مجلة الرسالة/العدد 292/رسالة العلم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 292/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 02 - 1939



أرض تدور وإنسان يحيا ويموت

للدكتور محمد محمود غالي

الفراغ الذي تنتقل في أنحائه - الزمن والحوادث - الأرض

التي تدور - الكون مجموع العوالم - الإنسان يحيا ويموت

نبدأ الكلام عن الفراغ أو الحيز الذي نتنقل فيه، ونتكلم عن الزمن الذي يمر علينا لاتصالهما بفلسفة كل علم، وأي علم نستطيع أن نتعلمه أو فلسفة نستطيع أن نناقشها لا يكون الفراغ والزمن عاملين أساسين في دراستهما؟ هذان العاملان ظلا أساساً للعلوم من عهد المصريين والإغريق؛ فليس في وسعنا أن نتحدث عن الأرض والكون والإنسان المفكر دون أن نرجع مبدئياً إلى هذين البحرين اللذين تكتنف لججهما جميع المخلوقات: الحيز والزمن.

وسنعرض لهما في هذه الكلمة حسب الأوضاع التي ألفناها فلا نتعرض اليوم لفهمهما وفق أحداث الآراء

أما الفراغ أو الحيز فإننا نلمسه بحواسنا وندركه بتحركنا. كلنا يعلم أننا، ونحن في مكان معين، نستطيع أن ننتقل شرقاً وغرباً أو شمالا وجنوباً أو إلى أعلى وأسفل، كما نستطيع أن ندور حول نقطة ثابتة، أو نكون في حالة نلفي فيها حركتنا مجموعة من هذه الحركات كحركة شخص داخل سفينة تتأرجح فوق عباب الماء بالنسبة إلى منارة على شاطئ البحر

وأما الزمن وفق تصورنا البدائي فكلنا يعرفه ويدركه بالحوادث التي تقع لنا، فنقول: لم نر فلاناً منذ رحيله للإسكندرية، ونقدر طول غيبته بعدد من الأيام، وينشأ من ذلك أن أهم الحوادث بالنسبة لنا دورة الأرض حول محورها، فهي التي تولد الليل والنهار ويسمى مجموعها (يومياً) وقد اعتدنا تقسيمه إلى 24 ساعة، وكان من الجائز أن نقسمه إلى عشرين ساعة أو عشر، فتقسيم اليوم إلى أي عدد من الساعات عمل اعتباطي من اختيار الإنسان لا دخل للطبيعة فيه. فلو أننا اتفقنا على أن نجعل اليوم عشر وحدات جديدة تسمى كل منها احتجنا إلى إدخال أي تغيير في آلات قياس الزمن التي نسيمها (ساعة) سوى تغيير في تقسيم ميناء الساعة أما دورة الأرض حول الشمس التي يتكون منها السنة والفصول فتحوي 365 يومياً وسدس اليوم تقريباً، وهذا العدد ليس اختيارياً كعدد الساعات في اليوم، وإنما هو حدث طبيعي لا نستطيع تغييره؛ فقد لوحظ أنه بمرور كل عام أي بإتمام كل دورة للأرض حول الشمس يتكون هذا العدد من الليل والنهار أما فترة الحياة للإنسان فهي تختلف لكل فرد، فليس من الميسور لنا أن نعين الذين ستنتهي حياتهم هذا الأسبوع من أهل القاهرة وإن كنا نعرف من مجموع القاهرين أنه يولد في الأسبوع القادم حوالي التسعمائة ويموت حوالي الخمسمائة. . .

ونحن أكثر إحساساً بالزمن منا للحيز، فإن الزمن يتغلغل في مشاعرنا، وفترة من الزمن أقرب لإحساسنا من مسافة في الفراغ. وقد يخطئ المرء في تقدير أو مقارنة مسافتين ولكنه لا يخطئ في إدراك وترتيب حادثين، فإذا وقفنا في ميدان الأوبرا فقد لا يسهل علينا أن نعرف أيهما أقرب إلينا: مسجد القلعة أم الجامعة المصرية بالجيزة. بل كثيراً ما يخطئ المرء في تبين الأطول من بين اثنين من أصدقائه رغم تكرر رؤيته إياهما

أما شعورنا بالزمن فلا يتسرب إليه الخطأ. فنحن واثقون أن حصولنا على تذكرة الترام حادث لاحق لارتقائنا إياه، وأن وجودنا به حادث لاحق لمبارحتنا المنزل. وإذا اشترينا صندوقاً من السجائر فمما لا يداخلنا الشك فيه أن الكتابة المطبوعة على ذلك الصندوق قد تم طبعها قبل شرائنا إياه، وعندما نذهب بأولادنا إلى المدرسة لا يكون ثمة ريب في أن حادث ولادتهم سبق بكثير دخولهم المدرسة. ويدخل عامل الزمن في التجارب العلمية، ففي مقدور العلماء أن يقيسوا فترات صغيرة جداً منه، وقد بين لي الأستاذ جييه في إحدى زياراتي له كيف نتوصل إلى قياس فترة من الزمن لا نتجاوز جزاً من خمسة ملايين جزء من الثانية. ولا متسع هنا لشرح التجارب الخاصة بهذا التحديد الدقيق على أن كل هذه الحوادث قصر أم طال مداها تتعين بأمر ثابت لنا هو: دورة الأرض حول الشمس التي نسميها عاماً.

