مجلة الرسالة/العدد 292/رسالة الفن
مجلة الرسالة/العدد 292/رسالة الفن
الفن الأمريكي
النحت والتصوير
للدكتور أحمد موسى
أما النحت فلا يرجع لأكثر من القرن الثامن عشر. على أن ما هو جديد بالفحص والدرس منه لا يعود إلا إلى منتصف القرن التاسع عشر؛ لأن ما تم عمله منذ تلك الفترة يمكن اعتباره مقياساً صادقاً لمدى ما وصل إليه النحت الأمريكي
وأول من يمكن ذكره من رجال الفن في (الدنيا الجديدة) رجلان هما باورز نالا في بلدهما درجة من التقدير. وقد سافرا مبكرين إلى روما للمشاهدة والمعرفة، والتقيا هناك بكل من كانوفا وثوروالدسين المعاصرين لهما واللذين كانا من رجال النحت المعروفين. فشاهدا في روما واقتبسا الكثير مما فيها ومن رجال الفن الذين لم يتلقوا على مدرس أو أستاذ مع هذا أنتجوا إنتاجاً يستحق الاعتبار كرافورد وأراسموس يالمر
وكان المسلك الذي سار عليه باورز متأثراً بفن (عصر النهضة) الإيطالي والفرنسي، ولكنه مع هذا انتمى إلى مذهب الفن الواقعي الذي تجلى في منحوتاته للأشخاص بطريقة قوية دلت على المقدرة والثقة بالنفس، فجمع بين الأناقة في الإخراج، وبين القوة التي تمكن بها من إبراز الشخصية
وبالرغم من أن الاتجاه السياسي في أمريكا كان أميل إلى إظهار الروح الوطنية عند بعض الأفراد؛ فإن فن النحت كإنتاج عالم لم يخف أثر الاقتباس الأوربي الذي إليه يرجع الأصل في خلقه
ولا يمكن أن نسجل هنا مع الإعجاب خلقاً فنياً في مجال النحت إلا لمثّالين محدثين نسبياً إلى من ذكرناهم. وأول هؤلاء الذي نأتي له هنا بصورة من إحدى تماثيله الرائعة (ش. 1). ألا وهو التمثال البرونزي لتسجيل شخصية لينكولن، فترى الرجولة والقوة والاحترام متمثلة كلها في التمثال أنظر إليه وتأمل الكيفية التي وقف بها لينكولن، وبساطة المظهر الذي ارتسم على ملابسه، ثم شاهد الموضع الأنيق للذراع اليسرى والكيفية التي بها أمسكت اليد المعطف. هذا إلى الجانب التكوين للرأس والنظرة الثاقبة التي تجلت على العينين. ولا أبدع من تلك الوقفة حيث ترى القدم اليسرى تخطو إلى الأمام؛ أما المقعد خلف التمثال فهذا وإن خرج عما نألفه الآن، إلا أنه طابع مميز ومسجل للاقتباس كما ذكرنا وثاني نحات جدير بالذكر هو وثالثهم ماكنايل. الذي نحت ما يعبر به عن عادات الهنود الحمر من (رقص الأفاعي) و (تمجيد الشمس)
وغير هؤلاء هربت أدمز الذي وضع تصميم البناء التذكاري في أوبرن، ودانيل شيستر فرنش صاحب تمثال ميلمور وتمثال المهندس المعماري هنت في نيويورك، وله أساليب خلابة في الكيفية التي أخرج بها منحوتاته التي نذكر منها تماثيل واردوبارتردج والجنرال جرانت في بروكلين
ولابد من أن نذكر على الخصوص النحات بويل ودونج الذي يعطينا التمثال (ش - 2) فكرة عنه. أنظر إلى سفوكليس، وقد بدا نحيلاً كما ينبغي لمن وصف نفسه بالجمال والشباب، وتأمل امتداد الذراعين وجمال حركة اليدين إلى جانب الرأس
ومن بين النحاتين الأمريكيين من أظهر في صدق وقوة مقدار تأثره بفن أجنبي. وخير مثل لذلك الفنان ستوري الذي عمل تمثال (أورشليم الحزينة)، وإذا نظرت إليه (ش - 3) رأيت أن التكوين الكلي للجسم والطريقة التي جلست بها (أورشليم) والتفاصيل التي تبين ثنايا الملبس كلها إيطالية.
