مجلة الرسالة/العدد 317/في بلاط الخلفاء

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 317/في بلاط الخلفاء

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 07 - 1939



سعد وسعاد في حضرة معاوية

للأستاذ علي الجندي

فوق بسيط الصحراء المترامي الأطراف، المنَّضر بتلافيف العشب الأخضر، وعلى كثب من أخبية هذا الحيّ الذي تخصص في الحب حتى ضُربت به في ذلك الأمثال! كانت سعاد أو سعدى العذريّة ترعى البهم مع ابن عمٍّ لها يُدعى سعدا في مثل سنها أو يجاوزها قليلاً

ورعى الشاء والنّعم - كما يعرف الملمون بالأدب العربي - أخصب مراتع الحب في البادية وأغزر ينابيعه، ففي ظل تلك الوحدة الصافية والخلوة المطمئنة، وبين كثبان الرمل الأعفر ولُعاب الشمس الضاحية بنجوة من فضول الرقباء ولجاجة العُذّال، انسكب هذا الفيض العلوي على القلوب، وانقدحت شرارته السحرية الأولى، وانفسح المجال - في كلاءة العفاف والتصوّن - للتعارف والتآلف والتشاكي والمناجاة! بل خُطت مصارع العشاق المتيّمين من أمثال ابن حزام وابن ذريح وابن الملوّح، واستطارت أّناتهم الدامية وآهاتهم الحِرار! التي يسميها - من لم يُدلّهه الهوى وتُدنفه الصبابة - أشعار الغزل والنسيب!

ولم يكن بدّ لسعد وسعاد أن يتحابّا جرياً على هذا العِرق الأصيل في القبيلة. وقد يقال: إنهما في بَلَه الطفولة وغرارة الحداثة؛ أجل، ولكن الحب كالسياسة ليس له قلب! فهو كما لا يوقر الكبير لا يرحم الصغير! بل لعل أبرحه وأشجاه ما ساور الأفئدة الغضة، وخامر الأكباد الرِّطاب!

وأخذ الهوى الطفل يتدرج في النمو بتدرج الحبيبين الصغيرين في العمر، حتى شارف المدى في الوقت الذي بلغت فيه سعاد سن القمر البدر! حيث خنقت الرابعة عشرة، فتفلك ثديها وتمت أنوثتها، وتحير في محياها ماء الشباب! وإذا هي أروع مثال للجمال صاغته يد البادية العبقرية الصَّناع!

كانت الفتاة فارعة القوام، مُهفهفة الأعطاف، أدناها كثيب مَهيل، وأعلاها خوط بان!

لها شعر فاحم وارد تنُوس ذوائبه على وجه أبيض مسنون مشوب بسمرة رقيقة كما يشاب الكافور بالمسك! وعينان دعجاوان مكحولتان بالسحر البابلي، يحرسهما حاجبان مُهلَّلان كأنهما نونان من خط ماشق! وخدان أسيلان أنضجت تفاحتيهما شمس الصحراء، نبت بينهما أنف كقصبة الدرّ أو حدّ السيف لم يَخنُس به قصر ولم يمض به طول. شُق تحته خاتم عَطِر كالأقحوانة الغضة، يلتمع فيه سمطان من اللؤلؤ المنضود تجري عليهما شُهدة العسل وسُلافة الرحيق!

وكانت تحلي جيدها العاجي الأتلع، بعقد من الجزع الظَّفاريّ، وسخاب من القرنفل والمحلب، واسطته عقيقة حمراء قانية، تتوهج في ثغرة نحرها، وفوق ثمرتي صدرها توهج الذهب الذائب في بوتقته

وإلى هذا الإثراء من الحسن المطبوع، أوتيت مزماراً من مزامير آل داود! فكان صوتها ندياً رخيماً، عذب الجرس حلو الرنين! إذا حدت به في أعقاب الإبل، أو تغنت وراء الغنم، أو أخذت بأطراف الحديث في التسامر، صبت في الآذان ما يشبه وسواس الحلي أو زجل الحمام!

وبرح الحب بالفتى والفتاة، وفعلت الصبابة فيهما أفاعيلها! ولكن حياء الفتيان وخفر العذارى العواتق في هذه الأيام، حالا دون المكاشفة بهذا الجوى الدفين! فكانا يتناجيان بلغة العيون، والعيون أقدر على أداء رسالة الغرام، وأجلى إعراباً عن لواعج الشوق السّاعر من لسان المقال!

تَكلَّمُ منا في الوجوه عيوننا ... فنحن سكوت، والهوى يتكلَّم

وفي صبيحة يوم شديد القُرّ لاذع الشفيف، جلس العاشقان حول نار يصطليانها التماساً للدّفء، وقد علق بصرهما بالشرر المتطاير هنا وهناك كأنه قُراضة الذهب، ذاهلين عن كل شيء حولهما غارقين في صمت عجيب! وإذا الفتى تمتد يده - دون أن يعي - إلى حزمة من يابس العرفج طرحها في النار، فذكا لهيبها واندلعت ألسنتها الحُمر تترقص على وجه الفتاة البضّ فتشبّ لونه، وتجلو فتنته، وتزيده سحراً على سحر!

