مجلة الرسالة/العدد 286/مدام كوري
مجلة الرسالة/العدد 286/مدام كوري
للدكتور محمد محمود غالي
مدام كوري مكتشفة الراديوم التي ارتفعت إلى مقام نيوتن
ودريكات وباستور، أستاذة السوريون وحائزة جائزة نوبل
للطبيعة سنة 1903 وجائزة نوبل للكيمياء سنة 1911
إن الذين يعجبون في قرارة نفوسهم إعجاباً علمياً بالراديو والتليفزيون وغيرهما ويشعرون بالدور الذي ينبغي أن تلعبه مصر والبلاد الشرقية لاستكمال الانتصارات العلمية لتقدم الإنسان يهتمون ولاشك بمعرفة أخبار المعامل العلمية، فتلك الهياكل المقدسة كما يسميها باستور، هي التي يجب أن نحميها أكثر من حمايتنا لأنفسنا، إذ فيها تنمو الإنسانية وتقوى ويزدهر التنسيق العالمي، بينما الإنسان في خارجها ينساق أحياناً لأعمال بربرية وتحمس أحمق لتحطيم نفسه وتحطيم البشر
وإنه ليحلو لي في هذه الأيام التي يهتم العالم فيها بالتسلح والتسابق للتهلكة، في هذا العهد الذي يقف فيه كل عمل إيجابي لننساق إلى ما هو سلبي، يحلو لي أن أحدث القراء في أحب سير المعامل العلمية، فأحدثكم عن مدام كيري واكتشافها للراديوم: قصة وإن لم تكن قصة اليوم، وعمل وإن لم يكن وليد هذه الساعة، إلا أنها ليست بالقصة التي ننساها مع الزمن، ولا بالعمل العادي الذي يمر ككل عمل
إن عمل كيري للنجاح لا يقف عند حد، فقد كنا أمام مادة جديدة في طبيعتها وخواصها، بل كنا أمام نشاط إشعاعي حراري كهربائي، بل كنا أمام تكوين جديد للهيليوم وتحول للعناصر وتغيير فجائي في المادة، فلا عنصر بالمعني الذي كنا نفهمه، ولا ذرة غير قابلة للتجزئة، إذ في كل ثانية تمر تطرد جسيمات الراديوم ملايين من ذرات الهيليوم بقوة كبيرة. على أن بقايا هذا الانفجار هي ذرات غازية تتحول هي أيضاً إلى جسم إشعاعي آخر، ثم يتحول هذا من جديد، وهكذا سلسلة من الأعضاء كل عضو في أسرة سلالة آبائه الذين تحولوا إليه. فالبولونيوم من سلالة الراديوم، والراديوم من سلالة الأيرانيوم، وهذه الأجسام التي تتكون في كل لحظة تنعدم من جديد وفق قانون أزلي، وهكذا في المادة الصماء التي كن نعتقد جمودها نجد عالماً حافلاً بالمواليد والوفيات والحوادث والاصطدامات. فيه صورة للحياة وفيه طريق للموت
هذه الحقائق الأولى التي كانت نتيجة لاكتشاف الراديوم عظيمة إلى أقصى درجات العظم، فهي تظم فلسفة جديدة وتفكيراً جديداً وعلماً يختلف عن كل ما تقدمه، ونتائج تقلب ما ألفناه، حتى كان على الفلاسفة أن يبدءوا فلسفتهم من جديد، وعلى الطبيعيين أن يعيدوا في ضوء هذه الحقائق بناء العلم الحديث
ولا يمكن في مقال واحد أن نستعرض الانقلاب الذي حدث من جراء اكتشاف الراديوم في التفكير الطبيعي أو في الناحية الرياضية أو الجيولوجية. لقد كان له في هذه العلوم أثر كبير، وكان له في الناحية الطبية معجزة أخيرة فإن الراديوم يلعب دوراً في سعادة الإنسان. وعلى حد تعبير أيف كتابها عن والدتها: (قد تحالف الراديوم مع البشر ضد المرض خبيث هو السرطان)
