مجلة الرسالة/العدد 286/رسالة من باريس

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 286/رسالة من باريس

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 12 - 1938



بعض الدكاترة الفخريين

الذين منحوا الدكتوراه الفخرية في فرنسا هذا العام

للباحث الأديب مصطفى زيور

- 3 -

العلامة تزنت جيورجي

لا يمكن أن تذكر مسألة الفيتامين دون أن يذكر اسم العلم البيولوجي والطبيب المجري تزنت جيورجي؛ فإذا علمنا أن مسألة الفيتامين كسبت في ثلاثة السنوات الأخيرة أهمية جديدة بما أحرزته البحوث فيها من تقدم كبير، وبما ألقته هذه البحوث من ضوء جديد على طائفة من أهم مسائل علم الحياة، فإننا نفهم كيف أن جائزتين من جوائز نوبل تمنحان هذا العام للعالمين هما تزنت جيورجي و (كارر) اللذان وقفا مجهوديهما على البحث في هذه المسألة، وكيف أنهما يفوزان في نفس العام بالدكتوراه الفخرية من باريس، بحيث يمكننا أن نقول إن عام 1938 هو عام الفيتامين.

ولكي نقدر مجهود هذين العالمين ونفهم خطورة أبحاثهما، أرى من الواجب أن أقدم لذلك بكلمة تاريخية قصيرة في مسألة الفيتامين، حتى يتبين كيف أن هذه المواد التي كانوا يصفونها منذ بضعة سنوات بأنها (غامضة) أو (خفية) أصبحت من الأشياء التي يحضرها الكيميائي في معمله بل يركبها تركيباً صناعياً من مواد بسيطة محاكياً في ذلك الوظائف الحية، ويضعها في أوعية يأخذها إلى الطبيب ليعالج بها مرضاه.

نشأت فكرة الفيتامين حوالي سنة 1912 على اثر ملاحظات وتجارب عديدة قام بها الأطباء من ناحية وعلماء وظائف الأعضاء من ناحية أخرى، أدت إلى فكرة وجود مواد طبيعية في الأغذية وظيفتها حفظ التوازن الحيوي ودرء أمراض معينة.

أما ملاحظات الأطباء فقد كانت في الأمراض الآتية:

(1) - مرض البري بري: (لفظ من أصل سنغالي معناه الضعف) وهو مرض منتشر في شرق آسيا ويظهر على أحد شكلين: شكل يتميز بالشلل وضمور العضلات، وشكل يتميز برشح المصل الدموي في الأنسجة فيحدث أوراماً مائية مصحوبة بأعراض خطيرة مختلفة لا تلبث أن تؤدي بالمريض إلى الموت.

(2) - مرض الاسخربوط (سكوربيك): كما سماه الهولنديون (لعلها من الألمانية القديمة ويسميه الفرنسيون والإنجليز ينتاب هذا المرض المعروف منذ أبقراط سكان المدن الواقعة تحت الحصار والنوتية الذين يقلعون في أسفار طويلة، أي كلما اقتصر غذاء الإنسان على الأطعمة المحفوظة لمدة طويلة. وتبدأ أعراضه بأورام وأوجاع في المفاصل ونزيف في اللثة لا يلبث أن يشمل باقي الأعضاء فيهزل الجسم ويدنو المريض شيئاً فشيئاً من نهاية محزنة.

(3) - مرض البلاجدا: مرض معروف في بعض أرياف مصر وفي جنوب أمريكا وبعض بقاع جنوب أوربا، يتميز بطفح جلدي خاص (ومن هنا جاء اسمه: من اللاتينية أي جلدو أي خشن) ثم باضطرابات في القناة الهضمية مصحوبة بالإسهال، وأخيراً بهزال شديد ثم باضطراب عصبياً وعقلية مصحوبة بالهذيان فالموت.

(4) - الكساح: وهو مرض ينتاب الأطفال فيضطرب نمو عظامهم وينتج عن ذلك اعوجاج في العمود الفقري والأطراف.

(5) - كرتومالاسي: وهو مرض في قرنية العين لدى الأطفال فلا تلبث أن يصيبها العطب وتصحبه قابلية شديدة للعدوى بالأمراض العفنة.

