مجلة الرسالة/العدد 283/القاهرة في العيد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 283/القاهرة في العيد

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 12 - 1938


للدكتور زكي مبارك

لم يبقى شك في أن القاهرة أجمل مدينة في الشرق، وقد تكون فيها خصائص لا تعرفها باريس ولا برلين. وترجع تلك الخصائص التي تفردت بها القاهرة إلى ما فيها من اختلاف الألوان والأذواق؛ فهي ملتقّى للحضارات الشرقية والغربية، ومجتمعٌ للصحيح والعليل من العقائد والمذاهب. فالمسلمون ألوان، والنصارى أشكال، واليهود أخياف. وفيها مع ذلك ناس لا يدينون بغير التهالك على مطالب الشهوات والحواس

والمدنيّة العنيفة هي ذلك. هي اصطراع الشك واليقين، والغيّ والرشد، والهدى والضلال: وليست المدنيّة أن يهتدي الناس جميعاً أو أن يضلوا جميعاً؛ وإنما المدنية في تعقيد المذاهب، واشتباك العقائد، وتناحر الأجناس. هي تلك الصورة التي توجب أن تقوم الحانة بجوار المسجد، وأن تدق أجراس الكنيسة بين المواخير، وأن تكون في الجامعات أركان يخلو فيها المقامرون، كالذي كنا نراه في أروقة السوربون

تلك هي المدنيّة. فلا تعجبوا إن رأيتم من رجال الدين من يلطخها بالسواد في الخطب والعظات، لأن رجال الدين لا يتمثلون سيادة الفضيلة إلا في مكانين: الجنة والصحراء

وإنما كانت الجنة مجالاً لسيادة الفضيلة لأن أهل الجنة أعفتهم المقادير من النضال في سبيل الأرزاق. والنضال في سبيل الأرزاق هو الأصل في خلق الضغائن والأحقاد وهو الذي بلبل أهواء العالمين فأغراهم بالقتال حول المذاهب الاقتصادية، والمسالك المعاشية.

ومن فضائل الجنة أنها ستبيح الناس جميع ما يشتهون من رغائب الحواس، وبذلك ينعدم القلق الذي يساور أصحاب القلوب والأذواق. ولعل هذا هو السر في خُلوِّ الجنة من الشعراء والكتاب والمفكرين، فما سمعنا أن الجنة ستكون فيها خطب أو قصائد أو مقالات أو مؤلفات، لأن هذه الفنون الأدبية ليست في الواقع إلا صورة من ثورة العواطف والأذواق والأحاسيس، وأهل الجنة أراحهم الله من هذا الجهاد

والبادية مجال لسيادة الفضيلة في رأي أهل الدين لأنها توحي إلى القلوب معاني الزهد والتصوف فينعدم الطمع أو يكاد، وبانعدام الطمع تزول أسباب الدس والكيد والزور والبهتان هنا القاهرة

أليس كذلك؟

بلى، وأنتم جميعاً تعرفون!

كنا نسمع في عهد الطفولة أن الشياطين تقَّيد في رمضان، ثم يحل وثاقها بعد ذلك

ولكن وزارة الأوقاف أو مشيخة الأزهر في مصر تعرف أن الشياطين تنجو من الأصفاد والأغلال في مكان واحد: هو القاهرة، ومن أجل ذلك يترك الوعاظ أعمالهم في الأقاليم التي قيدت فيها الشياطين ويفدون للوعظ في مساجد القاهرة التي لم تقيد فيها الشياطين

وإنما كان الأمر كذلك لأن القاهرة مدينة عظيمة جداً من الوجهة الاقتصادية. والعظمة الاقتصادية هي الأساس لجميع المشكلات، وهي مصدر الحروب، وهي مثابة الشياطين

وعند النظر في هذه الدقائق نعرف كيف فطنت وزارة الأوقاف إلى سَوق الوعاظ إلى القاهرة في أيام رمضان

ولكن هل شعرت الجمارك بأقوال الوعاظ في رمضان؟

وهل يسر الحكومة أن تشعر الجمارك بأقوال الوعاظ في رمضان؟

ليتني أملك حرية التعبير عما أريد أن أقول!

لو كنت أملك حرية التعبير لقلت: إن في مقدور الحكومة أن تراقب الجمارك في شهر رمضان، ولو فعلت لاستراح الوعاظ من محاربة الشياطين في رمضان

ولكن الحكومة لن تفعل، لأن هناك شيطاناً يصدها عن ذلك هو شيطان المدنية الذي يجعل حرية التجارة من الشرائع. وهذا الشيطان الأعظم هو الذي جعلنا نُزهَى ونختال كلما تذكرنا أن القاهرة أعظم مدينة في الشرق

أترك هذه الفلسفة وأشرع في كلام آخر قد ينفع بعض النفع

أنا أقضي العيد في القاهرة، وهي أول مرة أعرف فيها ملاعب القاهرة في العيد

فقد كنت في الأعوام السوالف أقضي العيد في سنتريس قبل أن يرزأني الدهر بموت أبي، ثم شاءت المقادير ألا أعرف العيد فيما عدا ذلك إلا في باريس وبغداد، فقد دخلت باريس أول مرة في يوم عيد، ثم خرجت منها بعد أداء امتحان الدكتوراه في يوم عيد، وأنا أواجه العيد في القاهرة بعد عيدين قضيتهما في بغداد. . .

