مجلة الرسالة/العدد 31/العلوم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 31/العلوم

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 02 - 1934



البحوث الروحية

للأستاذ عبد المغني علي حسين

خريج جامعت برمنجهام

سبقت لنا كلمة بهذا العنوان في الرسالة. وفيها أشرنا إلى أن أفراداً من أساطين رجال العلم الحديث جمعوا من اختباراتهم وتجاربهم باستخدام الوسطاء أدلة جديرة في اعتبارهم باسم العلم تبرر القول بأن العالم الروحي جزء من النظام الكوني، وأن الاتصال به في حيز الممكنات.

ونود بعد ذلك أن نورد طرفا من تلك الاختبارات والتجارب، ونزنهابالميزان العلمي، لنرى مبلغ صلاحيتها كدعامة لهذا الزعم الخطير، الذي إذا صح فأن كل كشف علمي سابق يعتبر بجانبه من محافر الأمور. لما لا، والعلم لم يمهد لنا إلى اليوم غير سبيل المادة، والمادة لا نمكث في محيطها إلا قليلا، ونرتحل عنها وشيكا. أما عن الخلود بعد الممات فلم نسمع أن العلم الحديث كلمة، الهم إلا كلمة إنكار من بعض الذين ينتسبون إليه.

نعم، نسمع إنكاراً صريحا من بعض رجال العلم، وافتراض وجود الأرواح غير المنظورة أبغض شئ إلى رجل العلم الحديث وليس هذا بغريب، فالبرق الذي أعتبره الأقدمون لمع سيوف الآلهة في السماء قد ثبت اليوم أنه شرر كهربائي. والرعد الذي حسبوه زمجرة غضب الآلة ليس سوى فرقعة ذلك الشرر. وقوس قزح الذي ظنوه سلما تمده الآلة ليهبط على درجه رسولهم ليس سوى طيف ضوئي ناتج من تحلل أشعة الشمس بانعكاسها وانكسارها في قطرات ماء المطر. والمرض الذي توهموه فعل أرواح شريرة وطاردوها عبثا بالتمائم والتعاويذ ليس سوى فعل ذر دقيق يرى بالمجهر ويعالج علاجا صحيحاً بالمحقن. لا حد لما كان ينسبه الأقدمون إلى الأرواح. ولا شك أن تاريخ العلم الحديث يكاد يكون سلسلة حرب مع الارواح، فهو يجليها كل يوم عن مركز في العالم المادي، ويقيم على أعقابها نظما وقوانين يتسع بعضها بعضا ولا أثر فيها لروح ما.

لا بدع إذن أن نرى رجل العلم يرفض الاستماع لكل زعم بوجود أرواح للموتى مهما كان مصدره. ويعتبر ذلك رجوع القهقري، وعوداً إلى عهد الخرافات البغيض، واستسلاماً لحب البقاء، وطمعا في لقيا الاعزاء، وذرعاً من الفناء. ولا بدع أن نراه يعتبر تعليل الظواهر بالأرواح عجزاً عن التعليل، ويفضل عليه أن تبقى الظواهر بلا تعليل.

هذا الموقف السلبي تراه كثرة المفكرين هو الجدير بالروح العلمية الصحيحة، التي لا تعرف الآمال ولا المخاوف. ولكن بعض المفكرين يرونه تطرفا وتنعتا. لأن الروح العلمية التي لا تعرف الآمال والمخاوف، لا تعرف أيضا البغض والحب. يجب أن نستمع لكل رأي مهما كان بغيضا. وأن لا نرفض الاشتراك في تجارب تجري إلى النمط العلمي مهما بدا موضوعها سخيفا والأمل في جدواها ضعيفا. إذا لم نفعل ذلك فنحن كالذين رفضوا النظر في تلسكوب غاليلو (سر الفر جوزيف لدج) أستاذ إنجليزي في علم الطبيعة، وشخصية علمية عالمية فذة. نيف اليوم على الثمانين من عمره، ولا يزال نشيطا عاكفا على البحث العلمي في معامله. كان أستاذا بجامعة ليفربول، ثم قضى حقبة طويلة مديراً لجامعة برمنجهام. وكان رئيسا للمجمع العلمي البريطاني، ولجمعية رنتجن، ولجمعية الطبيعة، ولجمعية الراديو. ولديه من ألقاب الشرف العلمية الشيء الكثير. وله فضل معروف في تحقيق التخاطب اللاسلكي ويعتبر دائما حجة في كل ما له علاقة بالأثير

لم تقتصر جهود هذا العلم الكبير على الطبيعة، بل امتدت إلى ما فوق الطبيعة. والذي دفعه إلى هذه المخاطرة العلمية أمران: أحدهما بحوثه في الأثير، التي أوصلته إلى أن الأثير هو الحقيقة الأساسية في العالم المادي، وانه الوسط الشامل، وان منه تصاغ المادة نفسها. ثم نظر فرأى الأثير الجزء الأهم في كياننا الجثماني نفسه. أليس الجسم البشري ككل جسم مادي يتألف من كهارب دقيقة بينها فراغ شاسع بالسبة لحجومها المتناهية في الصغر؟ أليس الجزء الأكبر من الجسم البشري فراغا يملؤه الأثير؟ هذا الأثير إذن هو الثوب الحقيقي لعنصر الحياة الذي يميزنا من الجماد والذي نسميه الروح. أما الذرات المادية فهي مجرد آلة تمكننا من العيش برهة في عالم المادة. أن الدقائق المادية نفسها لا تتلامس قط بل يوجد بينها دائما فراغ يملؤه الأثير. فنحن إذن لا نمس شئ إلا عن طريق الأثير. ولا نسمع شيئا إلا بتوسط الأثير. ولا نرى شيئا إلا باستخدام الأثير. والتفكير وكل الظواهر العقلية والنفسية لا شأن لها البتة بالذرات المادية. بل تنشأ أول في الأثير المتخلل لأجسامنا. وهذا الأثير بكيفية مجهولة يحرك ذرات المادة التي تتألف منها أعضاؤنا الظاهرة. فننسب نحن كل شئ لذرات المادة وننسى الأثير الرابط لها والضابط لكل ما تأتيه من حركات.

هل يتحتم إذن أن يكون موت الفرد زوال كل أثر لذاتيته من الوجود؟ إذا كانت الحياة من خواص الأثير الجثماني فهناك كل أمل في بقائها بعد الممات. إذ قد علمتنا دروس الطبيعة أن الظواهر الأثيرية تبقى ما بقى الدهر، ولا نتشتت أيدي سبا، شأن ذرات الجسم المادي. الموت إذن هو طرح ذرات المادة والعيش بعد ذلك في ثوب الأثير الجثماني، وفي عالم أثيري لا يحجبه عن حواسنا الحاضرة إلا عجز تلك الحواس وقصورها. لقد كشف العلم عن ظواهر أثيرية لم تكن من قبل محسوسة، مثل الإشاعة الخارجة عن حدود المنظور، فلم نستنكر أن يكشف العلم عن حياة في الأثير؟

هذا ما يقوله (لدج). وظاهر أنه رأي فلسفي أكثر منه عمل علمي. وإذا كانت هذه هي كل حجته فقد أتى بغير جديد. إذ النقاش الفلسفي في المادة والروح والفناء والخلود فاضت به الكتب وكاد يصبح مفروغا منه. لذا لا نرى التبسط في حجته هذه رغم ما تستحقه من تقدير. وننتقل إلى اتصاله الفعلي بتلك الكائنات الأثيرية وكيف أمكن أن يكون.

وضع (لدج) كتابا اسماه (كيف ثبت في خلود النفس البشرية) مهد له بما يأتي: -

(القول بخلود النفس البشرية بعد الممات، وبأن الموت طرح للجسد المادي ليس غير، هو قول قديم، وجد منذ وجد البشر. أما الحجج التي تؤيد هذا القول فبعضها ديني قائم على التسليم بوجود خالق رحيم عاقل، وبعضها حيواني يرجع إلى نفور النفس الغريزي من فكرة الانعدام، والقول بأن الغرائز البشرية تنم حتما عن حقائق واقعة. أني في هذا الكتاب لا أعتمد على أحد هذين النوعين من الحجج، وأن كنت أحترمهما وأقدرهما قدرهما. بل لست أنوي أن أحاج أو أجادل، فنظريتي قائمة على أساس من الاختبار الفعلي، وعلى قبول طائفة من ظواهر يمكن لكل إنسان أن يشاهدها بنفسه إذا تجشم عناء التجريب. إني أعرف خطورة كلمة (حقيقة) من الوجهة العلمية، ومع ذلك أقول دون أدنى تردد أن بقاء ذاتية الفرد بعد الموت هو عندي حقيقة قام عليها الدليل الحسي. لقد وصلت إلى هذا اليقين بدراسة خصائص نفسية غامضة لم يلتفت إليها العلم حتى الآن، ولا يرتاح لها فيما أظن رجال الدين. لذا أرى لزامنا على أن أذيع من آن لآن ما يبرر مثابرتي على هذه البحوث ويعبر عن اقتناعي التام بصحة ما وصلت إليه.

(ولا حاجة بي إلى القول بأن كلمة (خلود) الواردة في العنوان لا يقصد بها الخلود أبد الآبدين فهذا ما لا علم لي به. كل ما أطمع في تقريره هو بقاء ذاتية الفرد بعد الموت. الموت هو الحادث الذي نرى عنده انقطاع حبل الحياة فإذا كنا نعيش بعد هذا الحادث القاصم فبعيد أن نلتقي بعده بحادث أشد منه وأعظم خطرا. لست أعرف ما يكون من شأننا في المستقبل القاصي، وكل ما استدللت عليه هو بقاء ذاتية الفرد منا بعد مغادرة هذا الجسد المادي. والمستقبل البعيد خليق بأن لا يشغل بالنا الآن. وحسبنا العلم أن هذه الحياة الأرضية ليست كل نصيبنا من الوجود كأفراد، وإننا إذا استخدمناها كما ينبغي فهي المرحلة الأولى من عيش طويل كله فرص للخدمة التي تتفق مع طبيعتنا الحقيقية وفيها سعادتنا الصحيحة.)

هذا ما كتبه (لدج) تمهيدا للكتاب. وسنتناول ما تضمنه الكتاب من تجارب ومشاهدات في كلمة أخرى إن شاء الله.

عبد المغني علي حسين

خريج جامعة برمنجهام