مجلة الرسالة/العدد 293/الشيخ محمد رفعت
مجلة الرسالة/العدد 293/الشيخ محمد رفعت
من الوجهة الفنية
للأديب محمد السيد المويلحي
أكبر الظن أن القراء سيعجبون ما وسعهم العجب، ويدهشون ما مكنتهم الدهشة لأننا نعتبر الأستاذ الشيخ محمد رفعت المقرئ المعروف بل سيد قراء هذا الزمن - موسيقياً قبل أن نعتبره مقرئاً. ولكنهم لو علموا أن الأستاذ موسيقي بفطرته وطبيعته وأنه يزجي إلى نفوسنا أرفع أنواعها، وأقدس وأزهى ألوانها، لكفوا أنفسهم مؤونة العجب والدهشة. . . لو علموا أنه (بصوته) فحسب يأسرنا ويسحرنا دون أن يحتاج إلى (أوركستر) يشد أزره ويهيئ الأذهان لفنه ويرسم الطريق لصوته، للمسوا موضع الإعجاز في فن هذا الرجل العجيب. وليتصور كل منا مطرباً أو مطربة يغني أو تغني دون مصاحبة (تخت) ماذا يكون، وماذا تكون. . .؟؟
إن البعض يستتر خلف هذه الموسيقى لتضفي عليه لوناً من الحسن والقبول، ولكن أستاذنا لا يعتمد إلا على نبرته اللامعة، وصوته الملائكي الحنون، وفنه المرهف، وأسلوبه المقتدر المبتكر. .!
(محمد رفعت). . . اسم يخطه القلم بسهولة وبساطة وسرعة فما إن يخط. . . حتى يهيئ للأذهان جواً غير الجو الذي كانت تعيش فيه. . . جواً من النور تسبح فيه أطياف الملائكة، وتغرد فيه بلابل الجنان، ويعطره أريج شذى ندى نقي. جو القرآن الكريم، المرتل، المفسر، الذي تخشع له القلوب، وتخضع له النفوس، وتؤسر له الأرواح مهللة مكبرة، جو الصفاء والنقاء الذي يتخلص فيه الإنسان من أدرانه وأوضاره، وشروره وآثامه. الجو الذي تصفو فيه الروح لتحلق في سماء قدرة الله ورحمته وحنانه، الجو الذي يخضع له العاصي، ويخشع له المتكبر المتجبر الذي يظن أنه كل شيء وما هو بشيء أمام جبروت الله وكبريائه.!!
صوت تبارك من خلقه وصوره، وخصه بهذا السحر الذي ينشر ألويته، ويرفع بنوده فوق ملايين البشر في أنحاء العالم الفسيح.
صوت لم يخلق الله مثله في لونه ونوعه، كما لم يخلق - جل شأنه - بصمتين متشابهتين، فجاء فريداً وحيداً غنياً بكل ما في الفن من قدرة واقتدار. . .!!
يقول البعض أنه ضعيف (ضيق الحجم) لا يستطيع أن يظهر في المجتمعات المحتشدة، ونقول لهذا البعض إن الجمال لا يتوقف على القوة والشدة، والارتفاع. فالحمار كبير والبلبل صغير والفرق واضح بينهما. .!
يتكون صوته من ديوانين ونصف (18 مقاماً) تقريباً. ديوان (بريتون) وديوان (تينور) ثقيل ونصن ديوان (تينور) خفيف ويمتاز (باستعارته) التي لا يستطيع أن يحاكيها إلا كل صوت سليم قوي. . .
استعارة تزيد على الديوانين والنصف بنصف ديوان تقريباً. فهو كما نرى صوت سليم قوي وإن كان صغيراً في حجمه. . .
أنبل ما في هذا الرجل السامي تواضعه الجم وحياؤه الإيماني، تواضعه الجم مع أن عرشه من فلذات القلوب والأرواح ومع أن جمهوره يزري بجمهور أكبر مطربينا ومطرباتنا لا في مصر وحدها بل في بقاع العالم المترامي، لا من المسلمين فحسب بل من جميع الملل والأديان. . .
أعرف تاجراً كبيراً (مسيحياً) في الموسكى لا أمل له ولا سلوى إلا سماع رفعت. وأذكر في هذا الصدد أن ابنته - وهي متزوجة - كانت على شيء من التعصب فأتلفت (الراديو) عمداً حتى لا يتأثر والدها فيغير عقيدته - كما صور لها الوهم - فلما علم بالأمر طردها هي وزوجها وأولادها من بيته، ثم اشترى آلة جديدة ليرضي روحه من فن رفعت العالي، وقرآنه المرتل المفسر! والقس (م. ع) الذي أسلم في العام الماضي لم يسلم على يد واعظ أو عالم، وإنما أسلم على (صوت) رفعت وحسن ترتيله، وسحر تأثيره.
لو أتيح للقراء أن يذهبوا إلى - الشام - لعلموا أن رفعت هناك مقدس، إذا قرأ سكنت الأصوات وانقطعت الهمسات، وعم السكون، وامتلأ الجو كله تأثراً وخشوعاً ونوراً، فكل بيت وكل فرد يتمنى أن يجود بكل ما يملك حتى يسمعه دواماً.
هذا الرجل وهذه منزلته ومكانته يأبى أن يلقبه المذيع بكلمة (الأستاذ) لأن بعض المقرئين طالبوا أن يلقبوا هم أيضاً كما يلقب فرفضت المحطة فتنازل عن لقبه حتى لا يتألم إخوانه!
تقواه مضرب المثل، وكرمه يشمل الجميع. يعتقد أن توفيقه من الله وحده لا من صوته ولا من فنه؛ لهذا يخلص له الإِخلاص كله. فإذا قرأ، قرأ بخشوع وفهم لما يقول. يعينه على ذلك إلمامه ببعض علوم العربية وعلم القراءات.
لم يتعلم الموسيقى على معلم ولا في مدرسة، بل ربى نفسه بنفسه، وله في أذنه الموهوبة خير ضمان. وقد عوده الله أبداً أن ينصره ويوفقه، ويجمع حوله القلوب. . .
قد يدهش القارئ إذا علم أن بعض إخوانه يحاربه ويشيع حوله الشائعات المختلفة التي بلغت مرة درجة (الموت)، وقد يدهش أكثر إذا علم أن محطة الإذاعة (لسبب مجهول) تشايع من هم دونه في كل شيء فإذا سألته: ولم لا تظهر هذا للملأ. . .؟ قال: (عودني الله أن يوفقني أبداً. فماذا يصنع العبد أمام إرادة خالقه. . .؟!)
كما أن للورد أريجه، وللماس بريقه. . . فللأستاذ (رفعت) سحره الآسر، وأثره الساحر، وسيبقى اسمه متألقاً ساطعاً في سماء الخلود. . .!!
محمد السيد المويلحي