لم يغب عن الأطباء طويلاً أمر هذه الأمراض، فقد تبينوا منذ القرن السابع عشر أن مرض الاسخربوط يصيب من امتنع عن الخضروات والفواكه الطازجة، كما لاحظوا فيما بعد أن مرض البري بري يحل في الشعوب التي يتألف غذاؤها الرئيسي من الأرز المقشور (كما في الصين وفي اليابان)، وأن البلاجرا تنال من الجماعات التي تقتصر في غالب الأمر على الذرة (كما في بعض أرياف مصر ورومانيا وأسبانيا. الخ)، وأن الكساح يصيب من الأطفال من ساءت تغذيته وحرم ضوء الشمس. أما كرتومالاسي فينتاب من الأطفال من بودر بتغذيته غذاء قوامه دقيق الحبوب. وهكذا تبين لهم أن السبب في جميع هذه الأمراض يرجع إلى تغذية سيئة تقوم على نوع بعينه من الطعام، أو على طعام أحاله القشر وما إليه من العمليات الصناعية إلى غذاء ناقص، ومن ثم لم يكن من الصعب أن يجدوا العلاج لهذه الأمراض: أرز كامل بدلاً من الأرز المقشور ضد البري بري، والفواكه والخضروات الطازجة ضد الاسخربوط، وغذاء متنوع ضد البلاجرا، وضوء الشمس ضد الكساح، وأخيراً زيت سمك الحوت ضد هذا المرض وضد كرتومالاسي. ويلاحظ أن الأطباء كانوا يصفون زيت السمك دون أن يعرفوا فائدته في شفاء الكساح، كما يلاحظ أن بعض وسائل العلاج لهذه الأمراض، وقعت عليها الجماعات من تلقاء نفسها بمجرد التجربة اليومية، فقد كان سكان النرويج يعالجون من أصابه مرض الاسخربوط بشيء من عصير البرتقال. ومما يلفت النظر أن مقداراً تافهاً من هذا العصير - وهذه نقطة رئيسية في فهم طبيعة عمل الفيتامين - يكفي للوقاية من هذا المرض الخطر.

أما بحوث علماء وظائف الأعضاء التي قاموا بها مستقلين عن الأطباء وأدت إلى نفس النتيجة التي وصل إليها الأطباء، فقد كانت ترمي إلي دراسة غذاء الإنسان ودراسة كميتة وكيفيته لمعرفة المواد الغذائية اللازمة وحفظ توازنه الحيوي، وتحديد المقادير والصفات الكيميائية التي لا مندوحة عنها حتى يكون الغذاء كاملاً.

كان محصولنا في الكيمياء البيولوجية عند بدء هذه البحوث بحيث لم يلبث علماء وظائف الأعضاء أن تبينوا ضرورة ثلاث مواد عضوية رئيسية هي: البروتيد أي المواد الزلالية، والليبيد أي المواد الدهنية، والجلوسيد أي المواد النشوية السكرية، ثم بعض الأملاح المعدنية مثل كلورور الصوديوم أي ملح الطعام وأملاح الحديد والكلسيوم، وأخيراً مقدار من مواد غير قابلة للهضم مثل السليلوز لتنبيه الأمعاء على القيام بوظيفتها في الطرد. هذه هي المواد التي رأى علماء وظائف الأعضاء في بادئ الأمر ضرورة وجودها بمقادير خاصة في غذائنا حتى نحصل على حاجتنا من الطاقة من جهة وعلى المواد اللازمة لبناء أنسجتنا وإصلاح ما تفقده منها من جهة أخرى.

وطبقاً لمبدأ التحقيق التجريبي في البحث العلمي بادر علماء وظائف الأعضاء بتغذية بعض الحيوانات المستعملة في المعامل لهذا الغرض (مثل الفيران والأرانب وغيرها) بمقادير معينة من هذه المواد للتحقيق من قيمة النتائج التي أوصلتهم إليها البحوث الكيميائية السابقة. وإليك مثلين تاريخيين لهذه التجارب:

في سنة 1881 عمد (لونين) السويسري إلى فيران يغذيها باللبن فبقيت عدة أشهر في صحة جيدة، حتى إذا بدأ يغذيها بالمواد العضوية الرئيسية التي يتركب منها اللبن أي الكازبين وهو زلال اللبن ثم الزبد وهو مادته الدهنية ثم اللكتوز وهو سكر اللبن وأضاف إليها المواد المعدنية التي يحتوي عليها اللبن - رأى لونين هذا الغذاء لا يلبث أن يورث الفيران انحرافاً فتضطرب صحتها وتموت، والنتيجة المنطقية من هذه التجربة أن اللبن يحتوي على مواد لازمة للحياة غير المواد المعروفة إلى ذلك الوقت.