فعندما يقول إنسان لقد مضى على إقامتي بهذه الدار ثلاث سنوات وستة أشهر، فمعنى ذلك أن الأرض في مدارها حول الشمس عادت لمكانها الأول ثلاث مرات، ولا تزال سابحة في دورة رابعة قطعت منها نصف الطريق كل الكائنات، وكل ما في الحياة، وكل شيء نستطيع أن نحس به أو نراه، يكتنفه أو يشمله هذان البحران: الفراغ والزمن. إذ لا يمكن لخيالنا وحواسنا أن تتخيل أو نستوعب شيئاً كائناً ما كان غير موجود فيهما، فهذه النملة في طريقها على هذه البقعة من الأرض تقطع هذه المسافة في الحيز ويمر عليها الزمن. وهذه الأرض التي تحمل النملة وتحملنا تقطع أيضاً في هذه الفترة جزءاً من طريقها الذي تدور فيه حول الشمس. وهذا الحجر من أحجار الهرم يشغل حيزاً معيناً وقد مضى عليه أكثر من خمسين قرناً وهو في هذا الوضع؛ أعنى أن الأرض قد دارت حول الشمس منذ وضعه أكثر من 5000 دورة، وحول نفسها حوالي المليونين من الدورات، وليس هذا عمر هذا الحجر منذ تكونه، بل هو الفترة التي مرت على وضعه بين الأحجار. أما عمره فمن تكوين الأيوسين وهو عصر جيولوجي بعيد قد ولى منذ 60 مليوناً من السنين

ولو التزمنا جانب الدقة لقلنا إننا نحن والحجر أقدم من ذلك بكثير فإن العناصر التي نشأنا منها ترجع إلى تكون الأرض التي يغلب على الظن أنها انفصلت عن الشمس؛ فكل ما نتكون منه كان موجوداً منذ تلك اللحظة التي لعلها تبعد في الزمن ألفى مليون من السنين، بل كان موجوداً قبل ذلك منذ تكون الشمس، بل قبل تكون السديم الذي نشأت منه الشمس، بل منذ كانت الخليقة. .

هذا هو الحيز حسب الإدراك البدائي والزمن وفق الوضع البسيط. ولكن تصور العلماء لهما قد تغير اليوم

في رواية تناقلها الصحف إبان الضجة التي أثارتها نظرية إينشتاين في النسبية أن ابنه سأله ذات يوم أن يوضح له تلك النظرية؛ فأجابه: إنه لو فرض جدلاً أن كائناً سيسافر بسرعة تقرب من سرعة الضوء واتفق معه مودعه أن يغيب عنه سنة فأنه لا يحق له عند وداعة على المحطة أن يقول له: إلى اللقاء! لأنه عندما يعود المسافر بعد عام يكون قد مر على الذي ينتظره مائتا عام، وبذلك يكون قد ثوى في رمسه منذ نيف ومائة سنة

هذا الوضع الجديد في الزمن والحيز الذي كان الأساس فيه معادلات لورتنز

يختلف عما عهدناه، وسنرجئ الدخول في فهمهما إلى مقال آخر

أما في هذه الأسطر فلدينا مسألة أكثر بساطة تتعلق بالأرض التي تعيش عليها والكون التي هي جزء منه

لئن كان بين الشموس ما يقرب حجمه من حجم الأرض، فإن أغلبها كبير لدرجة أن ملايين الأرض ممكن أن تدخل في أحدها وتدع مكاناً لملايين غيرها. وليس لنا أن نعجب من هذا، فلو أن قروياً لم يخرج في حياته عن بلدته لظن أن كل ما على الأرض من ماء هو من نوع الجداول والمساقي التي اعتاد أن يراها في حدود موطنه الضيق. وما أشد ما تتملكه الدهشة حين يسافر بالبحر للحجاز مثلاً أو لأوربا فإن هذه البحار التي يعبرها تحوي من الماء ملايين أمثال ما تحويه الجداول التي اعتادها

على أن ملايين الملايين من هذه الشموس تكون عالماً واحداً كعالم المجرة الذي شمسنا إحدى شموسه - ويدلنا العلم اليوم أن ملايين الملايين من العوالم تكون الكون

ينتج من ذلك أن الأرض بقاراتها ومحيطاتها هي بالنسبة للكون كشوكة من أشواك التين بالنسبة لإقليم متسع غرس فيه نبات التين، أو كقطرة من الماء بالنسبة لمجموع البحار

هذا هو مركز الأرض من الضآلة بالنسبة للكون الذي هي جزء منه. على أن هذه الملايين من الملايين النجوم تسبح في مجراها على مسافات شاسعة جداً بين الواحد والآخر بحيث يعد اقتراب واحد من حادثاً نادراً جداً

فالمسافة بين الأرض والشمس التي هي مليون مثل ارتفاع الهرم الأكبر صغيرة جداً بنسبة المسافات بين الشموس التي نتحدث عنها. ويكفي أن نعلم أنه بينما يصلنا الضوء من الشمس في 7 دقائق تقريباً فأنه يصل لنا من أقرب شمس بعد ذلك (الفاسانتور) ويسمونها (قضيب الكرم) في أكثر من أربع سنوات.