فهل يكون عجيباً - وهذا حالي - أن أفرح بالقاهرة في العيد؟

أنا في عيد أيها الناس، فدعوني ألهو وألعب يوماً أو يومين!

هذا هو العيد، وتلك هي القاهرة

فاعذروني إن جننت وفتنت بالقاهرة في يوم عيد

لن أذهب إلى نادي المعارف في بغداد لأسأل عن رؤية الهلال، ولن أقضي مساء الشك بمنزلي في شارع الرشيد

وما الموجب لذلك؟ لقد صمنا رمضان ثلاثين يوماً ولم يبق إلا أن نواجه الباسمين والباسمات في شارع فؤاد

إي والله، هذا شارع فؤاد في ليلة عيد!

وهل ينتظر شارع فؤاد ليلة العيد؟

وهل رأى الناس في مشرق أو مغرب شارعاً مثل هذا الشارع في الحيوية والابتهاج والانشراح؟

إن شارع فؤاد لا ينتظر ليلة العيد، فجميع أيامه ولياليه مواسم وأعياد

وما ظن القارئ بشارع يشهد بأن القاهرة أجمل بقعة في الأرض وأنها طليعة الفردوس؟

ما ظن القارئ بشارع يتموَّج فيه الحُسن ويصطخب فيه الفُتُون؟

ما ظن القارئ بشارع يراه أصحاب الأذواق من المعارض الدولية للصباحة والملاحة والجمال؟

ما ظن القارئ بشارع هو الشاهد على أن القاهرة أصبحت أعظم مرجع من مراجع الشعر والخيال؟

وما عسى أن أقول في شارع كان ولا يزال أعظم مصدر من مصادر الوحي لشعراء وادي النيل؟

نحن في شارع فؤاد، وهذا مشربٌ كُتِب على بابه بأحرف من النور الوهاج:

رمضان ولَّى هاتها يا ساقي ... مشتاقةً تسعى إلى مشتاق

رمضانُ ولَّى؟ رمضانُ ولَّى؟

وهو كذلك! هاتها يا غلام!

وما أكاد أنطق بهذا اللحن الطرُوب حتى يدخل شيخ من أعلام رجال الدين فيقول: ما أتى بك ههنا يا دكتور!

فأجيب: أنا في ضيافة أبي حنيفة النعمان!

ويسارع الشيخ فيطلب كأساً من قهوة أبي الفضل لا قهوة أبي نؤاس

ويغلبني التجمل والتوقر فأطلب كأساً من قهوة أبي الفضل وأَصدف عن قهوة أبي نؤاس

وما هي إلا لحظة حتى نشتبك في جدال مزعج، ثم يتوافد أمثاله وأمثالي، فتتحول الحانة إلى حلقة من حلقات الأزهر الشريف، وينظر إلينا غلمان الحانة مبهوتين مذعورين

كيف تنقلب الحانة إلى مثل ما انقلبت إليه في ليلة العيد؟

وكيف أعود شيخاً متعجرفاً متغطرساً لا يعرف غير جدال الفقهاء؟

أيها الشيخ

صددت نفسي، صدَّ الله نفسك!

ولكن لا بأس، فتلك هي القاهرة التي يصطرع فيها الهدى والضلال؟

خرجت من الحانة مصدوع الرأس من قهوة أبي الفضل ومن الجدال حول الحرام والحلال، فأين أذهب؟

أين أذهب؟ أين أذهب؟

هذا صديق خفيف الروح، ولكنه أيضاً معمَّم وإن كان يحمل الطربوش، ذلك بأنه يحمل فوق قلبه عمامة أضخم من عمامة الشيخ الفَضّالي، وما رأيت الشيخ الفَضّالي ولكن عمامته سارت مسير الأمثال. وكان هذا الصديق معمَّم القلب لأنه يعايش رجال الدين بالأزهر الشريف

وأين أذهب في ليلة العيد مع هذا الصديق المطربش الرأس المعمم القلب؟

هل أردّه إلى مشارب القهوة والشاي في حي سيدنا الحسين؟

أغلب الظن أنه يتشهى السهر بسقط اللوى بين شارع الألفي وشارع إبراهيم!

رباه ما هذا الذي أسمع؟

لقد سمعت أشياء لم تكن تخطر في البال. فهل أستطيع أن أصرح؟ هل أستطيع أن أقول إن حي الأزهر صار قطعة من القاهرة تشتبك فيه نوازع الرشد والغي، والهدى والضلال؟

أنا أعرف أن الأماكن التي تصطبغ بالصيغة الدينية تنتفع من الاتسام بسمة الدين. ولكني أنكر أن يصل الجشع ببعض الناس إلى الوقوع في مهالك الانتفاع.