وهاهو ذا (هبكنز) الكيميائي الإنكليزي الكبير يقوم حوالي 1906 بتجربة مشابهة فيعمد إلى فيران يطعمها غذاء مكونا من المواد الآتية: زلال اللبن والسكر والنشا وشيء من دهن الخنزير وبعض المواد المعدنية، فلا تلبث هذه الفيران أن يقف نموها وتهزل، حتى إذا أضاف إلى غذائها ثلاثة سنتيمترات مكعبة من اللبن يومياً أي ما يساوي نصف ملعقة صغيرة تقريباً، فإنها تبل مما أصابها وتتقدم صحتها. ولكن هذا المقدار من اللبن لا يمكن أن يعتبر غذاء في ذاته لقلته؛ إذن النتيجة المنطقية من هذه التجربة أن الأغذية الطبيعية تحتوي زيادة على المواد الأربعة الرئيسية المعروفة (الزلاليات والدهنيات والنشويات والمعدنيات) على مقادير صغيرة من مادة طبيعية أخرى لازمة للحياة تقوم بوظيفة (العامل المساعد) في التغذية كما يقول هبكنز، أي كما يحدث في التفاعلات الكيميائية العادية كأن يضاف قليل من ثاني أكسيد المنجنيز إلى كلورات البوتاس حتى يساعدها على التفاعل واستخلاص الأكسجين الذي تحتوي عليه.

والآن يمكننا أن نتبين كيف نشأت فكرة الفيتامين على أثر ملاحظات الأطباء وتجارب علماء وظائف الأعضاء التي لم يكن بينها علاقة في بادئ الأمر. لاحظ طبيب هولندي كان يعمل في مستشفى الحكومة في جاوة حيث كان ينتشر مرض البري بري بين الأهالي، أن الفراخ الموجودة في فناء المستشفى والتي كانت تتغذى بالأرز المقشور - وهو الغذاء الرئيسي للأهالي - كان يبدو عليها أعراض مرض يشبه مرض البري بري. فما لبث أن نشأت لديه فكرة وجود علاقة بين الغذاء المكون من الأرز المقشور وبين ظهور أعراض هذا المرض، ومن ثم بادر بإعطاء هذه الفراخ (ردة) فشفيت مما أصابها. على أثر هذه التجربة عمد كيميائي بولوني يدعى فونك حوالي سنة 1912 إلى قشر الأرز يستخلص منه (العنصر) الفعال في شفاء البري بري، فنجح في استخلاص مادة فعالة، ولو أعطيت بمقادير صغيرة، ولما كانت هذه المادة تحتوي على وظيفة أمينية (وظيفة قلوية تحتوي على الآزوت ومنتشرة في المواد العضوية)، ثم لما كانت وظيفة هذه المادة حفظ التوازن الحيوي فقد دعاها فيتامين (فيتا اللاتينية أي حياة وأمين الخاصة الكيميائية) وهكذا وجدت كلمة جديدة في لغة العلم بل فكرة عامة جديدة لأن هذه الكلمة لم تلبث أن عمت وأطلقت على مختلف المواد العضوية الغذائية اللازمة بمقادير صغيرة لحفظ توازن الحياة.

ولكن العلم لا يدين للكيميائي فونك باكتشافه الكيميائي فحسب، بل إن هذا الاكتشاف على خطورته لم يكن نهائياً من الناحية الكيميائية، لأن المادة التي استخلصها لم تكن (العنصر) الفعال في شفاء البري بري ولكنها مادة تحتوي على ذلك العنصر كما تحتوي على عناصر أخرى استخلصت في حالة النقاء فيما بعد، ومن ثم لم يمكنه تحديد تركيبها الكيميائي. يدين العلم لفونك قبل كل شيء بإدراكه العلاقة بين ملاحظات الأطباء المبعثرة من جهة وتجارب علماء وظائف الأعضاء من جهة أخرى، كما يدين له بإدراكه خطورة اكتشافه وتعميم فكرته على مواد لم تكن بينها رابطة واضحة في بادئ الأمر.

ويمكننا الآن بعد هذه المقدمة أن نعرف الفيتامين: (بأنها مواد عضوية لازمة بمقادير صغيرة لنمو الجسم وحفظ توازنه الحيوي وقدرته على التناسل، مواد يجب أن يحتويها غذاؤنا (أو على الأقل يحتوي على المواد التي يمكن للجسم أن يؤلف منها حاجته) وإلا انحرفت الصحة ولحق الجسم أمراض معينة)

وهاهي ذي أنواع الفيتامين المختلفة التي استخلصت في حالة النقاء وتمت دراسة تكوينها الكيميائي بل ركبت تركيباً صناعياً من مواد بسيطة.

