مجلة الرسالة/العدد 311/رسالة النقد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 311/رسالة النقد

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 06 - 1939



مباحث عربية

تأليف الدكتور بشر فارس

للدكتور إسماعيل أحمد أدهم

هذه مجموعة مباحث في شئون (عربية، إسلامية) تجمع بين التدقيق الاجتماعي اللغوي - في مسائل اجتماعية وأخرى لغوية - وفي مستهل المجموعة استطلاع لشئون جماعة مسلمة في أقصى الشمال جهة (فنلندة). وقد نشر بعض هذه المباحث بالعربية هنا في مصر كما نشر البعض الآخر بالفرنسية هناك في باريس أو روما. غبر أن كاتبها الباحث المحقق الدكتور بشر فارس جمعها في هذا الكتاب بعد أن أجرى فيها قسطاً من التهذيب ثم الحذف والزيادة. لأنه وجد في نشر هذه المباحث بين دفتي كتاب ما يجعلها أدل منها وهي متفرقة، وأبين منها وهي مشتتة. هذا وقد رجا صاحبها بإصدارها أن يوطئ من حيث المنهج والأسلوب الأذهان لرسالته القيمة (العِرض عند عرب الجاهلية) التي نال عليها إجازة الدكتوراه من باريس، ونشرها بالفرنسية لأعوام خلت، وهو اليوم يستعد لإخراجها في اللغة العربية.

وهذه المباحث من جهة المنهاج متأثرة بأساليب البحث الاجتماعي التي لا تعرف مجالاً للافتراض، فهي من هنا أقرب إلى أساليب البحث العلمي الوضعي منها إلى أساليب العلم البحت. ومثل هذا النهج من حيث أنه يعتمد على تسليط النقد على الواقعات مع ردّها إلى مصادرها من طريق الوصف المباشر والاستشهاد بالنصوص الصريحة مقدمة لا بد منها للبحث العلمي البحت. أما عن النهج: فهو التحقيق في الأصول والتدقيق في الفروع قدر ما يسمح به الموضوع، والرجوع إلى المصادر والإشارة إليها في الحواشي التي تجمع إلى المراجع والمصادر والإشارة إليها في الحواشي التي تجمع إلى المراجع والمصادر إضافات وتهذيبات شتى يستخدم في سردها نظام الرموز والإشارات؛ ومن هنا يمكن أن يقال إن منحى نهج الكتاب الطريقة الجامعية في التأليف، وأسلوب المباحث علمي يمتاز بالوضوح والإشراق والتدقيق في اختيار الكلم مع شيء كثير من الصقل للعبارات والكاتب بذلك يصون لغته من الأساليب المبتذلة التي جرت العادة أن تدور على أقلام الكتاب في هذا المصر من أدباء العصر

غير أنه وإن كان من مظاهر التدقيق في التعبير، التدقيق في اختيار الكلم، والتدقيق في وضع المصطلحات العربية للألفاظ الفنية الإفرنجية، فإن هذا التدقيق الذي ينتهي به الكاتب - عادة - إلى نتائج قيمة من أسلوب واضح دقيق، ووضع كلمات عربية تجري مجرى الاصطلاح الإفرنجي يخونه التوفيق بعض المرات، وله بعد ذلك جانب السعي المشكور. من تلك الحالات التي خانه فيها التدقيق في التعبير واختيار الكلم قوله (وتسليط النقد النافذ من جهتيه - الخارجي والباطني - ص 12 و 42 من الكتاب. ومن المعروف أن كلمة داخل تقابلها من الجهة الأخرى خارج، كما أن لفظة باطن تقابلها ظاهر؛ فيكون تعبيره وإن دل على المعنى، ضعيفاً من وجهة السياقة اللغوية العربية الخالصة. وقد استعمل بعضهم هنا في مصر ومنهم الأستاذ أحمد أمين اصطلاح النقد الداخلي والنقد الخارجي - ضحى الإسلامية ج 2 ص 130 - 131 - وقد جاراه في ذلك الأستاذ أمين الخولي - أنظر تعليقه على أصول من الترجمة العربية لدائرة المعارف الإسلامية، م2 ص280 - وكان فيإمكان الباحث أن يجري الكلام على هذا الوجه، فذلك أدل على المعنى من جهة وأقوم من الوجهة التعبيرية العربية الخالصة من جهة أخرى فضلاً عن أنها جرت على الأقلام، فمن هنا اكتسبت قيمة المصطلح الفني.