ولو أن الشمس على بعدها عنا تمثل مصباحاً في الردهة المجاورة بالمنزل فأن الفاسانتور تمثل مصباحاً في فينا أو طهران

على أن الغالب على الظن أنه أكثر من ألفي مليون سنة اقترب أحد هذه النجوم وهو في طريقه من شمسنا، وكما أن اقتراب القمر يحدث على بحار الأرض ظاهرة المد والجزر أي ارتفاع الماء في جزء الكرة وانخفاضه في الجزء المقابل؛ ويبلغ ارتفاع الماء المد قريباً من الشواطئ المصرية 30 سنتمتراً وفي الجزائر60 س م وفي فرنسا متراً أو أثنين وفي فندي في أمريكا 19 متراً و60 سنتمتراً فقد حدث في جسم الشمس مد كبير جداً يبلغ حجمه آلاف أمثال حجم الأرض كافة؛ وازداد اقتراب النجم فارتفع المد لدرجة سببت انفصال كتلة من جسم الشمس انقسمت إلى الأجزاء التسعة التي هي السيارات المعروفة وأقمارها وهي التي تدور من ذلك الحين حول أمها الشمس

ولو شخص القارئ ببصره إلى السماء في الليل لاستطاع أن يلحظ الفارق الكبير بين السيارات التسعة التي تكون مع الشمس مجموعتنا الشمسية وبين الشموس الأخرى، فإن ضوء السيارات كضوء القمر يبدو ثابتاً لاكتساب هذا الضوء من الشمس. أما النجوم فهي تتوهج كالشمس، وأثر هذا التوهج واضح على العين

أما السيارات التسعة فمنها ما هو أصغر من الأرض مثل عطارد والزهرة والمريخ وبليتون، ومنها ما هو أكبر منها مثل المشتري وزحل وإيرانوس ونبتون. وحجم الشمس يقرب من مليون وثلث مليون (1. 301. 200)

حجم الأرض بينما حجم عطارد 1005

من الأرض والزهرة 109 والمريخ 10016 والمشتري

1295 وزحل (وهو سيار يمتاز بطوق حوله) 745 مرة

وإيرانوس 63 ونبتون 78؛ أما بليتون فنظن أن حجمه 101

من حجم الأرض ولم يكتشف إلا منذ نحو سبع سنوات

ولكل سيار عدد من الأقمار تابع له يدور حوله، وليس لعطارد والزهرة أقمار. وقد أشرنا في الشكل إلى مواضع الأقمار بعلامة

وللأرض قمر واحد وللمريخ قمران، وكنا نعرف للمشتري تسعة أقمار، وقد كشف المنظار الجديد لمرصد مونت ولسون بأمريكا قمرين جديدين فأصبح عددهما 11، والمعروف لزحل حتى الآن تسعة أقمار ولإيرانوس أربعة ولنبتون قمر واحد

أما بليتون فلم يشاهد له حتى الآن أقمار.

وفي الشكل الأول تمثل الدائرة الكبرى الشمس وفيها دوائر صغيرة تمثل حجوم السيارات التسعة بالنسبة للشمس وترى مرتبة في داخلها بترتيب بعدها عن الشمس فأبعدها هو سيار بليتون إذ هو يتم دورانه حول الشمس في 252 سنة

هذه هي المجموعة التي تنتمي إليها الأرض التي تحملنا

وما شمسنا كما قدمنا إلا إحدى ملايين الشموس من نهر المجرة الذي هو عالم واحد من ملايين الملايين العوالم التي تكون الكون. ويمثل الشكل الثاني أحد هذه العوالم، وفي هذه الصورة نرى صورة ضوئية لأحد هذه العوالم وهو عالم تبدو مجموع شموسه للناظر في شكل الحلزون، ويغلب على الظن أن هذا الشكل الحلزوني لا يوجد في واقع الأمر على هذا النحو، وإنما هي ظاهرة خاصة بالعوالم البعيدة. فلو افترضنا أن في ذلك العالم البعيد كائناً ينظر إلى عالم المجرة (عالمنا) لرأى جماع شموسه في هذه الصورة الحلزونية.

وسنتكلم في المقال الآتي عن الفكرة في منشأ الحياة على أحد هذه الكويكبات وهي الأرض وعلى احتمال نشوئها كذلك على غيرها من السيارات، ونحاول على قدر الاستطاعة أن نفسر الحياة ونرى هل هي ظاهرة كغيرها من الظواهر الطبيعية مثل الإشعاع المادي والمغناطيسية أم هي أمر آخر

وقد وجدنا من الأيسر قبل أن نطرق باب الحياة ولا سيما فيما يتعلق بالإنسان أن نبدأ اليوم بوصف البيت الذي يعيش فيه قبل أن نصف صاحب الدار. وموعدنا المقال القادم

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون