مجلة الرسالة/العدد 317/خليل مردم بك

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 317/خليل مردم بك

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 07 - 1939



وكتابه في الشاعر الفرزدق

لأستاذ جليل

- 2 -

أورد الأستاذ المردمي قول الفرزدق في هذه الرواية في الأغاني في أثناء بحث اجتزأ به، وقد رأيت سوق القصة بتمامها في هذا المقام:

(نزل الفرزدق على الأحوص حين قدم المدينة فقال الأحوص: ما تشتهي؟

قال: شواء وطلاء وغناء. قال: ذلك لك، ومضى به إلى قينة بالمدينة، فغنته

ألا حيِّ الديار بسُعدَ إني ... أحب لحب فاطمة الديارا

إذا ما حلّ أهلك يا سليمى ... بدارةُ صلصل شحطوا مزارا

أراد الظاعنون ليحزنوني ... فهاجوا صدع قلبي فاستطارا!

فقال الفرزدق: ما أرق أشعاركم يا أهل الحجاز وأملحها!

قال: أوَ ما تدري لمن هذا الشعر؟ قال: لا والله. قال: فهو (والله) لجرير يهجوك به. . .

فقال: ويلُ ابنِ المراغة! ما كان أحوجه مع عفافه إلى صلابة شعري، وأحوجني مع شهواتي إلى رقة شعره)

وأملى أبو العباس في (كامله) الحكاية مطوّلة، وجاء في ختامها: (فقال الفرزدق ما أحوجه مع عفافه إلى خشونة شعري، وأحوجني مع فسوقي إلى رقة شعره)

فالفرزدق وجرير في الإسلاميين يحسبان مثل حبيب والوليد في المحدثين: (ترى ألفاظ أبي تمام كأنها رجال قد ركبوا خيولهم واستلأموا سلاحهم، وتأهبوا للطراد، وترى ألفاظ البحتري كأنها نساء حسان عليهن غلائل مصبغات، وقد تحلين بأصناف الحلي)

وهي طبيعة المرء، وهو مزاجه: (كان القوم يختلفون في ذلك، وتتباين فيه أحوالهم، فيرق شعر أحدهم، ويصلب شعر الآخر. وإنما ذلك بحسب اختلاف الطبائع وتركيب الخلق)

وقد قلت في بحث قبل: ما اختلف الطائيان الأكبر والأصغر في الطريقة، إلا لاختلاف الخليقة، فمن تشددت خليقته استفاد للجزالة ومتنت عبارته. ومن سجحت ضريبته رقت كلمته؛ فالأمر عائد إلى الطبائع. وقول الإفرنج في هذا المعنى معروف

(والفرزدق وجرير والأخطل أشعر العرب أولاً وآخراً، ومن وقف على الأشعار ووقف على دواوين هؤلاء الثلاثة علم ما أشرت إليه. وأشعر منهم عندي الثلاثة المتأخرون، وهم أبو تمام وأبو عبادة وأبو الطيب المتنبي، فإن هؤلاء الثلاثة لا يدانيهم مدان في طبقة الشعراء)

وللثلاثة الإسلاميين فضيلتان، وللثلاثة المحدثين الذي هو لهم. وقد تخرج الآخرون على الأولين وأمثالهم التخرج التام. وثقفتهم تلك الحضارة، ورأوا دنيا لم يرها سالفهم في الزمن، وأوثروا بما أوثروا به، فتفوقوا على غيرهم، ولم يجيء من بعدهم أشبابهم

ومن الأسباب التي برع بها الإسلاميون الجاهليين: (أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية في القرآن والحديث اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثليهما لكونها ولجت في قلوبهم، ونشأت على أساليبها نفوسهم، فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية وممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها)

والفرزدق أفضل الثلاثة الإسلاميين، وقد وصفه وصاحبيه خالد بن صفوان في خبر في الأغاني، وفي قوله حق كثير، وأسلوبه يحكي وصف (الهمذاني) الفرزدق وجريرا في المقامة القريضية. وهذا ما نسب إلى خالد: (أما أعظمهم فخراً، وأبعدهم ذكراً، وأحسنهم عذراً، وأسيرهم مثلاً، وأقلهم غزلاً، وأحلاهم عللاً، الطامي إذا زخر، والحامي إذا زأر، والسامي إذا خطر، الذي إن هدر قال، وإن خطر صال، الفصيح اللسان، الطويل العنان - فالفرزدق. وأما أحسنهم نعتاً، وأمدحهم بيتاً، وأقلهم فوتا، الذي إن هجا وضع، وإن مدح رفع - فالأخطل. وأما أغزرهم بحراً، وأرقهم شعراً، وأهتكهم لعدوه ستراً، الأغر الأبلق، الذي إن طلب لم يسبق، وإن طلب لم يلحق - فجرير)

وقال أبو الفرج: (الفرزدق مقدم على الشعراء الإسلاميين هو وجرير والأخطل. ومجاله في الشعر أكبر من أن ينبه عليه بقول، أو يدل على مكانه بوصف؛ لأن الخاص والعام يعرفانه بالاسم، ويعلمان تقدمه بالخبر الشائع علماً يستغني به عن الإطالة في الوصف (وقد) اختلف (الناس) بعد اجتماعهم على تقديم هذه الطبقة في أيهم أحق بالتقدم على سائرها. فأما قدماء أهل العلم والرواة فلم يسووا بينهما وبين الأخطل لأنه لم يلحق شأوهما في الشعر، ولا له مثل ما لهما من فنونه. وهما في ذلك طبقتان: أما من يميل إلى جزالة الشعر وفخامته وشدة أسره فيقدم الفرزدق. وأما من كان يميل إلى أشعار المطبوعين وإلى الكلام السمح السهل الغزل فيقدم جريراً).

والفرزدق عند الشعراء الحذاق الكبار والعلماء العارفين أعظم من جرير. روى الأستاذ المردمي في (الكتاب) عن (الموشح) للإمام المرزباني: (قال أبو الغوث يحيى بن البحتري: كان أبي يقول: لا أرى أن أكلم من يفضل جريراً على الفرزدق، ولا أعده من العلماء بالشعر. فقيل له: وكيف؟ وكلامك أشد انتساباً إلى كلام جرير منه إلى كلام الفرزدق. فقال: كذا يقول من لا يعرف الشعر. لعمري إن طبعي بطبع جرير أشبه، ولكن من أين لجرير معاني الفرزدق وحسن اختراعه؟ جرير يجيد النسيب ولا يتجاوز هجاء الفرزدق بأربعة أشياء: باليقين، وقتل الزبير وبأخته جِعثِن، وامرأته النوار. والفرزدق يهجوه في كل قصيدة بأنواع هجاء يخترعها ويبدع فيها)

وقد عرف الأستاذ المردمي من نبوغ الفرزدق ما عرفه البحتري، بل تنبه على من لم يتنبه عليه. وظني أن هذا ما بعث الأستاذ على أن يخص أبا فراس بكتابه، وإن كان طبعه - كطبع البحتري - لطبع جرير أشبه، وشاكلت رقَّتُهُ رقَّتَهُ

وقد نقد ضياء الدين بن الأثير رواية الموشح نقداً غير صواب، ومما قال: (إن البحتري عندي ألب من ذلك، وهو عارف بأسرار الكلام، وكيف يدعي على جرير أنه لم يهج الفرزدق إلا بتلك المعاني الأربعة التي ذكرها، وهو القائل:

لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل

فجمع بين هجاء هؤلاء الثلاثة في بيت واحد.

وإعجاب ابن الأثير بمثل هذا البيت أمرٌ إمْر. وهل هذا من درجة الاجتهاد التي بلغها وذكرها في قوله في مقدمة كتابه: (ومنحني درجة الاجتهاد التي لا تكون أقوالها تابعة وإنما هي متبعة) وقال ابن الأثير: (ولو سلمت للبحتري ما زعم من أن جريراً ليس له في هجاء الفرزدق إلا تلك المعاني الأربعة لاعترضت عليه بأنه قد أقر لجرير بالفضيلة؛ وذاك أن الشاعر المفلق أو الكاتب البليغ هو الذي إذا أخذ معنى واحداً تصرف فيه بوجوه التصرفات، وكذلك فعل جرير فإنه أبرز من هجاء الفرزدق بالقين كل غريبة) وأورد ابن الأثير من (هذه الأساليب التي تصرف فيها جرير)

سبعة أبيات، منها:

قال الفرزدق:

رقِّعي أكيارنا ... قالت: وكيف ترقع الأكيار؟

وسيف أبي الفرزدق فاعلموه ... قدوم غير ثابتة النصاب

ولو لم يرو مثل هذا لكان خيراً لابن الأثير ولصاحبه جرير

(قال جرير لرجل من بني طهية: أينا أشعر أنا أم الفرزدق؟

فقال له: أنت عند العامة والفرزدق عند العلماء. فصاح جرير: أنا أبو حزرة! غلبته ورب الكعبة! والله ما في كل مائة رجل عالم واحد)

فإن أصبر قول الطهويّ جريراً وازدهاه فهل يرضى صاحب أبرع كتاب في العربية في بابه أن يكون من العامة؟

وما نقصد بهذا القول إزراء بابن الخطفيّ، فجرير ما جرير؟! وهو الثاني في الثلاثة، هو الابن في الثالوث الإسلامي. . . وقد قال الفرزدق: (إني وإياه - يعني جريراً - لنغترف من بحر واحد وتضطرب دلاؤه عند طول النهر)

وإذا كان ضياء الدين يرى (الشعر كله في ثلاث لفظات فإذا مدحت قلت: (أنت) وإذا هجوت قلت: (لست) وإذا رثيت قلت: (كنت)) فقد غمز في نفسه، وأقبل مقلداً من المقلدين لا مجتهداً - كما يصف نفسه - من المجتهدين

(يتبع - الإسكندرية)

  • * *