كذلك قوله: (الاعتماد على المشاهدة دون الفرض والتحقيق دون التخيل) فهو لو قال: (الاعتماد على المشاهدة دون التخيل والتحقيق دون الفرض) لاستقام معه المعنى والتعبير. ولقد جرى قلم الباحث بلفظة (أسلوب) في بعض مواضع من أبحاثه محملاً اللفظة أكثر مما تحتمل من حيث تدل على الطريقة أو النهج في الكتابة أو التفكير. فكان من ذلك أن قال: (وإذا بدا لك بعد هذا أن تعدل عن النقد الخارجي وهو النظر في الأسانيد إلى النقد الباطني وهو النظر في الأسلوب) ص 42؛ ومن المعلوم أن النقد الداخلي ينظر في المتن، والمتن ينقسم إلى معنى وعبارة، أو مادة وشكل، أو فكرة وأسلوب، فالعبارة أو الشكل أو الأسلوب شِقّ يعرض له النقد الداخلي، وليس بكل ما يعرض له (انظر لفظة أسلوب في لسان العرب) ومن هنا يبدو قصور تعبير الباحث عن أن يمد المعنى الذي في ذهنه ظله على ما يلبسه من معنى

ولقد جرى قلم المؤلف سلوك تارة (ص 56) وبلفظ أخلاقيات تارة أخرى (36، 56) مقابلاً لاصطلاح فرنسياً، والسلوك من حيث يفيد النهج يقابل إفرنجياً. أما اصطلاح فيفيد الآداب؛ أما الأخلاق عربياً فتقابل واستعمال لفظ السلوك لأحد مشتقات المصدر تارة ولفظ أخلاق لمشتق آخر لنفس المصدر، يوقع في اللبس والاختلاط (راجع ص56 من الكتاب). كذلك يعتبر الباحث كلمة (البصيرة) مقابلاً لـ (ص 57) ونحن نرجح لفظة (الحدس) لأنها فلسفياً كما جرت على أقلام فلاسفة العرب كابن سينا والفارابي تفيد معنى الانتقال دفعة واحدة من المبادئ إلى النتائج، وهذا ما تفيده معنى اللفظة اصطلاحياً ولغوياً كما يستفاد من مراجعة معاجم اللغة الفرنسية

وثم عندك قول الكاتب: إن للفظة الشرف مفادات متجاورة تارة، متباينة أخرى) ففي هذا التعبير لفظة التجاور تفيد إفرنجياً معنى إفرنجياً والقصور واضح في التعبير العربي. ولكي تتسق مفادات العبارة لا بد من إبدال لفظة (المتجاورة) من الجملة بالمتشابهة، لأنها أدل على المعنى وأكثر اتساقاً في الجملة.

وقد كان بودي أن أمر بكل هذا الذي ذكرته - لأنه ملاحظات

شكلية لا يخلو من أمثالها كاتب - ولكن تدقيق المؤلف

وعنايته الظاهرة بالشكل، هي التي دفعتني لمجاراته في

التدقيق. وبعد ففي موضوع المباحث مسائل تقف النظر،

وموضوعات تستحق وقفة للتدبر، ففي المبحث الأول وهو عن

(المسلمين في فنلندة) وهي رسالة نشرت في الأصل بالفرنسية

في مجلة الدراسات الإسلامية بباريس (13ص 181934) تجد

الباحث يقول إن هؤلاء المسلمين من (الترك - التتر)

الضاربين فيما وراء جبال أورال، وقد هجروها إلى الشمال، وحلوا بفنلندة عقب الانقلاب السوفيتي في روسيا. وهو في

