مجلة الرسالة/العدد 297/في غار حراء

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 297/في غار حراء

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 03 - 1939



مهبط الرسالة

للأستاذ محمود الخفيف

أَيْنَ مِن قَدْرِكَ جُهْدُ الشُّعَرَاءْ ... يا قَرينَ الطُّورِ فِي نَجْوَى السَّماَءْ؟

أّشْفَقَ الشِّعْرُ، وَكَمْ رَاوَدْتُهُ ... فَجَرَى كالصُّبْحِ بَسَّامَ الرُّؤَى

زَاهِرَ الضَّفّةِ رفَّاف الرُّواءْ

طَابَ للسَّامِرِ يا شِعْرُ النّشيِدْ ... وهَفَا المِزْمَارُ لِلَّحْنِ الْجَدِيدْ

هَاتِ ياَ شِعْرُ حَدِيثاً طالما ... مَلأَ الأعْصُرَ وحْياً وَمَشَى

مِلْءَ سَمْعِ الدَّهْرِ لَحْناً وحُدَاءْ

هيه. . . صُغْ لحنَكَ في أُمْ القُرَى ... أُعْبُرِ الأجْيَالَ واطْوِ الأعْصُرا

اِقطَعِ البيدَ إلى مُنْعَزَلٍ ... التَقَتْ فِيهِ السمواتُ العُلَى

مَرَّةً بالأرْضِ في غارِ حِراء!

غَنِّناَ عَنْ شَاهِقٍ عالي الْجَبِينْ ... تَتَمَلاّهُ عُيونُ الَّناظِرينْ

هَرَمِيّ نازِعٍ مُستَشْرِفٍ ... للسَّموَاتِ، مَنيع المُرْتَقَى

للعلى رَمْزٌ وللْحَقِّ لواء

جَبَلِ النُّورِ الوضِيءِ النَّسَبِ ... لقَبٌ يا حُسْنَهُ من لقَبِ!

أين في الأرْضِ مَكَانٌ مِثُلهُ ... بَيِّنَاتُ الله فيه واُلهدَى

لَمَعَتْ فانجَابَ في الكون العماء؟

مَهبْطُ النُّورِ على هذا الوجودْ ... مُرْتَقى أوحى له مَعْنَى الصُّعودْ

شَدَّ ما يَمْلأَ نَفسِي سِحْرُهُ ... ولكَمْ تَلْمَحُ روحي من رُؤَى

ومَعَانٍ عَبْقَريَّاتٍ وِضاءْ!

هَاتِ ألحانَكَ عِنْدَ اَلْجَبَلِ ... غَنِّ يا شِعْرُ بهِ لا تُجْفِلِ

امتَلِئُ مَا شِئتَ مِن رَوْعَتِهِ ... إلتَمسْ وَحْيَكَ في هذا السَّنّا

وتَرنّمْ، يَحْلُ يا شِعْرُ الغناء

هَاتِ. حَدِّثنَا عن الرَّاعي الأمينْ ... ذلك الأُمِيِّ، عند الأرْبَعِين ذلك الأمِيِّ من عَلّمَهُ. . . ... غنِّ في بيدائه كيف اهتدى

واجتلى في الأرضِ آياتِ السماء؟

ياَ رِمَالَ البيدِ هذا جَاهِدُ ... هادِئُ النُّظْرَةِ ماضٍ صَاعِدُ

يا رِمَالَ البيدِ كَمْ شاهَدْتِهِ ... يحملُ الزّادَ ويمْضِي؛ هل رأى

حَوْلَهُ غَيْرَ الرَّواسي والفَضَاءْ؟

يَهْمِسُ الرُّعْيَانُ. . . ما يَشْغَلَهُ ... أيُّ أمْرٍ حَازِبٍ أذهَلَهُ؟

شاحِبُ الوَجْنَةِ لا مِن عِلّةٍ ... مُطْرِقٌ هَامَتَهُ، واني اُلخْطَى

طَالَ فِي اللهِ بِهِ عَهْدُ الرَّجاءْ

يا لهذا العَرَبِيّ الصَّائم ... ابْنِ عَبْدِ اللهِ، أزكى هاشِمِ

بَلَغَ الغارَ فألقى زَادَهُ ... يا لهُ من لا غِبِ طَاوِي الحشا

أكثرُ الزّادِ لهُ تَمْرٌ وَمَاء!

يا نجومَ اللّيْلِ أَضْنَاهُ المَّهَرْ ... لم يَنَلْ مِن طَرْفِهِ طولُ النّظَرْ

هَلْ أتَى مَكّةَ ما أرَّقَهُ؟ ... حَسْبُهَا مِن لَيْلهِاَ طِيبُ الكَرى

يَغْرقُ السُّمَّارُ فيه السُّعَداء!

إيه شمْسَ الصُّبْحِ، يا نورَ الأزَلْ ... هَلْ جَلاَكِ اللاّتُ يومًا أو هُبَلْ؟

اسألي مكّةَ عن أَصْنَامِها ... اسألي السَّادَة في أمِّ القُرَى

عن تماثيلَ لها حَقُّ الوَلاَء!

حَدِّثِي يَا شَمسُ عَنْ أَنْصَابهَا ... وأُولي الغَفْلَةِ من أصَحابِهَا

حَدِّثي عن ظلْمَةِ الْعَيْشِ بِهَا ... وعن الشَّحْنَاَء فيها والخنا

وَذَوِي الفُحْشِ بها واُلْخَيلاَء

تُؤثِرُ اللّيْلَ عَلَى الصُّبْح اتجاها ... كَهْلُهَا يَسْبِقُ في الشّرِّ فَتَاهَا

بَلْدَةٌ كَمْ غَرَّهَا باَطِلُهَا ... لَيْسَ في شِرْعَتِهاَ إلا الهَوى

شِرْعَةِ الجورِ ودين السُّفَهَاءْ

لاذَ بالوَحْدَةْ في عُزْلَتِهِ ... ذلك الواحِدُ في نَشْأَتِهِ

ذَلِكَ المُفرَدُ مِن أيَّامِهِ ... ما دعا داعي الصِّبَا إلا أّبَى وَتَوَلّى وهْوَ موفورُ الإبَاء

كَمْ يُعَانِي اليَوْمَ مِمَّا يَحْمِلُ ... لاَذَ بالغَار فِفيِه اَلموْئِلْ

هَاجِسٌ في نَفْسِهِ يَشْغَلُهُ ... يَنْسَخُ الْيَأْسَ بهِ لَمْحُ المُنى

سَاَعَةً ثم يُغَشِّيهِ اَلخْفَاءْ

يَا لَعَانٍ يَعْظُمُ الكَوْنُ لَهُ ... كَمْ يَرَى الرَّهْبَة فيما حولَهُ

كَمْ لَهُ في صُبْحِهِ إذ يَنْجَلِي ... ثمَّ في اللّيْلِ إذا اللّيْلُ سَجَا

من يقين وجَلاَء واهْتِداءْ!

هَذِهِ الأفْلاَكُ من يُمْسِكُهَا ... في الفَضَاءِ الرَّحْبِ من يُسْلِكهَا؟

والرَّواسي الشُّمُّ من شَيَّدَها ... من دَحا الأرضَ ومن ساق الحيَا

فَسَقَى التُّرْبَ بِهِ حَيْث يشاء؟

مَنْ لهذا السَّاجِدِ المُقْتَرِبِ ... هَلْ تَلَى في أمْسِهِ من كُتُبِ؟

هَلْ بنتْ أُمُّ القُرَى مَدْرَسَةً؟ ... مُنْتَهَى ما عَلِمَتْ تِلك الدُّمَى

يَتَمَلاّهَا بنوها النُّجَبَاءْ!