وقد ذكرت في المحاضرة التي ألقيتها في كلية العلوم مساء الأربعاء 30 نوفمبر بمناسبة الذكرى الأربعينية لاكتشاف النشاط الإشعاعي النتائج الأولى لاكتشاف الراديوم وهي المحاضرة التي بسطتها في حديث في نفس المساء من محطة الإذاعة اللاسلكية، كما ذكرت في المحاضرة التي ألقيتها في يوم الأحد 27 نوفمبر سنة 1938 في كلية الطب وهي المحاضرة الرابعة في أسبوع السرطان النتائج الأولى لفالكوف وجيزل اللذين بينا ما للراديوم من التأثير الفسيولوجي. كما ذكرت علاقة هذه النتائج بالأبحاث التي قام بها بيير كيري الذي عرض ذراعه لفعل الراديوم، وذكرت دراسته الخاصة بأثر الراديوم في الحيوان واشتراك أطباء من أعلام الطب مثل بوشار وبالتازار اللذين اقتنعا من اللحظة الأولى في (تيرابي) جديدة سموها كيري تيرابي من اسم مدام كيري، كما نوهت بأعمال دولوس ودجريه وفيكام وغيرهم، وهم الذين كانوا أسبق الأطباء إلى استعمال الراديوم بنجاح في الأغراض الطبية)
وهكذا لم يصبح الراديوم موضوعاً خاصاً بالعلوم البحتة والعلوم التجريبية فقط بل أصبح مادة لازمة ونافعة، وهكذا لم ينشأ علم جديد فحسب بل نشأت صناعة جديدة أيضاً
ولنبدأ الآن في سرد الوقائع التي أدت إلى اكتشاف الراديوم والنشاط الإشعاعي بعد أن اكتشف رنتجن أشعة عرض هنري بوانكاريه الرياضي الفرنسي المعروف بتكهناته العديدة في جلسة بالمجمع العلمي الفرنسي أول لوح فوتوغرافي أخذ بهذه الأشعة وفكر مع بكارل فيما إذا كانت هناك أشعة أخرى غير الأشعة السينية من نوعها يكون مصدرها الأجسام الفلورية أي الـ عند تعرضها للضوء
فامتحن هنري بكارل أملاح بعض المعادن النادرة (الايران) وبدل أن يقع على الظاهرة التي يتوقعها مع زميله بوانكاريه وجد ظاهرة أخرى تختلف عن الأولى كل الاختلاف. ذلك أن ملح الايرانيوم تنبعث منه دون تأثير سابق للضوء أشعة طبيعتها غير معروفة. ومما يجدر بالذكر أن تجارب بكارل كانت تنحصر في أن يعرض الايرانيوم لضوء الشمس ثم يضعه على اللوح الفوتغرافي ليرى أثر الإشعاع الذي اكتسبه من الشمس، وقد حدث أن الجو ظل قاتماً في باريز بطريق الصدفة ثلاثة أيام متتالية (يقول سودي في كتابه ثلاثة أسابيع) في وقت كان قد نسي فيه بكارل قطعة من الايرانيوم على لوح فوتوغرافي مغطي بورقة سوداء رغم عدم تعرض هذه القطعة لضوء الشمس. وقد تأكد بكارل أن هذه الخواص لا تتعلق بتعرض سابق للشمس، بل إن هذه الإشعاع يستمر مهما طالت المدة التي تحجز فيها قطعة من الايرانيوم في الظلام. وهكذا اكتشف بكارل في الواقع الظاهرة التي أسمتها مدام كيري فيما بعد بالنشاط الإشعاعي
وكانت ماري سكلودوفسكا (مدام كيري فيما بعد) قد انتهت من حصولها على ليسانس العلوم في السوربون بباريز وشرعت تبحث عن مكان للبحث في المعامل التي يريدها في ذلك الوقت الأستاذ لبمان والتي يديرها اليوم أستاذي الكبير كوتون رئيس المجمع العلمي الفرنسي، وكانت تتجه في ذلك الوقت إلى بحث الأمواج اللاسلكية، فلم تجد مكاناً لها بالعمل وكانت تطالع النشرات الأخيرة للمجمع العلمي الفرنسي علها تجد مبحثاً آخر لا يحتاج للأدوات العديدة التي يحتاجها الموضوع الأول (الذي كما ذكر (سودي) حضرت فيه درجة أستاذ في العلوم) وإنه ليسرني أن أسرد هذه الوقائع في مصر لأول مرة هذا الشهر وهي التي استقيتها من الأستاذ الكبير جييه أثناء إقامتي الطويلة بالسوربون. وما كان أسعد حظ العالم عندما طالعت مدام كيري نشرة بكارل الخاصة بإشعاع الأيرانيوم