يجيء جماعة من جاوة أو من الهند أو من الصين للاستصباح بنور الأزهر الشريف فيحيط بهم ناس لا يؤذيهم أن يستغلوا سمعة الأزهر أسوأ استغلال

ولو كان هؤلاء المستغلون تجاراً لخف الأمر وهان. ولكنهم يتصلون بناس لهم في المعاهد الدينية مكان، ولهم مع رجال الدين صلات.

فهل يعرف هؤلاء الغافلون خطر ما يجنون على الأدب والوطنية حين يستبيحون (استغفال) بعض الوافدين على الأزهر من أهل جاوة والهند والصين؟

إن من حق الحي الأزهري أن ينتفع من صفته الدينية. ولكن من واجبه أن يراعي أصول الأدب والذوق فلا يفارقه زائر إلا وهو معمور القلب بأطيب الذكريات، فمن العيب أن نشوه سمعة الأزهر وسمعة مصر لنحصل على منافع خسيسة لا ينصب لها ميزان.

وقد آن لشيخ الأزهر أن يعرف أنه مسئول عن كرامة ذلك الحي، آن له أن يفكر في تنظيم هيئة خالية من المطامع تشرف على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية في الحي الأزهري، فأن لم يفعل فسيجني عواقب الإهمال بعد حين.

أيتها القاهرة

ماذا تُظهرينَ وماذا تُضمرين؟

اكشفي القناع قبل أن يمزقه القلم أقبح تمزيق

مضت ليلة العيد وجاء يوم العيد

الدنيا تموج بالمحاسن والمفاتن في كل أرجاء القاهرة، وكل مكان في القاهرة مباح إلا الحدائق

ولماذا؟ لأن النعيم بحدائق القاهرة مقصور على أطفال الملاجئ في يوم العيد

الحمد لله

(لا يزال في القاهرة مجال للطيبات) أما بعد فقد انقضت أيام العيد، وبقيتَ يا قلبي بلا عيد

أين أيامك يا قلبي وأين لياليك؟

وما حظك من هذه المدينة التي تموج بالسْحر والفتون؟

أكل حظك أن يطوف بك العقل حول هذه الأشواك؟

ليت عهدك بالغواية كان طال، وليت الأقدار رحمتك من ثورة العقل في هذه الأيام!

كتب عليك يا قلبي أن تعيش بين أدغال المدنية، حيث لا يحنو قلب على قلب، ولا يأنس روح بروح، ولا تأتلف نفس مع نفس، إلا بروابط وثيقة من أصول المنافع، وآه ثم آه من عصف المنافع بأهواء القلوب!

أتراني غدرت بك، أيها القلب؟

أحذر أن يمرّ هذا في وهمك، فما كنت إلا أكرم صاحب وأشرف صديق

وهل غدرتُ بأحد حتى أغدر بك؟

لقد عانيتُ في سبيلك ما عانيتُ فطوَّفتُ بالمهالك والمعاطب لأروى ظمأك المشبوب، ولأريك مطالع الأهلة في القاهرة والإسكندرية وباريس وبغداد

وما زلتُ أتلطف بك يا قلبي وأترفق، وهل صادقتُ من صادقت من كبار الكتاب والشعراء إلا لأزفْ إلى حِماك كرائم المعاني؟

ولكنك - مع فضلي عليك - تلقاني باللؤم في بعض الأحيان

وإلا فما هي حجتك في الهيام بعروس الزمالك؟

عرفتُ حجتك يا قلبي، أنت تريد أن تصدني عن الحتف الذي ينتظرني في البلد الذي أعرف وتعرف

أنت تريد أن تصدني عن (الحبيبة الوفية) التي ترسل بعض جدائلها المعطرة في كل خطاب ولم تظفر مني بجواب، شكر الله فضلها الجميل وعفا عني

عرفت حجتك يا قلبي، فأنت تريد أن تقول:

ويحسبُ نسوانٌ من الجهل أنني ... إذا جئتُ إياهن كنتُ أريدُ

فأقسم طرفي بينهن سَوَّيةً ... وفي الصدر بونٌ بينهن بعيدُ

أتريد أن تقول ذلك؟ وكيف وأنا أحب معك عروس الزمالك؟ أحبها من أجلك يا قلبي، وأحبها لأنها سمية الاسم الذي تعرف وأعرف

أحب التي هنا والتي هناك، وأطلع كما يطلع القمر بكل سماء، وأهيم هيام النسيم بجميع الحدائق والبساتين

ولكن متى نجيب صاحبة الجدائل المعطرة يا قلبي؟

حدثني متى نجيب، فقد يحملها اليأس على الصدود

أيها الجمال

تحدث ولا تقل غير الحق

هل عرفت قلباً أشرف من قلبي، وضميراً أطهر من ضميري؟

وأنت أيها الليل

هل عرف المحبون من أسرارك ما عرفتُ؟ وهل استصبحوا بظلامك كما استصبحت؟

(مصر الجديدة)

زكي مبارك