مجلة الرسالة/العدد 297/يهتمون به فهل يعرفونه؟

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 297/يهتمون به فهل يعرفونه؟

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 03 - 1939


للأستاذ عباس محمود العقاد

العصر الحاضر من العصور التي اشتد فيها الاهتمام بالعالم الإسلامي بين جميع الدول الكبرى

لأن هذه الدول على وشك القتال، وتعلم كل منها ولا ريب أنها غانمة رابحة، وأنها كبيرة الأمل في النصر إذا ظفرت من اليوم بمودة الشعوب الإسلامية؛ وهي موزعة في المواقع التي تحوم حولها المطامع ويتأشب فيها النزاع

فاليابان تنادي بمبدأ (آسيا للأسيويين) وتعني بذلك أن (آسيا لليابانيين) وتعرف ما تكسبه في أسواق التجارة وفي ميادين الحرب إذا هي استمالت إليها مسلمي الصين والهند وما وراءهما من أواسط آسيا، فضلاً عن المسلمين في جزر الهند، وهم أصحاب شأن عظيم في تلك الأرجاء

والولايات المتحدة لا يسعها أن تنسى الاهتمام بشيء يهتم به اليابانيون، وبخاصة كل شيء تكون له علاقة بالصين والفليبين وشواطئ المحيط الهادي في عدوتيه

والدولة الشيوعية الكبرى - وهي الروسيا - تقف لليابان بالمرصاد في القارة الآسيوية، وتتودد إلى المسلمين هناك، وهي حائرة لا تدري هل تهدم الشعائر الدينية تطبيقاً لمذهبها فتغضب المسلمين وتدفع بهم إلى أحضان خصومها، أو تبقي على الشعائر الدينية فتغضب دعاتها ولا تستطيع التوفيق بين برامجها في الأرض الروسية وبرامجها في البلاد التي تصاقبها وتبادلها المعاملات التجارية والسياسية.

ولا تتخلف (الفاشية) في المضمار، بل يبرز على رأسها (موسوليني) منادياً بأنه (حامي) الإسلام ونصير المسلمين، ولو كان على نصيب من (الحذق الاستعماري) أوفى من هذا النصيب لعلم أن الإيمان بالدين وقبول حمايته من غير أهله نقيضان في المنطق والشعور على السواء، ولاسيما من وجهة النظر الإسلامية التي تفرض على المؤمن بها حماية نفسه في وجه المغيرين عليه

أما الدول الديمقراطية فهي تقابل المساعي اليابانية والمساعي الشيوعية والفاشية بالتوجس والحيطة، وتريد أن تقاومها فتعمد إلى عقد المحالفات وفض المشكلات وتوحيد المصالح بينها وبين العالم الإسلامي في حالتي الهجوم والدفاع، وتفتح لها الطريق في هذا المجال بريطانيا العظمى ثم الجمهورية الفرنسية

والعالم الغربي يعتقد اليوم أن (العالم الإسلامي) يتحفز ويتوثب، وأنه قوة رشيدة لا تعمل معاملة القاصر التابع لغيره، ولا مناص من حسبان حسابها لمن تربطه بها علاقة قريبة

كتبت مجلة (التاريخ الجاري) في عددها الأخير مقالاً جعلت عنوانه: (محمد يتهيأ للعودة) وعقبت بذلك عنوان آخر فحواه أن المسلمين رقدوا خمسمائة سنة وهم يتحركون الآن ويتوثبون إلى السلطان

ثم قالت: (في جزائر الفليبين وفي الجامعات المصرية، في قصور الملوك الشرقيين وفي خيام التتار المرتحلين، على الكراسي البرلمان اليوغسلافي وبين أكواخ الزنوج عند الشاطئ الذهبي، في آجام أفريقيا وفي صحارى آسيا، يترقب السلمون كل يوم بل كل ساعة مطلع المهدي الذي يتجسد فيه محمد عليه السلام، وقد تيقظت قوة الإسلام واتخذت لها شكلا سوياً في عالم السياسة، ولا تزال (التعاليم المحمدية) سارية منتشرة بين الشعوب الملونة التي تجد من المقاربة بين إدراكها وبين هذا النوع من التوحيد ما ليست تجده في المسيحية أو اليهودية. وهنالك عامل آخر من عوامل هذه الحركة وهو إخصاب الشعوب الإسلامية وتوالدها. فإن الشعوب البيضاء تصاب بالعقم وقلة النسل بينما يتوالد المسلمون كالأرانب!)

وعلى هذا الاهتمام باليقظة الإسلامية وهذا الإيمان بقوتها هل تراهم يعرفون الحقائق عن الإسلام أو عن أخبار المسلمين الجوهرية؟

إن مجلة (التاريخ الجاري) من أوثق المجلات الأمريكية خبراً واصدقها بحثاً، ومع هذا ترى الخلط فيها بين نهضة الإسلام وبين ما تسميه انتظار المهدي الذي يتجسد فيه محمد علية السلام

وترى قبل ذلك أنها تمهد لمقالها فتقول: (في كل يوم من أيام الجمعات يقف خمسة وعشرون ألفاً من رعايا الولايات المتحدة خاشعين مكتوفي الأيدي متوجهين إلى الشرق يصلون إلى الله ويسألونه قرب ظهور المهدي المنتظر. فإن أبناء الإسلام هؤلاء قد حافظوا على عقيدتهم الغامضة في رجعة مسيحهم كمحافظة المائتين والخمسين مليوناً من إخوانهم الموزعين بين مراكش وجزائر سنداي وبين مدغشقر وأرض المغول) فأين العلم بالإسلام وبنهضة المسلمين ممن يكتبون هذه الكتابة وهم محسوبون بين أبناء وطنهم ممن يحسنون الخوض في هذه الشؤون؟

على أن الجهل بالأخبار الواقعة لا يقل عن الجهل بالعقائد النفسية والشعائر الدينية، فقد كتبت مجلة أمريكية أخرى اسمها (أخبار الأسبوع) تقول بعنوان: (الخليفة فاروق):

(لما دخلت تركيا الحرب في سنة 1914 أعلن السلطان عبد الحميد (هكذا) باعتباره خليفة المسلمين الدعوة إلى الجهاد أو الحرب المقدسة على الحلفاء الكافرين، وقد فشلت هذه الدعوة ولكنها كلفت بريطانيا العظمى وفرنسا وهما تحكمان مائة مليون وستة ملايين من المسلمين نفقات جمة في مقاومتها بدعوة أخرى، وبذلت الدولتان تلك النفقات وهما خائفتان.

(ثم ألغى كمال أتاتورك الخلافة في سنة 1934 بعد إقصاء السلطان.

(ثم قام موسوليني ينادي بأنه حامي الإسلام ويستثير العرب على بريطانيا العظمى في فلسطين وغيرها من البلاد. وشاع أنه أراد بعض حكام العرب من أصدقائه على أن ينصب نفسه للمبايعة بالخلافة، وإن كان الأمل في نجاح الجهاد اليوم أضعف من ذلك الأمل في سنة 1914 مكتفياً بما تستطيع تلك الخلافة من المضايقة في بعض الأحوال).

وبعد أن أشارت المجلة إلى منافسة بريطانيا العظمى في هذه الحلبة قالت ما خلاصته أن صاحب الجلالة الملك فاروق بويع في الأسبوع الماضي بالخلافة في مسجد قيسون العظيم، وأن خمسمائة ضابط هتفوا فجأة للخليفة الفاروق! وأن أمراء العرب شهدوا ذلك الحفل كأنما كان شهودهم إياه من قبيل المصادفة.

هذه أمثلة من جهلهم بعقائد المسلمين وأخبار بلاد المسلمين، وهم يهتمون جد الاهتمام بنهضة المسلمين.

ويرجع هذا الخلط إلى أسباب: بعضها مقصود، وبعضها غير مقصود.

فمن الأسباب ما هو مقصود لأغراض سياسية أو تجارية كتمثيل المسلمين في صورة تسوغ للدول المستعمرة أن تعاملهم معاملة المتأخرين الذين لا يصلحون لقوانين الحضارة وقواعد الحرية

ومن الأسباب ما هو مقصود لأغراض فنية ونعني بها الرغبة في التأثير والإغراب وتشويق القارئ إلى العجائب التي لا يألفها في بلاده وبين أبناء وطنه. ومن الكتاب الغربيين من يتعمد التحريف في أخباره لأنه يخشى أن (يخيب أمل) القراء فيه إذا أصغوا إليه ليحدثهم عن شعوب الشرق وأحوال الإسلام فإذا هو يحدثهم بما يألفونه ولا يستغربونه ولا يحققون به تلك الصور المزخرفة التي طالما تخيلوها وحلموا بها وهم يقرءون ألف ليلة وليلة ويستعيدون ما نقل إليهم من أقاصيص الرحالين في الزمن القديم.

أما غير المقصود من الأسباب فمنشأه قلة الاكتراث وصعوبة البحث وعزلة المسلمين في العصور الماضية وسماع أخبارهم من جهلاء بينهم لا يفقهون أسرار دينهم ولا يبالون ما يهذرون به من عقائدهم وعاداتهم ولا يدركون الفرق بين ما تعودوه ودرجوا عليه وبين ما هو من حقائق الإسلام وشعائره الصحيحة.

على أن الذي يعنينا حق العناية هو أن نعلم نحن حقيقة الغربيين، لا أن يعلموا هم حقيقتنا، وينفذوا إلى الصحيح من أخبارنا ومقاصدنا، وإن كان علمهم بهذا نافعاً لنا كلما تيسرت وسائله في أيدينا.

والذي يبدو لنا من العلم بحقيقة القوم أن العالم الإسلامي خليق أن يعامل كل من يعامله منهم على سنة الإنصاف والمنفعة المأمونة العواقب، وكل ما ينبغي أن يحذره هو الإصغاء إلى دعاة الشيوعية والإصغاء إلى دعاة الفاشية، وأن يكون ذنباً في أعقاب الديمقراطية، فإذا استطاع أن يمشي مع الأمم الديمقراطية الحرة في الطليعة فلا عليه بعد ذلك أن يعامل من يشاء على سنة الإنصاف والنظر البعيد إلى العواقب الأمور.

عباس محمود العقاد