أما الوجه وما أرتسم عليه من كآبة فقد عبّر خير تعبير عن الحزن واليأس والاستسلام وهو ما يتمشى مع المقصود من وضع التمثال. وكان كل من روجز في نفس الاتجاه متأثراً بالفن الإيطالي
أما من تأثر بالفن الألماني فكان كل من راينهارات وإيزيكيل وكايزر، هذا عدا الفنانين الألمانيين أصلاً والذين اتخذوا أمريكا وطناً ثانياً لهم، أمثال كارل بيتر وإيزيدور كونتي ويوهان جيلبرت
سار كل هؤلاء في طريقهم تحت لواء الفن الواقعي المنتمي قليلاً حيناً وكثيراً حيناً آخر إلى فن (عصر النهضة) الإيطالية والفرنسية وقد ظهر بعدئذ فن جديد في الأفق الأمريكي لا يخالف في مظهره العالم (الفن الحديث) من حيث الرغبة في التبسيط والابتعاد تدريجياً عن الضوابط والمقاييس الفنية
وهذا لا يستغرب إذا تذكرنا أن العلاقة بين العمارة والنحت والتصوير موجودة دائماً، وأن البيئة التي يتأثر بها البناء هي نفسها التي تؤثر في النحت وفي التصوير
على أننا لا نريد أن نتناول اتجاهات (الفن الحديث) أو الفن المعاصر في أمريكا بالدرس والنقد لأننا قد وعدنا القارئ بمقال خاص عنه نكتبه في فرصة أخرى
أما في التصوير فإن الأثر الأوربي ظاهر أيضاً وواضح إلى حد لا يحتاج للبراهين، فقد ارتبط فن التصوير في أول أمره ارتباطاً وثيقاً بالفن الإنجليزي، وتقدم على هذا الأساس تقدماً باهراً، فما كاد ينتهي القرن الثامن عشر إلا وقد ظهر مصوران عظيمان، أولهما وست الذي سجل موت الجنرال وولف في موقعه كوبيك تسجيلاً رائعاً. أنظر إلى المجموع الإنشائي للصورة (ش - 4) وفكر في الكيفية التي استطاع بها الفنان إظهار هذه المجموعة من الوجوه الناظرة إلى الجنرال المحتضر، وكلها تعتبر عن الأسى والحزن والجزع، ولاحظ العدد الهائل من الجنود الذي يبدو كأنه ظل في مؤخر الصورة، وتأمل إلى جانب ذلك حركة الأيدي والروعة التي تجلت في الإخراج
وثانيهما جون اشتغل كالأول أيضاً بتسجيل المناظر التاريخية والوطنية وغيرهما جلبرت ستوارت ولورينج إليوت الذي اشتهر بتصوير المناظر الشخصية!
وهكذا استمر أثر المدرسة الإنجليزية في فن التصوير الأمريكي حتى النصف الأول من قرن التاسع عشر، وبعدئذ ظهر اتجاه جديد بظهور الفنان أظهر أثر مدرسة دوزلدورف الألمانية - في الصورة (ش - 5) واشنجطون واقفاً في وسط قارب صغير ازدحم برجاله، منهم من حمل العلم الأمريكي ومنهم من اشتغل بالتجديف في ماء مملوء بالثلوج. وليس هذا المنظر مما يستهان بتصويره، فهو محتاج إلى مقدرة عظيمة ودراسة عميقة لقانون الحركة الجسمانية إلى جانب صعوبة التلوين لإبراز تفاصيل الثلج والماء المتجمد
وأعقبه الفنان اشتغل بتصوير المناظر الطبيعية التي وقعت تحت نظره. وظهر أثر المدرسة الفرنسية في أمريكا بعد انقضاء الستين أو السبعين سنة الأولى من القرن التاسع عشر، ذلك بالرغم من تأسيس جمعية الفنانين في أول يونيو سنة 1877 وإنشاء أكاديميات على نمط ما هو موجود في أوربا. وهذا يدل على أن الفن الأمريكي كان أوربيّاً في الأصل ولم يجد منهلاً صافياً يستقى منه إلا فيها
واشتغل فريق من رجال الفن بتصوير الحيوان وعلى رأسهم وبور كما اشتعل فريق آخر بتصوير المناظر الطبيعية وحدها، وأهم هؤلاء توماس وبيتر موران الذي صور لوحته الرائعة (مزاج الغروب) (ش 6 (والتي أظهر فيها انعكاس أشعة الشمس الذهبية على صفحة الماء.
وغيرهم من هو جدير بالذكر مثل وهارت وجاي. عدا من كانوا في الدرجة الثانية مما لا يتسع المجال لذكرهم
وكان الفنان شاز من الذين أجادوا تصوير الأشخاص وتسجيل المناظر الشعبية، وكنا نود أن نأتي بأكثر من صورة لإنتاجه. ولعلنا بالنظر إلى (ش - 7) نتمكن من الوقوف على جانب من مقدرته، فقد صور الشيطان يفرغ الخمر في كاس وعلى شفتيه ابتسامة السخرية وتخصص هنري كون المناظر التاريخية كما تفرغ هومر للمناظر الشعبية البحتة التي اتصل بها واندمج فيها وذلك في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل هذا القرن.
وظهر جماعة من الذين انتقلوا بخيالهم المحلي إلى خيال أوسع مدى، فمنهم من نقل صورة الحياة كما هي دون تعريج على المثل العليا، ومنهم من رسم مناظر رآها في بلاد انطبعت صورتها في مخيلته، ومنهم فريق أكثر من الأسفار، وسجل كل ما شاهدته عيناه.
ولعنا نرى في (ش 8) التي صورها بردجمان خير دليل على انتقال الخيال، لا إلى (الدنيا القديمة) بل إلى الشرق! سمى هذه الصورة (على باب الحريم) فصور مدخلاً تعلوه (مشربية) لبيت على الطراز العربي واهتم بإبراز الزخرفة والنقش كما حرص على تصوير امرأتين إلى يسار الباب، وقد جلست كل منهما تعرض ما تريد بيعه، وأمام المدخل سيدتان جاءت أحدهما على ما يظهر في الصورة راكبة حماراً وقف بالقرب منهما وبجانبه صاحبه. والمجموع إنشائي رائع لا يستطيع تصويره إلا المتمكن.
وترى على اليسار شجرة اللبخ الكبيرة وقد وقعت ظلالها على حائط البيت، وجلس إلى اليسار بعض الصبية أمام شباك الكتاب).
هذا ولا يفوتنا أن نذكر مورلروبيرس وويكس ممن ينتمون إلى المدرسة الباريسية في أوائل القرن العشرين.
أما بعد الحرب العظمى فقد سرت موجة جديدة غيرت معالم الفن القديم، سيكون الحديث عنها ضمن مقالنا الخاص بالفن الحديث.
احمد موسى