انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 289/استطلاع صحفي (ريبورتاج)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 289/استطلاع صحفي (ريبورتاج)

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 01 - 1939



20 سنة في مكافحة البلهارسيا

مرض تضخم الطحال

في مصر علماء وأطباء يقفون جهودهم سنين طويلة على تحقيق نظرية أو اكتشاف ظاهرة. وهذه قصة طبيب سلخ عشرين عاماً من حياته ليخفف عن الفلاح آلام المرض ويقي الأمة عوامل الضعف والانحلال

وهم يعيشون للناس أكثر مما يعيشون لأنفسهم حتى ليفضلون ملازمة مريض أو الاشتغال في معمل على الظهور في المجتمعات. ولذلك رأينا أن نتصل بهذه الفئة من الباحثين فنكشف عن جهودهم ونطلع الناس على أخبارهم لعلنا نوفي العاملين قدرهم.

في الوجه البحري حيث تكثر المستنقعات، وحيث وسائل صرف المياه مازالت على أسوأ طرقها تنتشر البلهارسيا بين الفلاحين فتنزف دماءهم، ولا تقف عند هذا الحد بل تسبب لهم مرض تضخم الطحال فتكبر بطون الرجال والسيدات وما هم بحبالى، إذ يحمل مرضهم طحالاً متضخما يزيد وزنه على وزن طفل في ستة أشهر. فيبلغ وزن الطحال خمسة كيلو جرامات مع أن وزنه العادي يتراوح بين 170 و 200 جرام تقريباً أي أن المريض يحمل ما زنته خمسة وعشرون طحالا

ظل هذا المرض معضلة الطب المصري حتى سنة 1929 إذ تمكن الدكتور أنيس أنسي بك مدير معامل الصحة من اكتشاف سببه، ثم قدم بحثه للهيئات الطبية العالمية فنال موافقتها، وأخيراً سجله في (بورصة الأبحاث الطبية) الجمعية الملكية البريطانية لطب المناطق الحارة في 25 أبريل الماضي

ويتضخم الطحال لأسباب عدة، منها الإصابة بحمى الملاريا أو بالتغيرات اللمفاوية العامة؛ وفي هذه الحالات يسهل تشخيص الداء بالطرق الفنية والميكروسكوبية كفحص الدم مثلاً، إلا أنه في حالة الإصابة بالبلهارسيا تضيع كل الدلائل ولا يظهر بالطحال أي خلل أو عيب، فيرى الطبيب أن مريضه سليم الجسم، وأن كل عضو يؤدي وظيفته بانتظام إذا استثنينا كبر الطحال مما يضني الجسم ويرهق العضلات فلا يجد الطبيب مفراً من استئصاله ليخلص المريض المسكين من حمله الثقيل، ولا يخفى ما يتعرض له المريض من المضاعفات الخطيرة أثناء إجراء عملية كبيرة كهذه. أضف إلى ما يصيب الجسم من عوارض سيئة تنتاب الحيوان والإنسان بعد مضي وقت من استئصال مثل هذا العضو المهم

أهمية الطحال

والطحال هو (بوليس) الجسم لأنه ينقي الدم من الأجسام الغريبة ويقتل الميكروبات الضارة، فهو مخزن كرات الدم البيضاء والخلايا الأكولة، وهو يمد الجسم بالعناصر الدفاعية العديدة التي مازال منشؤها غامضاً على الطب. فاستئصال الطحال إذن يعرض حياة الشخص للأمراض المختلفة، ويجعل حياته قصيرة الأجل إذ يفقد الجسم القدرة على مقاومة الأمراض

وعز على الأطباء أن يقفوا حيارى أمام تلك المعضلة التي اختصت بها مصر من دون بلاد العالم. وأثار فضولهم أن يروا مرضاً خطيراً لا يدركون من أمره شيئاً، بل إن كل ظواهره هي ظواهر الحالة العادية للطحال فلا يوجد به علامات تسبب ذلك التضخم

تضاربت الظنون والفروض، وقدر الأطباء ما شاءت لهم نظرياتهم ثم أخرجوا فروضهم إلى حيز العمل ولكن المرض ظل على حاله. وزاد حيرة الباحثين كثرة المرض وظهوره الفجائي، ففي كل عشر إصابات بالتضخم أمكن الطبيب أن يعرف سبب ثلاث حالات أو أربع ويعزوها إلى حمى الملاريا أو الكلازار أو الأورام وفي باقي الحالات كان يقف أمام سر مغلق

وازدادت حيرة الأطباء عندما لاحظوا ظهور التضخم فجأة، إذ كان المرضى يؤكدون أنهم كانوا بصحة جيدة منذ شهور قليلة مع أن حالات التضخم التي يعرفها الطب تحتاج إلى سنوات. وكذلك لاحظ الأطباء أن أكثر حالات التضخم المجهولة كانت كثيرة في الوجه البحري فتبلغ نسبتها 30 إلى 1 في الوجه القبلي. وعندئذ جزم الدكتور أنيس بأن (هناك حالة مرض مصري عضال غير معروف سببها، كثيرة الانتشار في مصر السفلى)

الحلقة المفقودة

بدأ الدكتور أبحاثه في سنة 1908 وكان وقتئذ مساعد أستاذ في القصر العيني حيث راقب حالات التضخم وحاول أن يعالجها. ولكنه لاحظ أن كل الحالات التي ترد إلى المستشفى حالات مزمنة وصل فيها تضخم الطحال إلى حد أرغم المريض على الرقاد فأيقن أن إحدى حلقات المرض مفقودة ولم يطلع عليها الطب. وبعد تفكير طويل تيقن بأن هذه الحلقة المفقودة هي بدء المرض أو حالاته الحادة

فإن فلاحينا من الفقر لا يستسلمون للمرض إلا إذا ثقلت وطأته على أجسامهم فلم تحتمل شدته. فإذا أضفنا إلى هذا أن وظيفة الطحال هي الفتك بالميكروبات والأجسام الغريبة ثم التهامها سهل على الطبيب أن يستنتج أن ميكروب المرض من الضعف بحيث يفتك به الطحال أولاً بأول. واحتاج هذا الفرض العلمي إلى تحقيق يتناول المرض في حالاته الحادة أو الحديثة التي لا يهتم بأمرها الفلاح. وعندئذ ظهرت مهمة الطبيب شاقة، لأن هذه الحالات ليست في المستشفى ولا عند الأطباء، بل هي هناك في القرى وداخل الأكواخ

وذهب الدكتور أنيس في طلب الفلاحين، فزار مرضاهم في بيوتهم وما كاد يبدأ بحثه حتى اشتد عجبه إذ وجد 80 في المائة من شبان الفلاحين وأطفالهم مصابين بهذا المرض العجيب ولكن تباشير النجاح أيضاً بدت. فهاهي ذي ظواهر ديدان البلهارسيا. وهاهو ذا أثر الصراع بين محتويات الطحال وبين تلك البويضات. فهل ديدان البلهارسيا هي السبب؟

لنجيب على هذا السؤال بنعم يجب أن نجد بويضة البلهارسيا نفسها. وهذه إن وجدت فلن يسهل العثور عليها إلا في طحال الأطفال أو في حالات المرض الأولى أو الحادة. فإن طحال الطفل أضعف من أن يهضم هذه الدودة الخطيرة وبويضتها؛ وبهذا وضع الدكتور يده على مفتاح المرض وبقي عليه أن يكشفه فيصور البويضة في الطحال كما يجب عليه أن يلقح الطحال بديدان البلهارسيا ويرى النتيجة

واستحضر لذلك قردة خاصة عرفت بإصابتها بهذا النوع من المرض وهي تجلب من جزر الهند الغربية. وأجرى تجاربه مدة طويلة احتاج أثناءها إلى أكثر من 200 قرد. واستعان بالأرانب فكان له منها ضحايا في كل يوم

معركة حربية

ونجحت التجارب فثبت الغرض. ويقول الدكتور في تعليل تضخم الطحال (إنه عندما تغزو بويضات البلهارسيا لب الطحال تحدث به التهابا حادا سريعا تعقبه على عجل استعدادات وترتيبات لازمة تبتدئ بعمليات التجاذب بين مواد الطحال والجسم الغريب ثم بتعادل وتخفيف المواد السامة القابلة للذوبان. وتعقب ذلك عملية الهضم التي تقوم بها الخلايا الأكولة المتحركة التي تقطن اللب الأحمر)

وتتحفز تلك الخلايا للقيام بعمل سريع؛ فتتجمع حول البويضات النازحة في صفوف متراصة مكونة بذلك خطوط الدفاع التي تعقبها على عجل عملية الخمائر لتوقف فعل المواد الغريبة السامة التي تفرزها البويضات في تلك الدائرة الضيقة. ثم تهجم الخلايا الأكولة على غلاف البويضات فتذيبه إلى مادتها فتلتهمها وإلى ما تخلف بعد ذلك فتبتلعه فتقي الجسم شر تلك السموم)

فإذا تمت هذه العملية التصقت كل خلية بجارتها مكونة سدا منيعا يحول دون تسرب أية مادة سامة إلى النسيج السليم ثم تبتدئ (الخلايا) في توالدها وتكاثرها فتتحول إلى خلايا ذات نواة وهكذا يكبر الطحال تبعا لتوالد الخلايا وتكاثرها أثناء صراعها مع ديدان البلهارسيا وبويضاتها)

مرض متوطن

وأيد الطبيب في إثبات رأيه ما رآه من انتشار قواقع البلهارسيا في الوجه البحري، فإن انخفاض ذلك الإقليم ورداءة طرق الصرف فيه جعلته موطن المياه الراكدة وبالتالي معمل تفريغ الميكروبات والديدان وأهمها البلهارسيا والإنكلستوما.

(ويعتبر مرض تضخم الطحال متوطناً في كل بقاع مصر، وينتشر بكثرة كما تشتد عوارضه وتكثر مضاعفاته بالمناطق المنخفضة بشمال الدلتا حيث تكثر المصارف والترع ويكثر تبعا لها توالد القواقع طول فصول السنة بخلاف ما نشاهده في الوجه القبلي حيث ري الحياض مازال باقياً فتقل بذلك نسبة العدوى قليلا. وبالرغم من وفرة وجود القواقع أثناء الفيضان فأنها لا تلبث أن تموت متى جفت الأرض وانخفض مستوى الماء)

وتظهر الأعراض المبدئية للمرض عقب العدوى بالسركاريا وتظهر مصحوبة بتوعك المزاج وباضطرابات في الجهاز البولي والجهاز المعوي وتظهر البويضات في البول والبراز ويصل تضخم الطحال في هذا الدور إلى أسفل الضلوع بنحو قيراطين. وينشأ نتيجة تفاعلات بلب الطحال أحدثتها إصابته حديثاً ببويضات البلهارسيا فإذا كانت البويضات قليلة وأتيح للمريض فرصة العلاج تمكن نسيج الطحال الزاخر بخلاياه الأكولة من هضمها وإزالتها فتزول عوارض المرض. أما إذا استمر تعرض الإنسان للعدوى فإن الطحال يتضخم بتكاثر خلاياه بجميع أنواعها حتى تصل إلى سرة البطن، أو يمتد إلى حافة الحوض، ويستمر على هذه الزيادة حتى تتاح للمريض فرصة العلاج أو ينتقل إلى مكان لا توجد به قواقع. فيضمر الطحال ويصاب بتليف عام، وتضخم في محفظته وعوارضه، وتتحول الألياف المرنة إلى نسيج ضام، لكن الخلايا السليمة منه تستمر على أداء عملها بالدفاع عن الجسم من غزو الأمراض والحميات وغيرها

ويحافظ الطحال على هذا الحجم رغم انتهاء دورة الإصابة، وخلو البول والبراز من بويضات البلهارسيا، وفي هذه الحالة يلقب بالطحال المتوطن، ومن هذا يتبين أن تضخم الطحال يمكن أن يزول في حالات المرض الأولى. أما إذا أزمن وطالت مدته ونشأ التليف بين أنسجته وخلاياه فإن تضخمه يلازم المريض، وقد ينقص حجمه قليلا بالعلاج أو بالانتقال من مراكز العدوى ولكنه لا يعود إلى حجمه الطبيعي

فوزي جيد الشتوي