وأحست سعاد - بعد لأي - بلفح الأوار، فصحت من ذهولها، وازوّرت عن الموقد قليلاً متقية الوهج بإسبال جفنيها المنكسرين، فاستقرت أهدابها الوُطف على ورد خديها، فكان منظراً أخاذاً يقرح قلب الخليّ، ويحثّ الناسك على الصبوة!

أخذت عينُ الفتى هذه الصورة الفاتنة، فعيل صبرهُ، وتدلّه عقله، وخفق قلبه خفوقاً متداركا، وربا سحره حتى ما يكاد يتنفس! ثم شعر كأن نفسه تتنزى من داخل إهابه، وأن أكمام عواطفه تتفتق عن نفحات عبقة ندّية، لم تلبث أن تخالجت في صدره، ثم ارتقت إلى لهاته، ثم سالت على عذبة لسانه، فإذا هي هذا الشعر يهتف به أول مرة في حياته:

بأبي! كرهت النار لما أوقدت ... فعرفتُ ما معناك في إبعادها

هي ضرّة لك بالتماع ضيائها ... وبحسن صورتها لدى إيقادها

وأرى صنيعك في القلوب صنيعها ... بسيالها وأراكها وعرادها

شَرِكَتْك في كل الأمور بحسنها ... وضيائها وصلاحها وفسادها

فتظاهرت سعاد بأنها لم تسمع - وهي جدُّ سامعة - فخيل إليه أن شعره لم يند على قلبها، ولم يقع منها بموقع، فاتحه شطر النار يؤرثها بعود من الحطب - وهو يترنم بهذه الأبيات -:

وما عرضت لي نظرةٌ مذ عرفتها ... فأنظر، إلا مُثِّلت حيث أنظرُ

أغارُ على لحظي لها فكأنني ... إذا رام لحظي غيرها ليس يبصر

وأحذر أن تُصغي إذا بُحت بالهوى ... فأكتمها جهدي هواي وأستُر

فنصت إليه سعاد جيدها الناصع، ورمته بنظرة فاترة منكسرة ملؤها عتب رفيق! فاضطرب الفتى وصبغت وجهه حمرة الخجل، وأطرق ينكت الأرض بعود في يده، وأراد أن يذهب بالحديث مذهباً آخر، فعصب ريقه، وانعقد لسانه؛ فعاذ بالصمت مكرهاً كما عاذت هي به من قبل، وظلا بقية يومهما جامدين كالأنصاب

ولما كان من الغد بكر الفتى إلى المرعى تبكير ابن دأية، بعد أن قضي ليلة نابغية بجفن مؤرق ودمع مرقرق!

ولبث يرقب سعاد رقبة الهلال ليلة الشك ساعات ممضة فلم تحضر! فساوره القلق، ومالت به الظنون كل مميل! وكان أخوف ما يخافه أن تكون ابنة عمه قد اعتقدت فيه أنه خضع لبعض الأمر. فطفق يذرع الوادي إقبالاً وإدباراً، ويبلل رداءه بعبرات سخينة، حتى نال منه اللغوب، فسقط رازحاً بين طيات الرمال، ينشد:

مُتْ شوقاً، وكدت أهلك وجْداً ... حين أبدي الحبيب هجراً وصدا

بأبي من إذا دنوت إليه ... زادني القرب منه نأياً وبعدا

كيف لا كيف عن هواه سُلُوِّى ... وهو شمس الضحى إذا ما تبدّى؟! ولم يكن سعد مصيباً في ظنه، فقد كانت سعاد مطمئنة إلى حسن نيته، وصفاء سريرته، غير ناسية شعار العذريين (إن في فتياتنا صباحة وفي فتياننا عفة)، ولم تكن كذلك ناقمة منه نسيبه بها، بل نزل على قلبها برداً وسلاماً! وأي فتاة لا تستروح إلى حديث الحب البريء، ولا تهفو إلى رؤية محاسنها مفرغة في قوالب الشعر المذهبات؟!

ولكن الفتاة كانت عاقلة أريبة بعيدة النظر، فخشيت أن يستحلي الشاعر هذا المرعى المؤنق، ويتمادى في إعلان صبوته، وتجري مقطعاته ورقائقه على ألسنة الرواة فتفتضح بها، ويقف ذلك عقبة في بلوغ أمنية تعدل عندها الحياة! وهي زواجها من ابن العم الحبيب الذي ينزل منها في سواد العين والفؤاد! فأرادت أن تتخلف عن لقائه أياماً تتصنع فيها المرض عل ثورته تهدأ وشقشقته تقر! وما درت سعاد - عفا الله عنها - أن ما حسبته دواء هو الداء الأكبر بل الموت الأحمر!:

بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أن قرب الدار خير من البعد

وبينما كان الفتى متوّحداً في الصحراء تتوزّعه الهواجس، ويخبط من حيرته في مثل قطع الليل المظلم! لمعت في ذهنه خاطرة استنار منها وجهه وثلج لها فؤاده، فصكّ جبهته وصاح: الحمد لله لقد اهتديت!

