مجلة الرسالة/العدد 289/رسالة العلم
مجلة الرسالة/العدد 289/رسالة العلم
أهمية نظرية التطور
نظرية التطور وقصة الخليقة
للأستاذ عصام الدين حفني ناصف
كان الناس فيما مضى يجهلون معظم القوانين الطبيعية التي تسود الكون وتحكمه، فكان المفكرون منهم يتساءلون: لم هذا اللباس من الشعر غير الكثيف يغطي جسمنا؟ لم يشبه القط النمر؟ لم كان الزنجي أسود اللون والصيني أصفره؟ لم كان الأوربي متحضراً والإفريقي غير متحضر؟ لم كان عدد صنوف الحيوانات عديداً بهذا القدر؟ لم نعثر في أعماق الأرض على عظام أسماك متحجرة؟ ولم يكن هناك من يستطيع الإجابة على هذه الأسئلة وأمثالها، وذلك لأن فكرة واحدة لم تكن قد نفذت إلى رؤوسهم، وهي: أن الأرض قد نمت هي وما عليها في مدى مئات الملايين من السنين حتى بلغت ما تبلغه الآن، وقد وصلت الكائنات إلى أشكالها الحالية ببطء شديد وبالتدريج، ومرت خلال ذاك على أشكال عديدة سابقة لهذه، فهي قد (تطورت)
تقول نظرية التطور: إن جميع الكائنات الحية الباقية والمنقرضة قد تطورت إلى أشكالها الأخيرة من أصل واحد أو بضعة أصول، فهي أذن يتصل كل منها بالآخر برباط القرابة
وقد كثرت الأدلة العلمية على صحة هذه النظرية حتى (انتقلت) كما يقول أوسبورن (من نطاق الفروض والنظريات إلى نطاق القوانين الطبيعية) ولذلك فإن (خصومها) كما يقول بلاته (مضطرون إلى مكافحتها ببراهين وحجج من غير التاريخ الطبيعي)
وليست أهمية هذه النظرية بقاصرة على كونها ضرباً من العلم والفلسفة فقد أثرت تأثيراً كبيراً على علوم مختلفة كعلم الحفريات والتشريح المقارن والأجنة والاستيطان ووظائف الأعضاء وعلم الأمراض وتاريخ الإنسان والاجتماع والنفس والفلسفة.
وللنظرية عدا ما تقدم أهمية بالغة من الناحية العلمية، ذلك أنه إذا كان التطور إلى أرقى ليس هو المصير المحتوم دائماً بل يشترط لحدوثه ظروف وشروط خاصة، فما يستحق الجهد ولاشك أن يفكر المرء ويعمل على توفير هذه الظروف والشروط، وبذلك لا يكون الإنسان سلبياً يحمله تيار الحوادث إلى حيث يساق، بل يكون سائراً بمشيئته في طريق الرقي وهو يعلم أين يسير. وهذا يجعل من السهل علينا أن نجيب على السؤال الذي كانوا يلقونه قديماً عن معنى الحياة والغرض منها، فليس الغرض منها إلا السير بالبشرية في سبيل الرقي وتوفير أسباب البهجة والتمتع لكل فرد منها
وقد طبَّق سبنسر نظرية التطور على الشئون الاجتماعية، وشرح رأيه في نشوء الضمير الخلقي عند الإنسان بما يتلخص فيما يأتي: كان الناس في أول أمرهم يرون أن الحسن هو المفيد إفادة عاجلة، ثم أظهرت التجارب أن هنالك أحياناً فائدة كبيرة آجلة تَفضُل الفائدة الصغيرة العاجلة. وقد اختُزنت هذه التجارب في مشاعر أسلافنا وذلك ما أحدث أثره في مجموعهم العصبي، وتوارثنا نحن عنهم هذه التأثيرات، فترانا نعتبر بعض التصرفات حسناً دون أن نجربه ونتثبت بأنفسنا من نفعه، وإنما أسلافنا هم الذين جربوا ذلك لهم ولنا من بعدهم، وهذه الحكمة الموروثة هي ما نسميه بالضمير، وبه نجد من دخيلة نفوسنا ما يرشدنا إلى الخير والشر. وعلى ذلك فإن حياة الفرد ونصيبه الذي قسم له في الحياة لا يبدوان عند ولادته، بل هما يرجعان إلى الماضي الذي لا نستطيع تقدير توغله في القدم
نشوء الكون
كانت هنالك مادة أولى تملأ الوجود، ومن هذه المادة نشأت السدم، وهي سُحُب من ذرات معدنية صلبة مختلفة الحجم والمعدن، ثم تطورت السدم بعد ذلك فأخذت الذرات الصغيرة فيها أو القليلة الكثافة تنجذب إلى الكبيرة أو الأكثر تركزاً، إلى أن تكونت كرات كبيرة يفصل بين كل منها والأخرى حيز فارغ واسع المدى. واتجهت الذرات الأكثر ثقلاً في كل كرة نحو مركزها، وولَّد ضغط الذرات في هذه الكتل التي يزن كل منها تريليونات الأطنان، حرارة هائلة جعلها تتقد وتتحول إلى كوكب. أما الذرات الخفيفة أي الغازات، فقد بقيت في الحافة مكونة جواً غازياً حول الكوكب. وقد حدثنا الفلكيون أن الكون الذي نعيش فيه يحوي نحو 2 , 000 , 000 , 000 من الشموس التي تشبه شمسنا، والكثير منها كواكب مثل كوكبنا الأرضي، من الجائز أن تكون مأهولة بكائنات حية، فليس ثمة ما يدعو إلى افتراض أن الأرض أنشئت على نمط خاص
أخذت الكواكب تفقد حرارتها شيئاً فشيئاً، وكان أسرعها في ذلك أصغرها حجماً، وبردت الأرض بالتدريج واتحد ما يكتنفها من أوكسجين وأيدروجين فتكون منهما الماء العذب، ثم اكتسب الماء ملوحته من إذابته لبعض أملاح الأرض وبعض أحماض أنزلها معه من الجو. واستمرت الأرض تبرد وتكونت القشرة الأرضية في النهاية ويبلغ سمكها في الوقت الحالي 80 إلى 100 كيلو متر، وقد كانت في أول أمرها متشابهة السُمك، وكان المحيط المائي موزعاً حولها بتساو، ولكن برود القشرة الأرضية أدى إلى تقلصها، فارتفعت سلاسل الجبال ونشأت تبعاً لذلك الوديان والمنخفضات، ثم استقر الماء في المنخفضات وبدأ الانقسام إلى أرض (يابسة) ومياه
نشوء الحياة والأحياء
نشأت الحياة بعد ذلك على وجه الأرض في زمن مضى عليه - في رأي بعض الجيولوجيين - 50 إلى 100 مليون سنة، وكانت الأحوال الطبيعية تختلف عما هي عليه الآن، فمياه المحيطات مرتفعة الحرارة، والعناصر المتشععة عظيمة النشاط، والمركبات الكيميائية ليست كلها على النمط الذي نعرفه، فدبت الحياة في المادة الحية الأولى (بروتو بلاسم)، ثم نشأت منها الوحدات المحدودة التي نسميها خلايا
لم تكن الكائنات الحية الأولى نباتات صرفة ولا حيوانات خالصة، ولكن البعض منها أصبح نباتا لاقتصاره على التغذي بالمواد غير العضوية التي في الأرض، وجرى البعض الآخر على افتراس ما يجاوره من الأحياء، وذلك منشأ تكون الحيوان، وقد اقتضت عملية الاقتناص أن يتزود الحيوان بأعضاء خاصة بالحركة والحس وبفم ومعدة وأسلحة ودروع فنشأت عنده هذه الأعضاء. ثم نشأت الحيوانات والنباتات العديدة والخلايا بعدم انفصال الخلايا الناتجة من انقسام خلية واحدة
ولما غاضت معظم المياه الضحلة وانسابت الأنهار السريعة الجريان هلكت الحيوانات التي لم تستطع التخلص من بطء حركتها، وتطورت أعضاء الحركة في الحيوانات الباقية فظهر السمك كالقارب الطويل مجهزاً بزعانف قوية ثم تكونت فيه السلسلة الفقرية. واكتظت الأنهار الضيقة السريعة الجريان بالأحياء فقام بينها الكفاح من أجل الأوكسجين والغذاء فذهب البعض إلى البحار العميقة وبدأ البعض سباقه صوب البر ونباتاته يقتات بما فيها من حشرات ثم يعود إلى الماء وأخذت المثانة الهوائية تتطور إلى رئتين والزعانف تتطور إلى أطراف، ونشأت الأمفيبيا كالسمندر والضفدع وهي الحيوانات التي تقطن الماء في صغرها ثم تنتقل في كبرها إلى حياة البر
واستمرت المياه في بعض الجهات تغيض شيئاً فشيئاً وأخذت الحيوانات الأمفيبية في تلك الجهات تتحول تبعاً لذلك إلى حيوانات برية ففقدت خياشيمها وقويت أرجلها ونشأت منها الزواحف كالورل والتمساح والثعبان
العصر الجليدي
وانقضى الصيف الدائم من على وجه الأرض وكسا الجليد نحو 4 ملايين ميل مربع من سطحها، تمتد من الهند إلى أوستراليا وإلى أفريقيا. وقضت هذه المذبحة الهائلة على نحو 97 في المائة من الأنواع النباتية والحيوانية فتحولت النباتات إلى طبقات من الفحم ولم يبق من الحيوانات إلا نماذج قليلة في الأقاليم الحارة هي التي نسلت ما احتواه العصر الحديث من الأمفيبيا والحشرات وغيرها. فلما ذابت طبقة الجليد بعد ربع مليون سنة بسبب انخفاض سطح الأرض في الجنوب عادت الزواحف إلى الانتشار، وكانت أوربا في ذلك الوقت غاطسة تحت الماء لا يطفو منها سوى قنن الجبال وأجزاء قليلة أخرى تبدو كمجموعة من الجزائر محاطة بحواجز من المرجان ما تزال آثارها تشاهد إلى الآن فوق الجبال. وكانت هناك قارة ملأى بالبطاح والغياض ممتدة من أسكوتلاندة إلى أمريكا (تسمى في عالم القصص بالاطلانطيس) فساعدت على انتقال الزواحف الجبارة بين القارتين
كانت إناث الحيوانات قبل العصر الجليدي تضع البيض وتتركه على سطح الأرض أو الماء فينقف من تلقاء نفسه بتأثير الحرارة، وبذلك كانت الطبيعة تتولى عمل الأم. فلما حلت البرودة أصبح الرقاد على البيض وتعهد الصغار بالعناية أمراً لا غنى عنه. ونشأ للزواحف رداء حرشفي رفيع، وأصبح جلد الأمفيبيا لزجاً كما نشاهد الآن في الضفادع، ونشأت الطيور والثدييات مزودة بقلب ذي أربع غرف يساعد في إمداد الدم بقدر وافر من الأوكسجين ليحرق وقوده فيحتفظ الحيوان بالدفء ولا تنحط حرارته مع حرارة الجو كما هي الحال في ذوات الدم البارد وهي الأسماك والأمفيبيا والزواحف. وساعد الدم النقي في الطيور والثدييات على زيادة حجم المخ وارتقائه وتمت لها السيادة في العصر الجديد. أما الزواحف الضخمة المدرعة بدروع ثقيلة فقد قُضي عليها عندما حل البرد الشديد بعد ذلك في نصف الكرة الشمالي لزوال الحرارة التي كانت تجعل بعضها ينقف دون أن ترقد هي عليه
وكان للعصر الجليدي أثره العظيم في عالم النبات أيضاً فقد انتزع سيادة النباتات الجرثومية المنحطة على المملكة النباتية، وأفسح مجال الانتشار والازدهار أمام النباتات المخروطية والنباتات المزدهرة، ولما حل الشتاء في نصف الكرة الشمالي أخلت معظم الأشجار الدائمة الاخضرار مكانها لنماذج تسقط أوراقها في الشتاء بصفة دورية فلا تفقد ما تحتويه من الماء وهي لا تستطيع تعويضه من الأرض في الشتاء
تطور الطيور والثدييات
تسلسلت الطيور من الزواحف بفضل ما حدث لها من التغايرات الملائمة ولاسيما فيما يختص بجهاز توليد الحرارة. وقد عثروا في صخور بافاريا على متحجر طائر في حجم الغراب كان يقطن أوربا قبل ملايين السنين، وهو يجمع بين خصائص الزواحف وخصائص الطير، وهذا (الطائر القديم) هو الحلقة (غير المفقودة) بين الزواحف والطيور
وحل عصر جليدي في شمال أوربا وأمريكا غطى نحو 7 ملايين ميل من سطحهما، فأرغمت الحيوانات والنباتات المحبة للحرارة على الزحف صوب الجنوب. وقد يكون البرد القارس في ذلك العصر هو منشأ هجرة الطيور المهاجرة كالسمان والعنز وعصفور الجنة كل شتاء من الشمال إلى الجنوب، كل عائلة منها إلى مكان معين تسلك إليه طريقاً ربما كانت هي الطريق الوحيدة التي عرفها أسلافها في ذلك الوقت، وعلى ذلك فليست (الغريزة) سوى العادات التي اكتسبتها الحيوانات تحت ضغط ظروف خارجية عنها
نشأت الثدييات الأولى الصغيرة الحجم في أواخر العصر الجليدي، وقد يكون منشأها في قارة تمتد حيث يوجد الآن المحيط الهندي وما حواليه، أو لعلها عبرت تلك القارة الضائعة من أفريقيا إلى أوستراليا، ثم غاصت تلك القارة تحت سطح الماء فأصبحت أوستراليا جزيرة منعزلة لا تستطيع أن تصل إليها الحيوانات المفترسة التي تطورت في باقي أنحاء العالم، وبقيت الحيوانات الثديية البدائية فيها متخلفة عن زميلاتها في الخارج مثل الكنجرو، وهو لا يبقى جنيناً في رحم أمه إلا زمناً قليلاً فأنها ليس لها من الأوعية الدموية ما تنقل به دمها إلى الجنين لتغذيته، لذلك تلده سريعاً وتلتقطه بفمها فتضعه في كيسها حيث يكون ثديها المنخفض في متناول فمه