(1) فيتامين ا: (أو: أكسروفرول) وهو مادة لا تذوب إلا في المواد الدهنية مثل زيت السمك والزبد، وتوجد فوق ذلك في كثير من النباتات على شكل مادة يدعونها (كاروتين) نسبة إلى كاروت أي الجزر لأنها المادة الملونة للجزر) يحولها الجسم إلى فيتامين ا، وأهم هذه النباتات هي الجزر ثم السبانخ والطماطم والخس والذرة ثم كثير من النباتات الخضراء ذات الكلوروفيل (أي مادة النبات الخضراء) لأن الكاروتين يوجد عادة بجانبها وإن غلب لون الكلوروفيل لون الكاروتين. يقوم هذا الفيتامين بوظيفة العامل المساعد في النمو والوقاية من الأمراض العفنة ومن مرض يصيب قرنية العين يدعى كسروفتالمي (ومنه اسم الفيتامين ا: أكسيرفرول)

(2) فيتامين د: (أو: كالسفيرول) وهو مادة لا تذوب كالمادة السابقة إلا في المواد الدهنية، توجد في زيت السمك واللبن وصفار البيض ولا تكاد توجد في غير ذلك من الأطعمة، وظيفتها مساعدة عنصر الكلسيوم اللازم لبناء العظام على الاندماج في هذا البناء، فإذا ما خلا الغذاء من الفيتامين د وخاصة لدى الأطفال بقي الكالسيوم الذي نحصل عليه من المواد الغذائية دون أن يدخل في بناء العظام وطرد من الجسم في النهاية مع الإفرازات وتكون النتيجة أن يصيب الأطفال اضطراب في نمو عظامهم يورثهم الكساح.

(3) فيتامين هـ: (أو: توكوفيرول) وهو مادة لا تذوب كالمواد السابقة إلا في المواد الدهنية، توجد في بذور الحبوب وخاصة القمح ثم في الخس. ووظيفتها مساعدة القدرة على التناسل ويحدث عدمها عقماً في الذكر وفي الأنثى.

(4) فيتامين ج: (أو: حامض آسكوربيك) وهو مادة تذوب في الماء منتشرة في النباتات وعلى الأخص في الفواكه الطازجة مثل البرتقال والليمون والعنب والموز، وفي الخضروات مثل الطماطم والخس والإسباناخ والكرنب والفاصوليا الخضراء الخ ووظيفتها كما سأبين ذلك بالتفصيل مساعدة تفاعلات الاحتراق والاختزال في الأنسجة وينتج من عدمها مرض الاسخربوط. ويتميز هذا الفيتامين بشدة حساسيته للحرارة والتأكسد بأكسجين الهواء.

(5) فيتامين ب1: (أو: أنورين) وهو مادة تذوب في الماء لا توجد إلا بمقادير تافهة في بعض المواد الغذائية مثل بذور الحبوب وخميرة البيرة وبعض البقول وصفار البيض واللبن بعض الخضروات. وظيفتها مساعدة الأحماض الناتجة من اختمار النشويات أن يكتمل تحللها.

وينتج من عدم الفيتامين ب1 نقص في هذا التحلل فيصيب الأعصاب تسمم من هذه الأحماض يورث مرض البري بري.

(6) فيتامين ب2: (أو: لاكتوفلافين) وهو مادة ملونة تذوب في الماء منتشرة في الفصيلتين النباتية والحيوانية، وتوجد على الأخص في اللبن ومصل اللبن (السائل الذي ينفصل عن اللبن إذا تخثر) وظيفتها مساعدة تمثيل المواد النشوية، وتدخل هذه المادة في تكوين خميرة بيولوجية هامة تدعى الخميرة الصفراء أو خميرة التنفس وظيفتها مساعدة تفاعلات الاحتراق والاختزال في الأنسجة أي التنفس داخل الأنسجة كما يفعل فيتامين ج؛ وينتج من عدم فيتامين ب2 اضطراب في تمثيل المواد النشوية ولذلك يصفونها دواء في بعض حالات مرض السكر.

وهناك عدة أنواع أخرى من الفيتامين لم يعرف بعد تركيبها الكيميائي بالدقة وأهمها الفيتامين الواقي من البلاجرا ثم الفيتامين المدر للبن ثم الفيتامين الواقي من عطب يصيب جدار قنوات الدم الشعرية.

والآن بعد هذه المقدمة يمكننا أن نتناول بحوث تزنت جيورجي

(للكلام صلة)

مصطفى زيور