مجلة الرسالة/العدد 283/من مآسي الحياة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 283/من مآسي الحياة

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 12 - 1938


ليت للأوقاف عينا!

ليت للأوقاف عيناً تخترق الجُدُرَ وتشق الأستار فترى ماذا يصنع البؤس بأهله!! إنها وا أسفا تسمع ولا تبصر: تسمع ذلك البؤس الملحَّ الوقح الذي يغضب ويصخب ويثور، ثم يقتحم عليها الحجَّاب والأبواب ومعه فوق لسانه الملحف بطاقة من كبير أو وساطة من موظف. وهذا البؤس الذي يدع لأهله قوة السعي وبراعة الحيلة لا يكون في أكثر حالاته إلا طمعاً أو حرفة. أما ذلك البؤس الدفين الصامت الذي يستعين على ضحاياه بكبرياء نفوسهم فيسلبهم الحس والحركة، ويمنعهم الأنين والشكوى، فلا يراه إلا الله الذي فرض الزكاة، وأوجب الرحمة، وجعل على عباده خليفة منهم ينطق بلسانه، ويرى بعينه، ويحكم بأمره

إن في بعض الدور ومن وراء الستور ظلالاً من الحياة الغاربة على أمثال الخيال من بني آدم؛ تنسم أنفاسهم الضعيفة بما بقي من أرواحهم الخافتة في إسلام مؤمن واستسلام صابر. فإذا كشفتهم الحاجة للعيون حسبهم الجاهل أقوياء من الصبر، أغنياء من التجمل، حتى يستوفوا أجلهم المكتوب وتذهب بهم المنون وهم في وحدة الفقر، كما تذهب شمس الصحارى بأنداء الفجر

كان لنا جار مدرس في مدرسة شبرا الثانوية يجثم تحت جناحيه أربع بنات وثلاثة بنين وزوجة وأم، يقلبهم على ما يشتهون من لذاذات العيش الغرير، فيأكلون أكل السرف، ويلبسون لباس الترف، ويلهون لهو المجانة؛ حتى كانت غُرّف البيت من فيض النعيم ومرح العافية كأعشاش البلابل سالمتها الأحداث في جنة من الحُبّ والماء والشجر. ثم لحظتهم عين الدهر فأصيب الأب بمرض السكر؛ وعقر إصبعه الحذاء ذات يوم فأصابته قرحة ساعية. نقلوه إلى المستشفى القبطي فبتر الجراح رجله. وسعت عليه زوجه بالمال والأمل فلم تستطع أن ترد قضاء الله ولا أن تدفع عادى الموت. . . وانقلب المنزل الفرح المرح النشوان قبراً رهيباً يغشاه الحزن، ويجلله السواد، وتخيم عليه الوحشة. فلا زوار يقَدْمون الهدايا، ولا سمار يفدون بالأنس، ولا ولائم تشرق فيها النفوس والكؤوس كل جمعة

وبحثت الزوجة عما خلَّف الزوج الراحل فلم تجد غير ذلك المال الذي كان تحت يدها وقد أنفقته كله في العلاج والجنازة. ونجمت حول بيتها الحزين رموس الدائنين تندلع ألسنته بالمطالبة الفاضحة. ففزعت إلى وزارة المعارف تسألها أن تسرع في أداء ما لدى زوجها من الحق؛ فأعطتها بعد لأي مكافئتها على السنين السبع التي قضاها في مدارسها. فقد كان من قبل مدرساً بأحد مجالس المديريات، فلم يجتمع له الزمن القانوني لاستحقاق ورثته جزءاً من المال على سبيل المعاش. وذهب الغرماء بالمكافأة، وبقيت الزوجة وحماتها وبنوها السبعة في غشية الهم وصدمة الواقع، يتلمسون نفساً من الكرب أو شعاعاً من الرجاء يطالعهم من قريب أو صديق فلم ينالوا. وتذكرت الأيم المسكينة أن زوجها كان يعلّم ابن وزير الزراعة فلاذت به تسأله أن يساعدها بجاهه على تربية أولادها في مدارس الوزارة، فتخلص منها بخمسة جنيهات ثم أغلق من دونها بابه

كان بين الزوجين ماتة قرابة؛ وكانت أسرتهما من الأسر الريفية التي ألوى بها الدهر المديل، فلم يبقى منها إلا عجائز وأيامى يعشن على معونة الأستاذ الفقيد، ثم موظف صعلوك في شركة سنجر لم تره الأرملة إلا يوم الجنازة. وقد حملها بغروره على أن تنفق خمسين جنيهاً على ليلة المأتم، لأن أقطاب التعليم وأعيان الأدب لا يمشون إلا على الطنافس الفارسية، ولا يجلسون إلا على الكراسي الذهبية!

وكان للفتاة الكبرى خاطب غني من أصحاب أبيها، فلما وقف على حال الأسرة بعد كاسبها أنقطع خبره فكأنما غابا معاً في قبر واحد! وعجزت الأم عن دفع المصروفات المدرسية لبنيها وبناتها، فظلوا حولها في البيت يندبون الميت، ويبكون الحي، ويسدلون على مأساتهم الفاجعة ستاراً من الصمت والعزلة حذر الشامث. فما كان بابهم ينفتح إلا لتجار الأثاث القديم يخرجون منه بصفقة بعد صفقة من الفرش أو المتاع

ولبثوا على هذه الحال ستة أشهر لم يدفعوا عنها شيئاً من كراء المسكن للحاج محمود، حتى أدركته عليهم شفقة المؤمن، فنزل لهم عن الدَّين ونقلهم إلى غرفتين على سطح من سطوح منازله الكُثْر يسكنونها من غير أجرة

وتركنا حي شبرا منذ خمس سنين فلم نعد نعلم من حال هذه الأسرة المنكوبة شيئاً

وفي صباح أمس الأول كنت في ميدان باب الحديد، فتقدم إليّ صبي من باعة الصحف يحييني وهو يبتسم. فتفرسته فإذا هو إبراهيم أوسط الأخوة الثلاثة! فصحت به مستطار القلب من دهشة المفاجأة: - ماذا فعل الله بكم يا مسكين؟

- مرضت أمي بالروماتزم فلا تنهض، وعميت جدتي من الحزن فلا تسعى، وتزوجت أختي الكبرى من أحد السعاة فلم تصبر على عشرته غير ثمانية شهور. فهي تخيط بالأجرة، وأختي الوسطى تدبر المنزل، وأختاي فلانة وفلانة تخدمان، وأخواي فلان وفلان يعملان، أحدهما صبي كواء، والآخر خادم بقال، وأنا كما ترى. وكل ما نكسبه في اليوم لا يتجاوز ثمن الخبز!

ألا ليت شعري هل تقيم الحكومة في عهد الفاروق الصالح المصلح. الركن الخامس من الدين وهو الزكاة، فتتحقق به أخوة الاسلام، وتنجلي عن الناس هذه الآثام والآلام؟

أحمد حسن الزيات