مجلة الرسالة/العدد 297/بين مصر وإيران
مجلة الرسالة/العدد 297/بين مصر وإيران
لِلأديب محمد فهمي عبد اللطيف
الترابط بين الأمم والشعوب ضرورة اجتماعية، تقتضيها طبيعة الوجود، والرغبة في التعاون والمنفعة. وإن الأمم لتأخذ لهذا الترابط بأسباب مختلفة، وتقيمه على اعتبارات متباينة؛ فهي مرة تقيمه على الأغراض المشتركة، والآمال المتفقة، والمذاهب المتماثلة؛ ومرة تدعو له باسم الوشائج الجنسية، والروابط العصبية؛ ومرة تَشْرعه بدعوى العلم والحضارة والصالح العام؛ وفي هذا العصر يتخذه القوم وسيلة لسد المطامع، والجشع الاستعماري، وفرض السلطان على الشعوب الضعيفة؛ وهم في كل هذا يوثقون له بالمعاهدات والمحالفات والمشارطات والمؤتمرات تقام ثم تنفض، وقد ملأ القوم الدنيا بالخطب الرنانة، والوعود الخلابة، والرغبات التي ظاهرها الرحمة للإنسانية، وباطنها الويل كل الويل للإنسانية.
وكل هذا باطل في منطق الحق، وكذب على طبيعة الوجود، وإن صح في خسيس من المذاهب رجس كما يقول أمير الشعراء. وإن التاريخ ليخبرنا بوقائعه وتجاريبه بأنه ما وثق بين الأمم والشعوب مثل تبادل العواطف، وما وثق في تبادل العواطف مثل المصاهرة: تلك الفضيلة الاجتماعية التي جعلها الشرع الإسلامي صلة من صلات المودة والألفة والاتحاد، وأنزلها منزلة القرابة العصبية واللحمة في النسب، فقد حرم على الشخص أن يتزوج بأم زوجته أو بأنثى من فروعها وأصولها. كما حرم عليه أن يتزوج بأمه أو بأنثى من أصول نفسه وفروعه، وكذلك حرم على زوجته الاقتران بأحد من أصوله أو فروعه، فكأنما أنزل الله كلاًّ من الزوجين منزلة نفس الآخر حتى أنزل فروع كل منهما وأصوله بالنسبة إلى الآخر منزلة أصول نفسه وفروعه. وهذا برهان يقيمه لنا الشرع الحكيم على أن الاتصال بطريق المصاهرة مساو لنفس القرابة النسبية في الأحكام والحقوق والألفة والاحترام.
على هذا الاعتبار القويم تتخذ الأمم الرشيدة من المصاهرة رابطة مودة، وواسطة سياسية، وعلاقة تامة يكون بها التعاون والرغبة في الإفادة والخير؛ بل على هذا الاعتبار جرت عوائد الأمم في الأزمنة الغابرة، فكانت القبائل والعشائر تتصاهر إذا أرادت أن تدخل في ميثاق يكون به المعونة على دفع الشر وجلب الخير؛ ولو أن دماء سفكت بين قبيلتين، وعداوة تمكنت بين أمتين، حتى ملوا مقارفة النزال، وكلوا من مقارعة النضال، ورغبوا في الأمن والطمأنينة والسلام، لم يجدوا وسيلة تقطع دابر العداوة فيهما، وتوثق روابط المحبة بينهما، إلا أن تتصاهر القبيلتان فتصيرا كأسرة واحدة، وتدخلا في عهد جديد تتوحد فيه المشاعر والعواطف، وتصح به الهمم والعزائم، وتقوى الرغبات والآمال
وعلى هذا الاعتبار الذي تقتضيه الطبيعة، وتشير به الشريعة، وتقره وقائع التاريخ، تقوم اليوم الصلة بين شعبين كريمين: بين مصر ذات المجد الخالد، وإيران صاحبة التاريخ التالد. والصلة بين مصر وإيران صلة قديمة منذ العصور الغابرة، فالتاريخ يحدثنا بأنه لما ظهر (كورش) مؤسس الإمبراطورية الفارسية العظيمة، فاندفع في الغزو والاستعمار حتى استولى على ليديا وميديا وآسيا الصغرى وتوغل شرقاً إلى شواطئ السند، خشيت الدول بأس الفرس، وعقدت ضدهم تحالفاً ضم بابل وليديا ومصر وبعض ولايات الإغريق، فنهض (كورش) العظيم للانتقام من الدول المتحالفة، فأعاد ليديا لطاعته، وفتح بابل من جديد، ثم مات وفي نفسه الرغبة في غزو مصر!
فلما تولى من بعده (قمبيز) عمل على تنفيذ الرغبة، فجاء بجيش جرار إلى مصر، وكانت مصر منيعة بالتحصين، ويقول مؤرخو الإغريق أنفسهم: إن أحد الجنود اليونانيين خان المصريين فدل الفرس على أسهل الطرق في اقتحامها، وبهذا استطاع (قمبيز) أن يفتح مصر بعد مقاومة شديدة، حتى لقد أسر ملكها (ابسماتيك الثالث)، واشتط في معاملة المصريين، فأذاقهم ألواناً من القسوة الحنق، وهزئ بديانتهم فهدم المعابد والهياكل، وقتل بيده العجل أبيس في أحد الاحتفالات الدينية
فلما تولى (دارا الأول) أراد أن يصلح ما أفسده (قمبيز)، فزار مصر، وأبدى احتراماً عظيماً لديانات المصريين ومعبوداتهم، حتى لقد شيد هيكلاً فخماً بواحة سيوة لمعبودهم آمون، وبنى كثيراً من المدارس ودور العلم، وعضد التجارة ففتح الخليج الموصل بين النيل والبحر الأحمر، وأصلح طريق قِفْطْ المار بوادي الحمامات، وعلى الرغم من هذا كله فقد انتهز المصريون الفرصة في هزيمة (دارا) مع الإغريق في موقعة (مرتون)، فخرجوا على طاعته، واستردوا استقلالهم بزعامة أمير من الوطنيين، ولكن الفرس عادوا إلى غزو مصر ثانية في عهد ملكهم (إجزرسيس)، فقابلهم المصريون بالثورة والتمرد. وهكذا ظل الفرس على الرغبة في استعمار مصر، وظلت مصر في الثورة على هذه الرغبة حتى جاء الفاتح العظيم الإسكندر الأكبر فطوى مصر وفارس فيما طوى من الأمم والشعوب
تلك هي صلة مصر بفارس في التاريخ القديم، وهي كما ترى صلة الفتح والاستعمار، ورغبة السيطرة وبسط النفوذ. فلما كان مطلع التاريخ الحديث اتصل المصريون بالفرس اتصال محبة ووفاء واحترام، فتمكن الود بين السلطان الغوري والشاه إسماعيل الصفوي على دفع الخطر العثماني الداهم، فسمح الغوري بأن يمر بطريق الشام الوفد الذي أرسله الشاه إلى البندقية لعقد محالفة على محاربة العثمانيين، ولما زحف السلطان سليم الأول على بلاد الشاه وأراد أن يكتسح فارس بأجمعها، وجد الشاه قد أتلف كل ما خلفه في المدن والقلاع من المئونة والذخائر، فأرسل السلطان سليم في طلب المدد والزاد من بلاده، ولكن قبائل التركمان وإمارة الغادرية التابعة لمصر أغارت على قوافله ومنعت وصولها إليه، فقلت الأقوات في معسكره، واضطرب الأمر في جيشه، وحرم لذة انتصاره، فأسرها السلطان في نفسه، وكانت مما تعلل به في غزو مصر وضمها إلى خلافة آل عثمان
واليوم ترتبط مصر وفارس برباط المصاهرة الكريمة، أعني رباط القرابة والنسب، والود والألفة، وإنه لوضع ثابت في الاختلاط بين الشعبين، وعهد جديد في التعاون بين الأمتين الخالدتين، وميثاق صريح صحيح يؤكده دعامتان: (دين) يوحد بيننا في المشاعر والأفكار والعواطف والميول والأخلاق والعادات، (وثقافة) مستمدة من تعاليم الإسلام، وسياسة القرآن، وكل ما خلف العرب من أفانين العلوم والمعارف. والدين والثقافة عند علماء الاجتماع هما أهم المبادئ التي تحفظ كيان الأمم، وأقوى العناصر في تكييف حياتها ورقيها. أليس بفكرة الإسلام وحدها استطاع محمد صلوات الله عليه أن يجمع شمل تلك القبائل المتفرقة المتخاذلة، وأن يخلق منهم تلك الدولة العظيمة التي دوخت العالم، وتبوأت أرفع مكان في التاريخ؟!
ولاشك أن الشرق اليوم هو اللقمة السائغة التي يتقابل على التهامها أمم الغرب، ولاشك أنه لا طاقة للمسلمين بدفع هذا الخطر ولا قائمة لهم إلا بتبادل الشعور والعواطف، وإحكام الروابط والصلات، والرجوع إلى وحدة إسلامية لا مناص من الرجوع إليها كما يقول أستاذنا المراغي. ولاشك أن هذه الصلة الوثيقة بين مصر وإيران، قد قربت الوصول إلى تحقيق هذه الوحدة، وستكون إن شاء الله طالع سعد للإسلام والمسلمين، وتوثيقاً لعرى القومية بين أمم الشرق التي هدها نفوذ الغرب وجشعه، وأنهكها طول التفرق والانقسام.
أميرة مصر وأمير إيران يقترنان. . . ألا إنه لبراعة استهلال للعام الجديد، وطائر يمن للشرق والإسلام، ورغبة أمتين كريمتين في الخير والمحبة، ثم هو صلة بين قلبين طاهرين، وعاطفتين نبيلتين، نسأل الله أن يحوطه برعايته، وأن يقرنه بالسعادة والبركة، وأن يحقق به الآمال والرغبات، وأن يجعله وسيلة الخير والسلام لغاية الخير والسلام
محمد فهمي عبد اللطيف