مجلة الرسالة/العدد 303/من أدب الغرب
مجلة الرسالة/العدد 303/من أدب الغرب
للأستاذ فليكس فارس
الشاعر الإيطالي ليونلو فيومي، من أشهر حملة الأقلام في هذا العصر، وقد أوقفه كبار النقاد في أوربا والعالم الجديد إلى جنب جبرائيل دانونزيو في تاريخ آداب القرن العشرين
إن ليونلو فيومي يكتب وينظم باللغتين الإيطالية والفرنسية، وله مؤلفات وترجمات عديدة في التاريخ والعلم والأدب؛ وهو يصدر في باريس منذ تسع سنوات مجلته (دانتي) باللغة الفرنسية، وهي منتشرة بين الطبقات المثقفة ويكتب فيها عدد من أشهر رجال العلم والأدب
وقد أصدر ليونلو أخيراً ديواناً من الشعر المنثور باللغة الفرنسية بعنوان (صدر عن الأرخبيل) كان له دوي في عالم التجديد الأدبي، وترجمت منه قصائد إلى لغات عديدة. وقد رأى أصدقاء الشاعر أن قصيدة (نذر) من الديوان قد اختارها عدد وفير من المترجمين فاستكملوا ترجمتها إلى ست وعشرين لغة منها الصينية واليابانية والأرمنية والتركية. وقد طلب لينا أن ننقل هذه القصيدة إلى اللغة العربية، فنزلنا عند إرادة اللجنة التي تولت نشر هذا الديوان لقصيدة واحدة وقد أرسلته إلينا فرأينا أن نقدم لقراء الرسالة ترجمتنا آملين ألاَّ نكون قصرنا في هذا المضمار الذي تسابقت فيه لغات الدنيا في معرض البيان. ولعلنا أثبتنا أن أم اللغات هي المجلية بما فيها من مرونة وجزالة وبلاغة تقتنص المعاني فتوردها بروعة تفوق روعة أصلها
نذر
ما تجلَّيتِ لي ولن تتجلى إلا كلمح السراب؛ لذلك أتوق إلى أن أقيمك تمثال عذراء، أيتها الزنجية، أسوة بالأقدمين من أبناء إيطاليا الذين كانوا يُبدعون من نساء أحلامهم رسوماً يناجيها المتعبِّدون
أنَّ أُمنيتي هي أن أطبع على رافدة هيكلٍ في (المارتينيك) صورة عينيك المتوهجتين بلمعان الماسة الربداء لأقف أمامهما متوسلاً بغير لغة الكلام، وقد أشجاني الاضطراب، أن تقرّ عيناي لحظة عليهما، فأجيل ناظريَّ على غدائر شعرك الجعد الفاحم المنعطف كالجدول إلى ما وراء أذنيك وأرسم منشى أنفك الخافقين كأنهما جناحا طائر صغير. وكأنهما ينفتحان برعشة الشهوة لاستنشاق عطور جزيرتك المسكرة هابة من منابت الكاكاو والروم والفاني لأبذلنَّ كل ما في الوله من عناية في اختيارِ العنبر لأمدَّه أظلالاً فأداعب إهابك حين أرسمه غضّاً ناعماً كأن عليه زغبَ الثمرةِ الندية فتبدين فتَّانة القوام باسطةً ذراعيك بمعصميهما الضامرين
وعندما أستنفذ ما على لوحة الألوان فلا أجد ما أرسم به لين طفولتك، وهي كأنها تأود القصب النديّ في جزيرتك؛ ويمتنع عليّ رسم ما في صفاء فطرتك وعطفك وذكائك من غوامض الفتنة، لن يسعني وقد خانني الفن إلا أن أعتصر على الرافدة آخر ما احتبس في قلبي اليائس من قطرات شوقه وإلهامه
وإذا ما أتممت هذه الصورة المنذورة أسارع إلى رفعها على هيكل من هذه الهياكل الصغيرة المشرفة على غابات القصب المزهرة وعلى مراوح الموز الوسيعة؛ عندئذ أجد مكافأتي في تعبُّدي لعذرائي الزنجية، فأسجد أمامها صامتاً خاشعاً والغسق يمد أظلاله على الأشجار الباسقة التي لا أسم لها كأن الغسق ليلٌ ثان ينتشر على ظلمات الغاب في بلاد الهجير حين تهتاج الصراصرُ مرسلةً أزيزها في الليل فتجاوبها الحُباحبُ بأشعةٍ لا عِدادَ لها كأنها قطراتُ ندىً تلتمع في ليلة مقمرة
وهذه قصيدة أخرى بعنوان (مولد) للشاعر الكبير جيوفاني باسكوالي استوقفني ما فيها من عاطفة فياضة وروعة فآثرت نقلها إلى العربية أيضاً
مولد
ثلاثون عاماً تتالت منذ ولدتني يا أماه، منذ آلمتك أولى شهقاتي الضعيفة بأكثر من أوجاعك الشديدة الفائرة
وغذيتني من ثدييك المتفجرين حناناً وأنت صبور تساورك المخاوف والأشجان، حتى إذا تكامل لحمي من لحمك ودمي من دمك فاستقرَّ قلبك بأكمله في قلبي، جاء اليوم الذي تواريت فيه منذ عشرين عاماً
وهأنذا أحاول عبثاً أن أجسِّم عينيك وسيمائك لأشاهدك بخيالي. لقد أذبل الزمان ناضر تذكاري فلم أعد أعرفك يا أماه!
أما أنت فلا تزالين حيث يستقر الأموات في مرابع الصقيع تستوقفين أحلامَك لتداعب أناملك غدائر طفلك الصغير (الإسكندرية)
فليكس فارس