس في الإيحاء ولننزل إلى مرتبة العامة. ألم نسمع قول العامة: (الدوي في الآذان أشد تأثيرا من السحر).

هؤلاء الجاهليون الذين يئدون البنات تركوا في القرن التاسع عشر من يقول:

ولست بيهفوف يرى رأى عرسه ... إذا أركبته مركبا فهو راكبه

يظل إذا ما نابه الخطب حائرا ... يخاطبها في شأنه وتخاطبه

وحدثنا الأستاذ فرويد قال:. . . ولكنني لا أذكر ما قال فقد كان يتحدث عن العقد وهذه عقدة العقد.

وحدثنا الدكتور محمد حسين هيكل باشا قال: أما أن لغة الجاهلية لغة سليمة فمما لا ريب فيه، لأنها إما أن تكون هي العربية الأصلية إن كان هناك شعر جاهلي، وإما أن تكون لغة أعلم الناس باللغة الجاهلية إن كان علماء الأدباء في العصر الأموي قد وضعوا ذلك الشعر نماذج كما ينبغي أن تكون عليه اللغة. ولكن كون الفكر الجاهلي يعرب عن الرأي الراجح فهو المحال بعينه. وكيف نستطيع التوفيق بين الإيمان بحياة محمد وبين الإيمان برأي إنما بعث محمد لكي يهدمه؟ ولقد تلقينا الشعر الجاهلي لغة لها أسلوب يجب أن نرضاه؛ وفيها معان قصارى الرأي فيها أنها وليدة أفكار ومبادئ، وليس بالمقبول ولا المعقول أن تكون هذه المعاني خالية من الفساد وإلا فلماذا نشأ الدين؟ وما جدوى الحياة الإنسانية إن كانت هذه الآراء وتلك المبادئ لا تزال صالحة بعد خمسة عشر قرنا من الزمان؟ إنه ينبغي على من يعلم النشء لغة الجاهلية أن يحذرهم من قبول الفكرة الجاهلية فإن التكرار مع الاستحسان يورث العادة، وليس كذلك التكرار مع الاستهجان. وإني لأعجب من معلم للغة العربية يعلم تلاميذه قول الشاعر الجاهلي

نسوق النساء عوذها وعشارها

ثم لا يقول لهم إن لغة هذا الشاعر سليمة ولكنه من حيث الأخلاق لا يمتاز شيئا عن البهائم. وإني لأعجب من معلم للغة العربية لا يقول لتلاميذه إن امرأ القيس وإن كان عبقرية معجزة في فنه فإنه كان في آرائه وشعوره نحو النساء كأي حمار في الطريق؛ وإن غزله لا يختلف شيئا عن النهيق وإن لنا منه اللغة. أما الشعور الإنساني الصحيح ففي قول الشاعر

وكم للغواني من يد قد جحدتها ... وشكر أيادي الغانيات جحودها

وقال الدكتور طه حسين إن إنكارنا للأدب الجاهلي لا يتنافى مع صحة الرأي الذي تحدث به هيكل باشا، فإن الذين لفقوا الشعر الجاهلي إنما لاحظوا طبائع الجاهلية وسجاياها.

وحدثنا الدكتور زكي مبارك قال: إن أبا الفرج الإسكندراني رجل منافق في علاقته النسوية ومثله في ذلك كمثل الأبيوردي سواء بسواء. وأنا لا أقول كما يقول الأبيوردي

وكم للغواني من يد جحدتها ... وشكر أيادي الغانيات جحودها

ولكنني أقول إن صبايا سنتريس سيقتل بعضهن بعضا غيرة علي وأقول كما يقول أبو نواس الذي لم يكن بالجاهلي:

ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر

وأقول كما يقول كشاجم وليس بالجاهلي:

خوفوني من فضيحته ... ليته يدنو ونفتضح

صوت دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء

الشعر لأبي نواس واللحن للدكتور زكي مبارك

(يتبع)

عبد اللطيف النشار