مَنْ لَهِذا الفَرْدِ في بَيدائِهِ ... بِرُؤى العَالَم أو أنباَئِهِ

هَلْ أَتَاهُ نَبَأٌ عَن فَارِس ... هَلْ عَن الشّامِ ومِصْرٍ من نَبا

وعن الرُّومِ وأرْضِ اُلحْكَمَاءْ؟

ضَجَّ بالعُدوان ذاك العالَمُ ... ما يرُى هَادٍ له أو عاصِمُ

الهداياتُ بهِ حائرةٌ ... والضَّلاَلاَتُ به استشرت فما

يَفهَمُ الرَّحْمَةَ إلا الضعفاء!

باتَ ما طافَ به من قَبَس ... في ظَلاَمِ الأرضِ كالْمُحْتَبِسِ

يا لَها مِن شُعلة خابيةٍ ... غَرقَتْ أو أوشكت فيما جرى

من دموعٍ هاطِلاَتٍ ودِمَاء!

لَوَت الشُّعْلَةَ عن وِجْهَتهِاَ ... أُمَمٌ ثارَتْ على وَمْضَتِها

ضَرَبَ الغَيُّ على آذانِها ... واشتَرَت بالحقِّ والنُّورِ العمى

فَتغَشَّتها دياجير الفناء طابَ للأمِّيِّ في الغارِ المُقَامْ ... ليس يثنيه سُهَادٌ أو صِيامْ

للِسَّموات العلى مُستَشْرِفٌ ... في دُجى الليل وفي نورِ الضَّحَى

ضارِع لِله موصولُ الدُّعاءْ

سَابحٌ في الملكوتِ الدائِمِ ... وَاَلجْلاَلِ المُستفِيضِ القَائم

مُطْلَقُ النَّفْس رَضِيٌّ آمِلٌ ... صُوَرُ الحقَّ بهذا المُجْتَلى

أمَدَّتْهُ برَوْحٍ وانتشاء

رَوْعَةُ التَّسبِيحِ في نَظرَتِهِ ... وَجَلالُ الحقِّ في مُهْجَتِهِ

سَاجِدٌ لله يرجو وَجْهَهُ ... صَابِرٌ مُرْتَقِبٌ جَم الرَّضا

خاشِعُ المحَبةِ مَصدوق الولاء

طاف بالرعْبِ على مَضجِعِه ... هَامِسٌ يَهْمِسُ في مِسْمَعِهِ

يا له الله! أرؤيا نائم ... ما له يَسْمَعُ لكن لا يرى

حوله إلا هواءَ أو هباء؟

إنها الشعْلةُ جاءت من جديدْ ... للِوَرَى فيها طَريفٌ وتَليدْ

هَبَطَ الغَارَ بها الرُّوحُ الأمين ... سَاقَهَا اللهُ لِطَهَ المُصْطَفَى

ابنِ عبدِ اللهِ خَيْرِ الأنبياءْ

قَبَسُ اللهِ العلي الأكْرَمِ ... (عَلْمَ الإنْسَان ما لم يَعْلَمِ)

قَبَسُ الله الذي أوحى له ... ظَلَّ يرجو نورَه حتى انجلى

رائعَ الإشراقِ وهَّاجَ الضياء

هلَّ نورُ الله في أعلى الجبل ... أّبْشِري يا أرضُ قد هَلَّ الأملْ

حَمَلَ ابنُ البيدِ ما أُلْهِمَهُ ... وَمَشى الراعي رسولا للورى

يرفع الشُّعْلَةَ من بَعْدِ انطفاء

ياَ رِمَالَ البيد قد جَاَء البَشيرْ ... نَزلَ الدَّاعي إلى الحقِّ النَّذِيرْ

انظريه. . . نوره بين يَدَيهِ ... أَيُّ نُور مِثلَ هذا أومضا

أيُّ قَوْل حَارَ فيه الفصحاء؟

غَمَرَ النُّورُ جباه الصَّابِرِينْ ... وَتمَشَّى بين أيدِي الفَاتحينْ مِنْ رُبُوع الْهِنْدِ لِلأّندَلُسِ ... أّلْهَم النَّاسَ الْعُلاَ أَنّى مَضى

فَهُمُو فِي الدِّينِ والدُّنياَ سواء

الخفيف