وما عتّم أن انكفأ بالرّاغية والثّاغية إلى مضارب الخيام، ثم عطف على طِراف ممدّد فدخل إلى عمه الشيخ، فإذا هو مُحتب فوق لبدة يمشّط لحيته اللِّيفانيّة

حيّا الفتى عمه الشيخ فرد عليه بأحسن منها، ودعاه إلى الجلوس فجلس قُبالته محتشماً وانقضت فترة كان فيها زائغ البصر شارد العقل جمّ البلابل! ثم تغلب على وساوسه وقال بصوت متقطع النبرات:

- عمي وأبي بعد أبي!

- لبيك ولدي وَوَصَلتك رَحِم!

- جئت أخطب إليك سعاد

فحل الشيخ حبوته وابتسم قائلاً: سعد يخطب سعاد! هو الفحل لا يُقدع أنفه!

فنكّس الفتى رأسه مستحيياً وفي منبت كل شعرة من وجهه ثغر ضاحك!

وكان لسعد صِرمة من الإبل وثلة من الضأن والمعِز ورثها عن أبيه الذي مات عنه - وهو طفل - فأصدق سعاد عشرين ناقة عُشراء

وما هي إلا أيام قلائل حتى أُهديت الفتاة إليه في ليلة أضحيانية قمراء، تحف بها كوكبة من أترابها يتغنين ويضربن بالدفوف، وأمامهن الجواري الصغيرات يعزفن ويرقصن، ومن حولهن فتيان الحي يتشاولون بالسيوف ويتناضلون بالسهام، ويتسابقون على صهوات الخيل العراب! فبلغوا بجاداً من الوبر ضُرب لها خاصة على مسافة غلوة من الحي، فأدخلوها فيه وجلس إلى جانبها الزوج، وأُفرغ على رأسهما نثار التمر عملاً بسنة البدو! وبقي أهل الحي نساء ورجالاً في لهو وسمر حتى انفجر الفجر، فودعوهما داعين لهما بالرِّفاء والبنين!

ومضى عامان أجردان نعم فيهما العروسان بما جاوز قدر الأمل؛ من حياة لينة هنيئة وعيش ألمى الظلال، وحب على الأيام يزداد حِدّة وجدّة! ولكن صدق من قال: (وعند صفو الليالي يحدث الكدر)!

فإن كلف الزوج بعرسه وابتغاءه مرضاتها، جعله يبسُط يده كل البسط في الإنفاق عليها، فكان يرد الحواضر وأسواق العرب يبتاع لها الطرائف: من عصب اليمن وريط الشام ومناديل مصر وعطور الهند وزعفران البلقاء مبالغة في ترفيهها وتدليلها، مع نصحها له بالقصد والاعتدال، ونفورها من هذا التَّرف الذي يجرّدها من وسم البادية وشارتها المحبوبة

فلم يرعو الزوج العاشق، وسدر في غُلوائه حتى أتلف ماله، ولم يبق له سبد ولا لبد! فتلقت سعاد هذه الجائحة بالصبر الجميل! وضاعفت من حبها للفتى وحدبها عليه لترّفه عنه حرّ المصاب!

ولكن الأمر لا يعنيها وحدها، فهناك أبوها وهو وإن كان من قوم جُبلوا من طينة العواطف، ووسموا برقة الشعور، وسنُّوا للناس سنن الموت في الحبّ! إلا أنه كان أعرابياً جافي الخليقة غليظ الكبد! لا يفهم من الحياة غير رُغاء الإبل وثُغاء الشاء والَّصرَّ والحلاب، فأنف لابنته خشونة العيش، وتعاظمه أن تلفحها سموم الفاقة في طراءة السن وغضارة الشباب!

فقطع صلتها ببعلها واحتجزها عنده وسعى في خلاصها منه! فرفع الزوج الأمر إلى والي تلك الجهة الأموي المفتون المدل بمكانه من قريش وبمكانه من الخليفة مروان ابن الحكم. وكانت سعاد قد وصفت له في بعض قدماته إلى البادية، فعشقها على السماع - والأذن كالعين تعشق - فاهتبلها فرصة يتقنص فيها هذا الشادن العذري المريب الذي ما برح يرتعي حبة قلبه! فأكره سعدا على مفارقة زوجه، وضمها إليه - بعد انقضاء عدتها - وفي عينها دمعة جارية، وفي قلبها لوعة ذاكية!

حزب الزوج الأمر، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، ولا عجب فقد أصيب بطعنتين نجلاوين في قلبه وكرامته. ولكن إذا جار الوالي أليست هناك يدٌ أعلى من يده، هي يد الخليفة! ومن فوقها يد الله!

لم يجد الفتى بدّا أن يعتسف الصحراء إلى دمشق، حيث يتربع على دست الخلافة آدم قريش، ووارث حلوم آل حرب، وكسرى العرب وأدهى دهاتها معاوية بن أبي سفيان، ليستعديه على ابن عمه الحاكم المتسلّط!

(البقية في العدد القادم)

علي الجندي