مجلة الرسالة/العدد 297/عمر في بيت المقدس
مجلة الرسالة/العدد 297/عمر في بيت المقدس
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
هذا عام ستة عشر من الهجرة، وقد انساحت جيوش المسلمين في الشام والعراق وفارس وألقت أقاليم الشام بالمقاليد إلا فلسطين. وأبو عبيدة ابن الجرّاح يحصر بيت المقدس، وقد ملأ الأسماع والقلوب بأس المسلمين وعدلهم ووفاؤهم
عزم أهل بيت المقدس أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس - في عهد المسلمين وحمايتهم وعدلهم، ورغبوا أن يكون صاحب عقدهم عمر. . . عمر الذي ملأت سيرته الآفاق وسكنت إلى عهده النفوس، واشتاقت إلى رؤيته العيون
وفصل عمر عن المدينة في جمع من الصحابة ومعه مولاه أسلم. خرج يغذّ السير إلى الشام ليتفقد أحوال المسلمين، ويصالح أهل فلسطين. . .
ويمضي في طريقه حتى يبلغ أَيلة. ويتنظّر الناس موكب أمير المؤمنين يحسبون أنه سيطلع عليهم في زينته يحيط به جنده ورجاله. والذي رأى منهم هرقل حين فتح بيت المقدس قبل عشر سنين، أو شهده من بعدُ في حلّ أو ترحال، تخيل عمر قادم في موكب كموكب هرقل أو في موكب دونه ولكنه موكب ملك أو أمير
ولما دنا عمر من أيلة تنحى عن الطريق وتبعه غلامه فنزل فمشى قليلاً (ثم عاد فركب بعير غلامه وعلى رحله فَرو مقلوب وأعطى غلامه مركبه). وكأن عمر خاف أن يداخله الزهو وهو على مركبه في غير زينة فآثر أن يشعر نفسه أنه وخادمه سواء فتحول إلى رحل غلامه. فلما تلقاه أوائل الناس قالوا: (أين أمير المؤمنين؟ قال: أمامكم (يعني نفسه). وذهبوا إلى أمامهم فجازوه حتى انتهى هو إلى أيلة فنزلها. وقيل للمتلقين: قد دخل أمير المؤمنين أيلة ونزلها. فرجعوا إليه)
ونظر الناس إلى رجل طويل جسيم أصلع أشقر شديد الحمرة كثير السَبلة في أطرافها صهوبة وفي عارضيه خفة - رجل لا تقع العين منه إلا على الوقار والتواضع والشدة في الحق والرأفة بالضعفاء. رأوا ملكاً في زي ناسك، وراعي أمة في صورة راعي ثلة. رأوا إنساناً لا تفقد فيه الإنسانية حقيقة من حقائقها، ولا يصيب فيه الجبروت باطلاً من أباطيله.
اجتمع الأساقفة والرهبان يرون رجلاً في يده الدنيا ولكنها ليست في قلبه، يملكها ولا تملكه، ويصّرفها ولا تصرّفه، ويستبعدها ولا تستبعده. وليس شيئاً أن تكون زاهداً في صومعة ولكن العظمة كلها أن تكون زاهداً والدنيا تحت قدميك.
(ودفع عمر قميصاً له كرابيسَ قد إنجابَ مؤخرُه عن عقدته من طول السير، إلى الأسقف وقال: أغسل هذا ورقعه. فانطلق الأسقف بالقميص ورقعه، وخاط له آخر مثله فراح به إلى عمر؛ فقال: ما هذا؟ قال الأسقف: أما هذا فقميصك قد غسلته ورقعته؛ وأما هذا فكسوة لك منيّ. فنظر إليه عمر ومسحه ثم لبس قميصه ورد عليه ذلك القميص. وقال: هذا أنشفهما للعرق).