بقيت الحيوانات الثديية في أوستراليا على ما هي عليه تقريباً ولكنها في أفريقيا صعدت درج الرقي وانتشرت انتشاراً عظيما متجهة في انتشارها صوب الشمال. فلما كثر عددها ساد بينها كفاح هائل من أجل الحياة وأخذت ذراريها تتطور في شتى الاتجاهات، فمنها ما أكل اللحم ومنها ما عمد إلى الهرب من الحيوانات المفترسة فاتخذ له ملجأ تحت سطح الأرض كالخلد والأرنب، ومنها ما أخذت أشواكه تنمو وتصلب كالقنفذ، ومنها ما بقي يعيش فوق الأشجار كالسنجاب، ومنها ما هبط إلى البحر كالحوت، ومنها ما اتخذ الليل معاشاً كالخفاش. وانتشرت فصيلة الحيوانات الحافرية في القارات الأربع مستعينة بقوتها وضخامتها أو بدروعها وأنيابها وقرونها أو بسرعة عَدْوِها وحدة حاسة الشم عندها
تطور الإنسان
تسلسل الإنسان من ذرية حيوان شبيه بالقرد، ولكن ليس من ذرية أحد القردة الموجودة في العصر الحاضر، وإنما تتصل القردة الحالية بالإنسان في أسلاف مشتركة وجدت من 3 أو 4 ملايين من السنين
أخذت الحيوانات الثديية البدائية ترتقي وتتطور في اتجاه القردة، وانتشرت القردة في القارات الأربع (أي في مختلف أنحاء الأرض باستثناء أوستراليا)، وذلك من نحو 10 ملايين من السنين، ثم تطور قسم منها إلى القردة الشبيهة بالإنسان، وهي أربعة فروع هبط ثلاثة منها إلى الأرض عندما بادت الغابات في بقعة من آسيا بسبب ارتفاع الأرض وجفاف الهواء على الأرجح. ومن المقرر أن ترك الأشجار والإقامة على ظهر الأرض مما يساعد كثيراً على الترقي والتقدم؛ فإن هذه المعيشة تقتضي الملاحظة الدائمة لاتقاء الأعداء واقتناص الغذاء، وقد أصبحت الساقان الخلفيتان تقومان أكثر فأكثر بحمل الجسم، وأصبحت اليدان تستعملان في إمساك الأشياء، وأثرت كل هذه التطورات على نمو المخ مدة 4 ملايين سنة
وقد عثروا في إنجلترا على جمجمة يرجع عصرها إلى 400 , 000 سنة. كما يدل على ذلك عمر الطبقة الأرضية التي وجدت مطمورة فيها، وقد قدر الثقات أنها جمجمة إنسان منحط جداً من حيث الذكاء وقد استطاع العلماء بما عثروا عليه من الهياكل البشرية التي ترجع إلى عهد قديم جداً والأدوات الحجرية المتدرجة الرقي التي وجدوها إلى جوار تلك الهياكل - أن يكتبوا قصة الإنسان. وتتلخص في أن فرعا من متسلقات الأشجار بارح الأشجار وهبط إلى الأرض فارتقى فيها وأصبح يتخذ العصا سلاحا، ثم ارتقى وبدأ فيه العنصر الإنساني حين بدأ يقرع صوانة بأخرى ليكسب إحداهما سناً حاداً مشحوذاً
كان الإنسان في أقدم عهوده يعيش في جو دافئ بغير نار وملبس ومنزل، ثم حلت خمسة عصور جليدية تتخللها فترات دافئة، واضطر سكان أوربة قبل التاريخ في المرة الرابعة إلى سكنى الكهوف، ثم شرعوا يرتدون الجلود وتعلموا أن يشعلوا النار بالصوان. وعندما انقضى ذلك العصر الجليدي كانت قد ظهرت في أوربا بشرية من طراز جديد، فبدأ التطور الاجتماعي واضطرت الأسر إلى المعيشة معا، وسرت في الكهوف لغة غير ناضجة.
وعادت طبقة الجليد تكسو أوربا فعبر القوم الجسور الأرضية إلى شمال إفريقيا وآسيا الصغرى، وكان السكان أكثف ما يكونون بين الخليج الفارسي ومصر، وكانت وديان النيل والدجلة والفرات قد تكونت حديثاً بفضل هذه الأنهار، واحتدم الكفاح بين القبائل والعشائر من أجل هذه الوديان وطلعت من هذا الكفاح أولى المدنيات.
عصام الدين حفني ناصف