مجلة الرسالة/العدد 300/كذبة إبريل
مجلة الرسالة/العدد 300/كذبة إبريل
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
في أول إبريل يحلو لبعض الناس أن يكذبوا، ويطيب لهم أن يزعجوا بهذا الكذب إخوانا لهم، أعزاء عليهم، إثراء عندهم. ولو اختصوا بالكذب المثير أو المزعج، أو الذي يورث المتاعب، غير الأوداء والأصدقاء: أي الخصوم والأعداء، لكان هذا أقرب إلى العقل وأشبه بما ينبغي أن يكون، فما يبالي المرء على أي حال من السوء يكون عدوه، وكلما زاد الشر الذي يقع فيه أو ُيمنى به العدو كان ذلك أشرح لصدر عدوه وأثلج لقلبه. ولكن الصديق شيء آخر، والإنسان جدير أن يخجله أن يركب صاحباً له بدعاية مؤذية، وأن يضحك ويفرح بما ينزله بهذا الصاحب من السوء
وقد لقيت في أول إبريل هذا من المتاعب ما بغضه إلي، حتى لتمنيت على الله أن يلههم الناس حذف الشهر كله، وإسقاطه أجمعه من تقويم العام
صبحني واحد، وأنا أجلس إلى مكتبي، بأن برقية وردت بأن ألمانيا قذفت بجيشها على أرض بولندا، وأن القتال يدور بين الطلائع النازية وقوات الدفاع، فسألته: (أتتكلم جادّاً؟)
قال وهو يشير إلى ورقة في يده (هذه هي البرقية. اسمع ترجمتها)
فتفرست في وجهه وحدجته بنظرة فاحصة، فلم أر ابتساماً، ولا ما يشي بأنه يهم بالابتسام. فقلت: (إني كنت، وأنا آت إلى هنا، أحدث نفسي بأن أكتب في التصريح الذي ألقاه المستر تشمبرلن أمس في مجلس العموم البريطاني، وكنت أريد أن أقول إنه من العوامل المرجحة لكفة السلم؛ ولكنك تروي لي نبأ غريباً، لا يكاد يقبله عقلي، فهات لي هذه البرقية لأقرأها فإني لا أكاد أفهم، واحسبني سأجن، فما أعرف لماذا تجازف ألمانيا هذه المجازفة التي ليس لها أي موجب، ولا من ورائها أي خير لها أو لسواها)
وانتزعت منه الرقعة فإذا هي قديمة وتاريخها أول مارس، وليس فيها أي ذكر لألمانيا أو بولندا! وماذا يبالي صاحبنا هذا أن يهدم لي الدنيا، وأن يحيلها حولي أنقاضاً، وأن يدير لي رأسي حتى ما أعود أعي شيئاً؟!
وبعد نحو ساعة، طُلبت إلى التلفون، فقمت إليه، فإني أكره أن تكون آلته على مكتبي، أو في الغرفة التي أنا فيها، ولا أعرف ما هو أشد إزعاجاً لي من صوت جرسه حين يدق فجأة، وقلت وأنا أضع السماعة على أذني (نعم)
فسمعت صوت زوجتي يقول لي: (أبو خليل. . . مبروك!)
فسألتها مستغرباً: (ماذا؟ مبروك إيه؟)
قالت: (بالهناء والرفاء والبنين! لماذا لم تخبرنا لنفرح لك معك؟)
قلت: (عن أي شيء تتحدثين؟ رفاء، وبنين. . .؟! ما هي الحكاية؟)
قالت: (برقية وردت بتهنئتك بعروس جديدة. . . هل أقرأها لك في التليفون؟ أو يكفي أن أذكر لك اسم مرسلها؟! وقبل البرقية دق الباب رجل وسأل عنك، فعرف أنك خرجت فكلفنا أن نبلغك تهنئاته القلبية. فلم نفهم، ولكنه انصرف قبل أن نتمكن من سؤاله. على أن البرقية ما لبثت أن جاءت ففهمنا كل شيء! مبروك، على كل حال)
فأيقنت أن أكاذيب إبريل كلها ستقذف عليَّ في هذا اليوم السعيد. وقلت لها: (آه، كذبة إبريل. . . اشكري عني المهنئين والمهنئات. فإني الآن مشغول بالعروس، أبثها حبي، وأناجيها بما يجن قلبي لها! ألا تسمعين؟)
فألقت السماعة، ولم تجب! والمصيبة أن النساء أميل إلى تصديق كل ما يثير غيرتهن، ولو كان كل شيء يدعو إلى نقيض ذلك فإني لا آكل شيئاً ويغري بالاطمئنان.
وخرجت، فمررت بصاحب لي، فقم لي شوكولاته، فاعتذرت فإني لا أكل شيئاً بين طعامين، فألح، فأصررت على التأبي، فاقترح أن أنتقي بضع قطع أدسها في جيبي، وآكلها حين أشاء فلم أر في هذا بأساً فأجبته إليه. وعدت إلى البيت، وخلعت ثيابي لأستريح، فسألتني امرأتي: (معك سجاير)؟!
قلت: (في جيبي. . . خذي ما تريدين)
فدفعت يدها في جيبي وقالت، وهي تخرجها وتتأمل ما عثرت عليه: (آه. . . شوكولاته العروس)!!
قلت: (لا تكوني سخيفة. . . هذه أعطانيها فلان).
فألقت في فمها واحدة، وهي تضحك، وإذا بها تلفظها فجأة وتصيح وقد عبست جداً: (ما هذا القرف؟)
فسألتها: (قرف؟ أي قرف يا شيخة؟ مالك في هذا النهار؟) قالت: (تضحك عليّ، وتغريني بأكل شوكولاته حشوها ثوم وفلفل، وتزعم أن فلاناً أعطاكها؟! أي مزاح هذا؟ هل ارتددت طفلاً؟ ألا تجد أحداً غيري تمازحه هذا المزاح البارد؟)
فقلت - وأنا أحدث نفسي -: (شوكولاته بثوم وفلفل! يا امرأة، هل سمعت بالمثل العامي: تكون في فمك فتقسم لغيرك؟ أنا كنت المقصود بهذا المزاح البايخ، ولكني نجوت ووقعت أنت؛ وما يخالجني شك في أن هذا أبعث على سرور صاحبي الذي أهدى إليّ هذه الشوكولاته! ولكنا لن نخبره بشيء، وسندعه بضعة أيام يتقلى وبوده لو عرف ماذا كان من أمرنا. . . لا بأس! سأجزيه سوءاً بسوء! فانتظري!)
فظلت تصيح وتسأل عما عسى أن تصنع الآن، فقد فسد طعم فمها، وأكبر ظنها أن رائحة الثوم ستظل بأنفاسها، فاقترحت عليها أن تشرب قليلاً من الكولونيا!
فهزت رأسها وقالت: (تريد أن تقتلني لتخلص لك عروسك الجديدة، ويصفو لك الجو معها!)
فسكت ووضعت إصبعي في الشق، بل وضعت أصابعي العشر كلها في الشقوق فما من سبيل إلى إقناع المرأة بسخافة الغيرة
وأحسب أن الكذب يطيب في أحيان كثيرة، بل أحسبه لازماً للإنسان، وعسى أن يكون الصدق متعبة شديدة، ولعل التزامه في كل حال مما لا يطاق
ولكن من الكذب ما هو بريء، وما هو سوء يحسن اتقاؤه وأنا مستعد أن أضحك، وأن استظرف نكات الإخوان وأستملح دعاباتهم، ولكن لا أظن أن ما ذكرت يدخل في باب الفكاهة المستملحة. وقد يكون هذا وما إليه محتملاً، ولكن الفظيع أن ينعى لك صديق وهو حي يرزق، فتخف إلى داره لتعزي أهله، ويلقاك ابنه أو أخوه، ولا ترى في وجهه حزناً أو سهوماً، فلا تستطيع أن تقص عليه الخبر الذي حملك إليه، ولا تجد ما تسوغ به هذه الزيارة في ساعة غير مألوفة! وبعض الناس يضحكهم ويسليهم هذا الضرب من المزاح! ولم لا؟ كل ما سر جائز. . .
إبراهيم عبد القادر المازني