- 2 -
وسار عمر حتى نزل الجابية في وسط الشام التي غلب عليها هرقل، ولكنه دخل الجابية كما دخل أيلة. قدم (على جمل أورق تصطفق رجلاه بين شعبتي رحله بلا ركاب. وطاؤه كساء أنجاني ذو صوف، هو وطاؤه إذا ركب، وفراشه إذا نزل. حقيبة ممزقة أو شملة محشوّة ليفا هي حقيبته إذا ركب، وسادته إذا نزل، عليه قميص من كرابيس. الخ)
وجاءه رجل من اليهود، وكان اليهود يرقبون رَوح الله بأيدي العرب، ويدعون الله أن يفرج كربهم ويذهب عنهم جبروت الروم بأيدي المسلمين. قال اليهودي: السلام عليك يا فاروق، أنت صاحب إيليا، لا والله لا ترجع حتى يفتح الله إيلياء
وأقبل وفد بيت المقدس إلى الجابية فصالحوا، وكُتب لهم عهد شهد فيه خالد بن الوليد وعمر بن العاص وعبد الرحمن ابن عوف ومعاوية بن أبي سفيان. وأعطوا الأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وألا يُكره أحد على الدين أو يضّار في شيء
وأزمع أمير المؤمنين المسير إلى بيت المقدس فإذا فرسُه يتوجّى فأتى ببرذون فركبه ومشى البرذون مشيته فأسرع وهزّ راكبه فرأى عمر فيها خيلاء فنزل وضرب وجهه وقال: لا علّم الله من علّمك، هذا من الخيلاء
- 3 -
دخل عمر بيت المقدس لا مدمراً مخرباً كما دخلها بختنصر، ولا مضطهداً أهلها كما دخلها الرومان من قبل، ولا مزهواً بفتحه كما دخلها هرقل قبل عشر سنين بعد أن غلب الفرس على الشام، ولكنه دخل رافعاً لواء التوحيد والعدل والأخوة العامة والمرحمة الشاملة. دخل المدينة فسار إلى المسجد ليلاً ومضى إلى محراب داود فصّلى فيه. وطلع الفجر بعد قليل ودوّى الأذان في أرجاء المدينة المقدسة للأول مرة - صيحة الحق في أعقاب الباطل المهزوم ترفعها تباشير الصبح في أخيرات الظلام. وشهد الله لقد كانت فاتحة الخير والسلم والكرامة لبيت المقدس ومن فيه. وقرأ عمر في الركعة الأولى سورة (ص) وسجد حين قرأ آية السجدة: (وظن داود إنّما فتناّه فاستغفر ربّه وخّر راكعاً وأناب). ثم قرأ في الركعة الثانية أول سورة الإسراء - سورة بني إسرائيل وفيه وصف ما أصابهم على يد البابليين
ثم تقدم إلى الكناسة - الكناسة التي تراكمت على البيت حين أُخرب وهجر والتي عجز اليهود أنفسهم عن إزالتها حين ملكوا أمر البيت - تقدم إلى الذلة المكدّسة على الحرم - تقدم عمر ليزيلها عن البيت كما أزال عن أهله الظلم والقسوة. تقدم أمير المؤمنين وجثا وقال: (أيها الناس اصنعوا كما أصنع وجثا في فرج من فروج قبائه)، وإنما فعل عمر ما فعل تكريماً للبيت وتطهيراً وإيذاناً بهذا العهد عهد الطهارة والكرامة
وكبر كعب الأحبار وكبر الناس معه. قال عمر: ما هذا؟ قال: كبّر كعب وكّبر الناس. قال عَليّ به. فقال كعب: (يا أمير المؤمنين إنه قد تنبأ بما صنعت اليوم نبّي منذ خمسمائة سنة. فقال: وكيف؟ فقال: إن الروم أغاروا على بني إسرائيل فأديلوا عليهم فدفنوه؛ ثم أديلوا فلم يفرغوا له حتى أغارت عليهم فارس فبغوا على بني إسرائيل، ثم أديلت عليهم الروم إلى أن وليت، فبعث الله نبياً على الكناسة فقال: ابشري أوري شلِم! عليك الفاروق ينقّيك مما فيك. أتاك الفاروق في الجندي المطيع، ويدركون لأهلك بثأرك في الروم)
لقد لبث اليهود خمسمائة سنة ينتظرون أن تطلع شمس الإسلام، ويأتي الفاروق ليحثوا التراب في قبائه ويأمر الناس بتطهير بيت المقدس
وما فقدوا رعاية الإسلام من بعدها، إلا تسعين عاماً غلب فيها أهل الصليب فأصاب البيت المقدس ما أصابه حتى أسترجعه رجل من رجال المسلمين، ملك يتشبه بعمر بن الخطاب في الإشادة بعدل الإسلام ومرحمة الإسلام. رحم الله صلاح الدين يوسف ابن أيوب
ولكن بني إسرائيل حين رأوا الزمان ينيخ على المسلمين بكلكله لم يأتوا عوناً للعرب والمسلمين، ولم يذكروا فضل الإسلام ولا حفظوا يد عمر، ولا اعترفوا برعاية المسلمين وحمايتهم ثلاثة عشر قرناً، بل جاءوا يجزون الحسنة بالسيئة، ويعينون الخطوب على الذين دفعوا عنهم الخطوب، ويناصرون الأعداء على الذين أنقذوهم من الأعداء، ويمالئون الذين دفنوا بيت المقدس على الذين رفعوا عنه التراب والرجس والهوان
وليت شعري ماذا ينقمون من المسلمين والعرب؟
(يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إلا أن آمنّا بالله وما أُنزل إلينا وما أنزل إليكم)؟
(يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم وإياي فارهبون)
عبد الوهاب عزام