قوله هذا يعتمد على ما رووه له، وما تحدثوا به إليه دون أن

يتعداه إلى سبل التحقيق للتأكد من صحة أقوالهم. فنحن نعرف

أن المصادر التركية تتحدث عن رحلة جموع من (الأتراك -

المسلمين) إلى الشمال في القرن السادس عشر للميلاد، وأنهم

نزلوا بلاد (الفنوا) - أنظر خير الله أفندي في دولت عَلِية

عُثمانية تاريخي ج 6 ص 138 - 145 - فهل تحقق الباحث

من أن مسلمي فنلندة الذين شاهدهم عن كثب ليسوا من نسل

هؤلاء؟ وأن قولهم بأنهم أتوا فنلندة عقب الثورة الاشتراكية

الكبرى في روسيا حقيقة لا تخلو من الريب؟ هذه أسئلة

خطرت بالذهن حين تلونا للباحث كلامه في صدد أصل

هؤلاء.

ومسألة أخرى في هذا البحث، فالباحث يذكر أن جموع هؤلاء المسلمين الأتراك تنزل العاصمة ثم بمدينتي (تمبري) و (توركو) وهو لم يذكر لنا شيئاً عن المدينة الثانية وهل هناك صلة بين أسمها ولفظة (تورك) خصوصاً أنهم على ما يروي من (الترك - التتر). ولا شك أنه في فترة خمسة عشر عاماً ليس في مستطاع هذه الجموع (التركية - التترية) أن تخلع على المدينة اسماً مشتقاً من أصول جماعتها، خصوصاً وهم أقلية؛ وإذن فللموضوع شأن أعمق من القول بأن هؤلاء من الذين نزلوا (فنلندة) بعد الثورة البلشفية في روسيا على أنه يظهر أن الباحث أُخِذ بجدة الموضوع فلم يتعمق في البحث، آية ذلك أنه يقول: (إن لغة التعليم عندهم هي التركية وحروف هجائهم هي الحروف (اللاتينية - التركية) التي وضعت وشاعت بأمر أتاتورك) - ص24 - وهو بهذا يستدل على أنهم صرفوا هواهم عن روسية الجنوبية (؟) إلى أنقرة - ص23 - ولكن لتصح له الدعوى حتى يصح له الاستنتاج، والدعوى لا بد لصحتها من التثبت من أن حروف الهجاء التي يتخذونها هي الحروف (التركية - اللاتينية) التي أخذ بها الأتراك في تركيا الكمالية، وليست الحروف (التركية - اللاتينية) التي توافق عليها أتراك آسيا الوسطى والقوقاز والأورال في مؤتمر تفليس عام 1925: (أنظر في - باب التعليم الوطني -). ذلك أن هنالك بعض الفروق الطفيفة بين أحرف الهجاء اللاتينية، كما هي عند أتراك الجمهورية التركية وأتراك الاتحاد السوفيتي، وهذا الفرق يظهر واضحاً في بعض الحروف التي تدل على حركات معينة، وفي إمكان الباحث بمراجعة هذه الفروق أن يدلي برأي نهائي في الموضوع.

على أنه بعد ذلك في هذا الفصل استطلاعات اجتماعية قيمة تسبغ على البحث أهمية لا تنال مها هذه الملاحظات

والمبحث الثاني عن (مكارم الأخلاق) وهي محاضرة في الأصل ألقاها الدكتور بشر فارس عام 1935 في مؤتمر المستشرقين بروما باللغة الفرنسية ونشرها بمجلة الأكاديمية الوطنية للعلوم في روما. وقد قام بترجمتها والتوسع فيها بعض الشيء في الأصل العربي، والبحث في العموم دقيق في أصوله، ضارب إلى التثبت العلمي في تفاصيله، وكان بودنا أن نناقش الباحث آراءه التي أتى بها في الموضوع ولكن المصادر أعوزتنا. لهذا صرفنا النظر عن مناقشتها. على أنه يظهر أن الباحث وفيَ الموضوع حقه من التحقيق والفحص العلمي.

(البقية في العدد القادم)

إسماعيل أحمد أدهم