لفليب فرانك أستاذ جامعة براج دراسة فلسفية في مناقشة الأسباب والمسببات وكتاب لاقينا صعوبة في دراسته، ولأميل بورل الوزير السابق وأستاذ السوربون دراسة هامة في موضوع الصدفة والاحتمالات. ولو أنهما في دراستهما للأسباب والمصادفات أرادا أن يجدا مثلاً أعلى يضربانه لحدوث المصادفة والمصادفة السعيدة للعالم، لاعتبرا الساعة التي طالعت فيها مدام كيري نشرة بكارل من الساعات السعيدة للعالم! ومن يدري فإن مركزنا العلمي اليوم وطريقة فهمنا للأشياء في العلوم الطبيعية، في نظرية الكم وغيرها، كان يتغير تغييراً كلياً، لو أن كيري لم تطالع هذه النشرة من نشرات المجمع العلمي
لقد شغلت أشعة بكارل ذهن مدام كيري: من أين هذا النشاط؟ وما هي طبيعته؟ هذا موضوع شائق للبحث. هذه تصلح رسالة تحضرها بعد أستاذية العلوم للحصول على دكتوراه الدولة في العلوم. هذه أرض عذراء للعمل والإنتاج، فأعمال بكارل حديثة لم يتعمق أحد في كل المعامل البحث في أوربا فيها، فلا كتب ولا نشرات علمية ولا مقدمات غير هذه النشرة الخالدة لبكارل التي تحمل سنة 1896 مولد الكثير من الأحياء منا
وهكذا احتوت مدام كيري حجرة خالية من وسائل التدفئة ليست بالسوربون بل بفناء مدرسة الطبيعة بشارع لوموند، ولا يهم المشتغل بالأبحاث العلمية في جامعة كبيرة كالسوربون سوى السماح له بمكان يعمل فيه، وعلى الذين يقصرون عنايتهم على المباني فينفقون عليها الأموال الطائلة أن يتذكروا أن المباني ليست كل شيء، فالجامعات لم تكن يوماً أعمدة وصالات ونواقيس وأبراج، إذ من تلك الحجرة المتواضعة خرجت أبحاث الراديوم للعالم منتصرة مؤذنة بعصر جديد، تلك الأبحاث التي استحقت عليها مدام كيري جائزة نوبل مرتين
وقد بدأت أعمالها بأن تقيس قوة إشعاع الأيرانيوم وتوصلت في المبدأ لقواعد عامة غاية في الأهمية، منها أن قوة الإشعاع تتناسب مع كمية الأيرانيوم وأن الإشعاع لا يتأثر بالتفاعل الكيميائي للأيرانيوم ولا بالعوامل الخارجية كالحرارة والضوء
يحدث كثيراً في العلوم التجريبية أن ظواهر لا تجد تفسيراً في المبدأ ويحار الباحث في تعليلها، ولكنه لا يلبث أن يجد التفسير في قوانين معروفة وسابقة فيقف التجديد في هذه الناحية عند هذا الحد. أما هذه الملاحظات الأولى وغيرها لمدام كيري فقد كانت على عكس ذلك، إذ ظهر لها أنها أمام ظواهر جديدة وأن أصل الإشعاع لابد وأن يكون خواص جوهرية للذرة نفسها
وقد تساءلت فيما إذا كان هناك أجسام أخرى لها هذه الخاصية من الإشعاع، فتركت مؤقتاً دراسة الأيرانيوم إلى دراسة كل الأجسام الكيميائية المعروفة، فوجدت أن لمركبات مادة أخرى اسمها (التوريوم) إشعاعاً له نفس القوة
وهكذا وجدت أن ظاهرة الإشعاع لم تكن خاصة بمادة دون الأخرى، لذلك سمتها النشاط الإشعاعي وسمت الأجسام التي لها هذه الخواص عناصر مشعة
ولقد كانت مدام كيري متعطشة للمعرفة لأقصى حد، وهي صفة من صفات العلماء، فبدل أن تحصر دراستها في المركبات البسيطة بدأت تفحص جميع العينات التي كان يختارها معها بيير كيري والموجودة بطريق الصدفة في مدرسة الطبيعة فتضعها الواحدة بعد الأخرى أمام الألكتروسكوب. وقد حصرت مجهودها في جميع العينات التي تحوي فقط الأيرانيوم أو التوريوم، وهنا كانت المفاجأة الكبرى والنتيجة غير المتوقعة فقد وجدت أن الإشعاع هذه المرة أقوى بكثير جداً من الإشعاع الذي تسببه نفس الكمية الموجودة من الأيرانيوم أو التوريوم في هذه العينات
وقد اعتقدت مدام كيري أن هذه المفاجأة قد تكون وليدة خطأ في سير التجارب نفسها، ومن عادة الباحثين أن يجعلوا الشك في العمل أولى دائماً من الاعتقاد بالوصول إلى شيء جديد، ولكن كيري أعادت هذه التجارب عشرات المرات دون أن يتغير الموقف، ولم يكن للعالمة سوى مخرج واحد وتفسير واحد هو ضرورة احتواء هذه المعادن على مادة أكثر إشعاعاً من الأيرانيوم والتوريوم. ولكن ما هي هذه المادة يا ترى، ونحن نعلم أن مدام كيري كانت قد قامت بتحليل كل العناصر الكيميائية؟
لقد أجابت مدام كيري على هذا السؤال بشيء من الثقة بالنفس، إجابة هي طابع كبار العلماء، فوضعت فرضاً جديداً ورأياً جريئاً، هو أن هذه المادة عنصر جديد غير العناصر التي نعرفها ورجحت وجود عنصرين لا عنصر واحد
هكذا اكتشفت مدام كيري وقرينها عنصري البولونيوم، نسبة إلى بولونيا موطنها الأصلي، ثم الراديوم الذي يزيد إشعاعه على مليون مرة بالنسبة لإشعاع الايرانيوم الذي اكشفه بكارل، وهكذا تمت الخطوات الخمس من اكتشاف الراديوم والنشاط الإشعاعي الخطوة الأولى: اكتشاف أشعة وملاحظة بونكاريه وبكارل
الخطوة الثانية: النشرة التي وقعها بكارل سنة 1896 عن اكتشاف خواص الايرانيوم
الخطوة الثالثة: النشرة التي وقعتها كيري بمفردها عن اكتشاف خواص التوريوم
الخطوة الرابعة: اكتشافها مع قرينها البولونيوم، على أثر ملاحظتها الشخصية عن زيادة الإشعاع في مركبات تحوي مواد مشعة إشعاعاً ضعيفاً
الخطوة الخامسة: اكتشافها مع بيير كيري وبمون الراديوم
وإذا ألقينا نظرة على ما نشر بعد اكتشاف بكارل ثبت لنا بلا جدال أن الدور الهام بين الثلاثة الذين تكاتفوا في الأيام الأولى لاكتشاف الراديوم كان لمدام كيري (ماري سكلودوفسكا في ذلك الوقت)، ولعل أعظم هذه الأيام ذلك اليوم التاريخي الذي دخلت فيه ماري معمل لبمان بالسوربون لتكتب نشرتها الخالدة للمجمع العلمي الفرنسي المؤرخة 12 أبريل سنة 1898، والتي بينت فيها زيادة الإشعاع في مادة بها ايرانيوم عن الأيرانيوم نفسه والتي استنتجت فيها العناصر الجديدة
ولقد انحصرت المسألة بعد ذلك في عمل مضن طويل لعزل هذين العنصرين البولونيوم والراديوم، حيث تطالع في النشرات الخاصة بوجودهما أسماء مدام كيري وبيير كيري وبيمون، وحيث نرى كلمة راديوم لأول مرة في نشرة وقعها الثلاثة معاً في 26 ديسمبر سنة 1898، وحيث نعلم أنه لتحضير أول ديسجرام من الراديوم قضت مدام كيري وقرينها أربعة أعوام في هذه الحجرة الخالية من وسائل التدفئة بل في هذه السقيفة المجهولة، وهي الكمية الأولى التي كانت لازمة لتواجه بها علماء الطبيعة والكيمياء والتي استطاعت أن تحسب بواسطتها الوزن الذري للمادة الجديدة التي وضعتها في جدول العناصر
ومما يجدر بالذكر أنه عندما قرر المجمع العلمي باستوكهولم إعطاء جائزة نوبل للطبيعة في نوفمبر سنة 1903 قرر منحها لبكارل ومدام كيري وبيير كيري
(للكلام بقية)
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون