مجلة الرسالة/العدد 311/من هنا وهناك
مجلة الرسالة/العدد 311/من هنا وهناك
الديمقراطية والإذاعة - عن تلسكرن كوبنهاجن
الاستماع بمعناه الحق فن عظيم ليس من السهل إدراكه. وكثير من الناس يتعذر عليهم الإصغاء عن أي شيء آخر؛ وقد عملت تجارب نفسية للبحث فيما إذا كان الإنسان يفهم ويذكر ما يسمع أو ما يقرأ. وهل للكلمة المسموعة أكثر تأثيراً في النفس أو الكلمة المكتوبة. ولم يهتد إلى حل مرض في هذا الموضوع؛ ولكن انتشار المذياع ألقى ضوءاً جديداً على هذه المسألة.
فالصلة الشخصية بين المتكلم والسامع لا وجود لها في الإذاعة، إذ أن السامع لا يستفيد برؤية المذيع، والرؤية لها تأثير لا شك فيه. فأنت محتاج حين تسمع إلى تركيز ذهنك إلى حد لا تحتاجه حين ترى المتكلم وجهاً لوجه. لذلك يتحتم أن تكون الإذاعة قصيرة، ويجب أن يكون لها نظام خاص وأسلوب معين.
نحن نعيش في أزمة عظيمة لم يشهد مثلها العالم من قبل، إذ تصطدم المثل والأساليب بقوة ووحشية لم يسبق لهما مثيل. فمن الواجب والحالة هكذا أن تتحرر الإذاعة من هذه الحالة: يجب أن تعطينا صورة صادقة عن الأحوال والشؤون التي تشغل العالم، وتبين الأسباب الحقيقية لها، بصفة موضوعية بقدر المستطاع، بعيدة عن طرق الإيهام والإغراء.
على أن المذياع إذا حل محل الكتاب في التأثير على المدنية، فلغة المذياع لا تستطيع أن تجاري لغة الكتاب. وقد أوضح ذلك البروفيسور لويد جيمس فقال: إن الصحافة الإنجليزية وطدت طريقتها في الأسلوب ووسائل الإيضاح منذ مئات السنين، بينما المذياع حديث لم يتجاوز استعماله ثماني عشرة سنة. وهناك فرق كبير بين الكلمة التي تنطق والكلمة التي تقرأ. فالكلام الذي يبحث ويشرح بالكتابة على الوجه الأكمل لا يمكن أن يذاع
ويقول لويد جيمس: من الخطأ أن نظن أن أساتذة الكتابة ورجال الصحافة هم أصلح الناس للإذاعة.
ويقول: إننا نتلقى كل معارفنا على التقريب عن طريق العين، وإن 90 % من معلوماتنا مأخوذ عن الكلمة المكتوبة، وقد ظهرت فجأة آلة المذياع وهي تعتمد على الأذن وحدها، وهذا تطور لا شك فيه في طرق تربيتنا وتعليمنا، ومن الواجب أن تعد له الأساليب والتعبيرات التي تلائمه إذ أنها تختلف كل الاختلاف عما عداها.
ولم تعرف بعد طرق التعبير التي تجعل من المذياع آلة صالحة لنشر الثقافة والتعليم، ولكن من الممكن أن يقال إذا كان التعليم العام والخاص والثقافة هي الطرق المؤدية إلى الديمقراطية، ولا نقول الديمقراطية المعروفة فحسب، ولكن الديمقراطية التي يتطلع إليها العالم في المستقبل: فمن المستطاع أن يكون للمذياع أكبر فضل في بناء صرحها وإعلاء كلمتها.
إن الدكتاتورية تعتمد على نشر الدعاية بين الجماهير، والديمقراطية تعتمد على ذكاء الفرد ومقدرته الخاصة على فهم الأمور والحكم عليها. والمذياع هو ذلك الصوت الذي يرتفع من جانب الحجرة، لا ليجبره على اعتناق فكرة دون الأخرى، ولكن ليفتح ذهنه لمختلف الآراء، ليحكم عليها بنفسه، ويختار ما يلائمه منها.
الخرافة وأثرها في حياة العالم - عن محاضرة للورد
بونسونبي
كل إنسان في هذه الحياة عرضة للخرافات والأوهام تلعب دورها معه. ولا غرابة في ذلك فمنذ خرج من عالم الحيوان نظر إلى ما حوله فنسب كل ما لا يستطيع فهمه إلى قوة خفية خارقة. ويقال أن الإنسان ما زال على فطرته الأولى فهو يتعلق بالخيالات ويتعشق الأوهام
ويبدو هذا صحيحاً إذا اعتبرنا ما يسود العالم من الخرافات الآن. وقد اعتمدت الدعاية في العصر الحديث على خداع الإنسان بمختلف الوسائل، ولم يخطئها النجاح إذ أن الإنسان بطبيعته ميال عن الحق
وما زلنا نرى بين الناس من يعتقدون بالحسد ومن يعتقدون بفكرة الجن والعفاريت. وقد رأيت في الفلاحين من يتشاءمون من زراعة بعض النباتات. ويتشاءم كثير من الناس بكسر المرآة أو بالمشي تحت السلم أو بجلوس ثلاثة عشر على المائدة. وقد أصيب طفلي مرة بسعال ديكي مما يعتري الأطفال عادة، وقد حاولت عجوز أن تشفيه من هذا المرض، فأحضرت ثلاث شعرات من ذيل أتان وخاطتها في كيس ثم ربطتها في عنق الطفل ومن حسن الحظ أنه شفى بعد ذلك أما مسألة الحظوظ فلها دور كبير في حياتنا. ويلجأ المقامرون إلى طرق غريبة لمطاردة الحظ السيئ. ويتشاءم الكثيرون لبعثرة الملح، ولا يزول الحظ السيئ الذي يترتب على ذلك إلا إذا رميت قليلاً من الملح من وراء كتفيك. وإذا ولد طفل يجب أن يصعد به إلى أعلى السلم في الحال حتى يسير قدماً في الحياة ويرتقي معارج الرقي والفلاح
وقد عرفنا في التاريخ كيف كان القساوسة ورجال الطب يستغلون عقائد الإنسان التي من هذا القبيل، لاكتساب النفوذ والقوة، وإذا كان سلطانهم قد ضعف في هذه الأيام، فمرجع ذلك إلى انتشار العلم. على أن الإنسان ما زال ميالاً إلى أن يخدع ويغرر به على الدوام
ولم يكن حظنا في بلاد الغرب في التخلص من تلك الخرافات بأكثر من حظ الشرقيين، وقد ظهرت عقائد كثيرة في الولايات المتحدة. وما زالت الأفكار الروحانية تلاقي نجاحاً في بلادنا. على الرغم من الاضطراب والحيرة اللذين يسودان العالم
وقد اعترف لي طبيب فرنسي بأنه كان يعطي مرضاه حبوباً مصنوعة من مادة الخبز وكانوا ينالون الشفاء باستعمالها لمجرد الاعتقاد. ويقول بعض الأطباء إن بعض القرويين يتأثرون لغياب الدواء عنهم فيعطيهم الطبيب ماء ملوناً، فيقبلون عليه في غالب الأحيان ولو أنه لا يجديهم شيئاً
وقد انتشرت الميول الروحية بعد الحرب العظمى لما نال العالم من الأشجان والآلام بسببها فهي تتجر بعواطف الإنسان ومخاوفه والأحزان التي تخامر فؤاده على من فقد من الأهل والخلان
إنني أتنبأ بما سيكون للمذياع من الأثر في إخضاع الأمم فإذا ظهرت أزمة سياسية فسوف تقهر على سماع ناحية واحدة من نواحي الموضوع. وأنت موقن بأنه لا يوجد شر محض كما لا يوجد خير محض؛ ولكن رجال السياسة يمزجون الحق بالباطل لينالوا قوة الإقناع. وهم لا يحتاجون إلى كثير من العناء، ليحرزوا الفوز في ذلك الميدان الذي تعبد وتوطد مع التاريخ، فيسيرون قدماً في طريقهم لإقناعنا بأشياء لا قاعدة ولا أصل لها. ولا جرم فقوتهم مستمدة من الضعف الكامن في نفوسنا
إن مثل هذه الأمور لا تدرك بازدياد الثقافة، ولكنها تفهم بنمو الذكاء
نابليون والتاريخ الحديث - عن ذي نشنال ريفيو كتب مؤرخ بلجيكي نظرية جديدة يثبت فيها فرار نابليون من جزيرة سنت هيلانا. فإذا صحت هذه النظرية وجب أن تجمع كتب التاريخ ويعاد كتابتها من جديد. والحقيقة أن بقاء نابليون في تلك الجزيرة لم يكن متوقعا، وقد كان الكثيرون منذ اللحظة الأولى لنفيه لا يستطيعون أن يسلموا بأن النسر سيظل قابعاً فوق هذه الصخرة حتى الممات. وعلى الرغم من هزيمة نابليون فقد ظل سلطانه باقياً في نفوس غالبية الشعب، وكان من الطبيعي أن يفكروا في إعادته
كان نابليون يسير على الطريقة التي يسير عليها هتلر الآن، فهو يعد شخصاً مشابهاً له في الخلقة كل المشابهة ليحله محله في ظروف معينة. وقد وصف ليدرو في مذكراته المطبوعة في لينج عام 1840 كيف رأى فرنسوا يوجين روبو المولود في باليكورت عام 1771 وهو يشابه إمبراطور فرنسا كل الشبه، وقد قبل نابليون قيامه بهذه الوظيفة
ويقول ليدرو إن روبو عاد إلى تلك القرية بعد موقعة واترلو، ولم تمض أشهر معدودات حتى أعلن عمدة باليكورت إلى البوليس غياب شبيه نابليون. وقد أثيرت ضجة عظيمة بهذه المناسبة، ولكنها لم تلبث أن خفتت وذهبت إلى عالم النسيان
فهل حل روبو مكان الإمبراطور؟ إن لدينا من الوقائع ما يغري بتصديق هذا، وقد أثبت في سجل الوفيات في باليكورت هذه العبارة: (توفي في جزيرة سنت هيلانة فرنسوا يوجين روبو المولود في هذه القرية في. . .) وقد محى التاريخ لماذا؟ ألا يكون 5 مايو سنة 1821، يوم وفاة الإمبراطور؟ ويكون روبو هو الشخص الذي استقرت عظامه تحت قبة (الأنفاليد)؟ وليس من المعقول أن يموت روبو في جزيرة سنت هيلانة وهو لم يحل بها في يوم من الأيام كما هو ثابت في السجلات البريطانية
ومما يقوي هذا الرأي ويسنده مذكرات مس مودريشو وقد زارت نابليون في سنت هيلانة فأدهشها التغير الذي رأته، ولم تصدق أنه الرجل الذي تعرفه في باريس، وقد كتبت تقول: (لقد وجدت من العسير على أن أصدق أن المرض يغير الرجل كل هذا التغيير)
وفي سنة 1828 حينما اشتعلت نيران الحرب بين تركيا وروسيا قدم رجل أجنبي وعرض خدماته على السلطان وقد وصل إلى تلك البلاد في مركب أمريكي. وقد قاد هذا الأجنبي جيش تركيا في إيراكشا تحت اسم حسين باشا، ويقال إن حسين باشا هذا هو نابليون، ويستند أصحاب هذا القول على فذلكة مكتوبة في ليبزج. فهل لهذه القضية سند من الحقيقة؟ إنها بعيدة عن التصديق، ولكن جنود روسيا في إراكشا يؤكدون أنهم رأوا الرجل القصير في ثياب الأتراك